عضو مجلس الشؤون الخارجية الأميركي رجا صيداوي لـ«الشرق الأوسط»: الولايات المتحدة لا تعمل لإدارة العراق إنما لإدارة الفوضى في العراق

كيسنجر غيّر في مناخ مجلس الشؤون الخارجية فتحول من مؤثر بالسياسة إلى ممثل لمصالح معينة

TT

* القيادة السورية أدركت بسرعة أهمية ما حدث وتحركت

* نظرة الأميركيين للعرب عدائية نتيجة التأثير الذي يملكه العرب على الأميركيين بسبب النفط

* هناك تقصير عربي في فهم أميركا ولن تتحسن العلاقة إلا إذا سعى كل من الفريقين إلى معرفة الآخر

* السياسة الأميركية لا تهدف إلى إعادة رسم خريطة المنطقة إنما هناك تيارات داخلها تدفع بهذا الاتجاه

* رجا صيداوي، عضو مجلس الشؤون الخارجية في اميركا، اين تكمن الاشكالية الابرز في العلاقة العربية ـ الاميركية؟

ـ لم يكن العالم العربي او العالم الاسلامي موجوداً في الولايات المتحدة الاميركية والاهتمام بهذين العالمين كان ضئيلاً جداً. ثورة النفط فتحت آفاقاً جديدة وعرّفت الغرب على العالم العربي ومعالمه الجديدة كأهميته الاستراتيجية والنفطية. وهنا لا بد من توضيح امر بأن الغرب الاميركي ـ بالذات ـ ونحن نستعمل كلمة «غرب» استعمالاً تبسيطياً، إذ هناك «غربان»، الغرب الاميركي والغرب الاوروبي. الاوروبي نظرته مختلفة للعالم العربي كما طريقه تعاطيه مع هذا العالم، لانه على معرفة به نظراً للامتداد التاريخي مع العالم الاسلامي. فجزء من التاريخ الغربي ـ الاوروبي هو التاريخ العربي. أما في أميركا، فالتاريخ العربي خارج تماماً عن التاريخ الاميركي: والمعرفة معرفة كاريكاتورية من هوليوود وألف ليلة وليلة وروايات سندباد. مسألة النفط هي التي خلقت الى حد كبير رغبة في المعرفة، لكنها ظلت معرفة سلبية ملخصة بالنفط. وباتت نظرة الاميركيين للعرب عدائية نتيجة التأثير الذي يملكه العرب على الاميركيين بسبب النفط وتحولاته في حياة الفريقين. وهذه العدائية اخذت بالانتشار فيما غذتها الدوائر الاسرائيلية على نحو مستديم. وفي المقابل هناك تقصير عربي في فهم اميركا والقوى المؤثرة فيها. ولذلك لن تتحسن العلاقات الا اذا سعى كل من الفريقين الى معرفة الآخر اكثر، وخصوصاً اميركا. فالولايات المتحدة هي القوة الوحيدة في العالم العربي منذ العام 1973، منذ ذاك التاريخ هي صاحبة القرار. وبعد 1973 فرضت نفسها كقوة وحيدة. طرد السوفيات من مصر، كان طردهم من العالم العربي ككل والغاء دورهم ـ كما ساهم الصراع العربي ـ الاسرائيلي في تقريب العرب من السوفيات ووضعهم في موضع الحليف. رحلة طرد السوفيات من العالم العربي بدأت في عام 1972، لتنتهي بحرب افغانستان وسقوط الاتحاد السوفياتي. لكن سقوط السوفيات الذي ترك مضاعفات في مناطق كثيرة لم يؤد الى تأثير ايجابي على العلاقة العربية ـ الاميركية. المجتمع الاميركي مجتمع مفتوح وبابه مشرّع للكفاءات ولمن يحاول فهم اميركا. احدى مشاكلنا الاساسية ان قلة منا تفهم اميركا، نكرهها ولا نفهمها، ونحبّها ولا نفهمها. اليوم العالم كله يواجهها لكن نحن لدينا اشكالية خاصة ومستمرة معها بسبب اسرائيل.

للاوروبيين مشكلة ايضاً في فهم اميركا، لان طبيعة المجتمع الاميركي قامت على اسس مختلفة عن التي قامت عليها المجتمعات الاخرى. من هنا فالديمقراطية في الولايات المتحدة غير قابلة للتطبيق في اي بلد، الاميركيون يصرّون على تطبيق النموذج الديمقراطي الاميركي في معظم البلاد، لكن في واقع الامر ما من دولة اوروبية قادرة على اتباع هذا النموذج، لان كل الدول القديمة قامت من نقطة مركزية كبرت وتوسّعت. وبالتالي للديمقراطية نظام سياسي مستند على مركزية انطلق منها وتوسّع. اما المجتمع الاميركي فقائم على القرية والمدينة ليصل الى مركز، هي حالة منعكسة بين مركزين. من ناحية اخرى فقوّة اميركا نشأت بتصاعد من ارضية الى تجمعات لتصل الى مركز، هي حالة منعكسة بين مركزين.

من ناحية اخرى فقوّة اميركا نشأت على نحو معاكس. أي نمت الدولة في الاطراف والولايات ومن ثم التقت في وسط مركزي هي حالة قوى لا سابق لها. ونقطة الخلاف الاخرى هي ان اي قرار رئيسي يتوسل له الرئيس دعماً شعبياً قبل ان يتخذه. اما في العالم القديم، وبدءاً من «الحالة الصدامية» فالقرار لشخص واحد. وفي بريطانيا على الرغم من القرارات الهائلة الشعبية، الا ان القرار النهائي «يأتي من فوق». ولو كانت النسبة المعادية للحرب في بريطانيا هي عينها في اميركا اليوم، لما استطاع بوش الذهاب للحرب.

* ما الذي اوصلك الى عضوية مجلس الشؤون الخارجية؟

ـ بعد سن الاربعين، خصصت وقتاً للاهتمام بالامور الفكرية والشأن العام، تزامن ذلك مع انتقالي الى نيويورك. وهناك، دعيت للانضمام الى هذا المجلس. وما احبّ التنويه به، ان شرط العضوية عادة حيازة الجنسية الاميركية، الا انني شخصياً لا احملها والسبب كان نشاطات شركتي في اميركا. لكن اهتماماتي لا تنحصر في المجلس بل الى مؤسسات اخرى منها مركز ويلسن الخاص بالدراسات ومكتبة الكونغرس ومتحف غوغنهايم وبرنامج مجلس الشؤون الخارجية يعنى بالعالم الاكاديمي وهدفه توسيع الاهتمام بالشؤون الخارجية، انطلاقاً من شعور اميركا بكونها معزولة عن العالم.

* هل تعتقد بأن هناك «سايكس بيكو» جديدة للمنطقة وهل هي فعلاً «الحرب على العرب بدءاً من العراق»؟

ـ لا أعتقد ان هذه هي السياسة الاميركية نفسها. هناك تيارات داخل السياسة الاميركية تدفع بهذا الاتجاه، ليست السياسة الاميركية المنادية بإعادة تنظيم المنطقة. السيناريو الموجود في اذهان الاميركيين انهم ينقذون الشعب العراقي من صدّام حسين. الاميركيون يعتقدون انه من الممكن ان تشكّل المعارضة ـ من الخارج او من الداخل ـ اثر اسقاط النظام او هزيمته، حالة. وهم بذلك يحتذون بمثل افغانستان.

* صدام حسين الذي رفض التنحي... اختفى عن الانظار في التاسع من ابريل، حكي عن صفقة روسية ـ اميركية، كما حكي عن بقائه في العراق. هل تعتقد ان هناك فعلاً صفقة وان صدام فضل الرحيل بعدما شعر ان «السكين دنت من رقبته»؟ ويلاحظ ان هذه الصفقة تمت على نطاق ضيق لتشمله وافراد عائلته فقط... ما تعليقك؟

ـ تنتفي الامكانية والحيثيات لحصول صفقة. لا أعتقد بذلك. نساء عائلة صدام حسين خرجن من بداية الحرب الى سورية واليوم هن موجودات لدى قبائل شمّر في شمال العراق قرب تكريت. وشيخ قبيلة شمّر كان في اجتماعات مؤتمر بغداد. اقرب ترجيح ان يكون صدام ما زال حياً وما يؤكد ذلك جواب تومي فرانكس عندما سئل عنDNA ولو قتل لكان الاميركيون حاولوا العثور على الجثة. على الارجح ان صدام ما زال حياً وما زال موجوداً في العراق لان ليس لديه خيار خارج العراق وبالتالي ليس لديه خيار بعد هذا النظام. اما عن انتفاء امكانية الصفقة، فالصفقة تحدث عموماً عندما تدعو الحاجة الى ذلك وعندما يطلب طرف من الآخر التنازل. أما اميركا فحققت كل ما تريد دون الطلب من صدام التنازل عن شيء ما. اي ان مقومات الصفقة لم تكن متوفرة. من جهة اخرى، فالاميركيون لديهم مصلحة في سيطرة حالة الغموض ما يفسح المجال لتأليف مختلف القصص. وما احب التنويه به انه بحال تأكد الاميركيون من وفاة صدام فلن يترددوا في اخفاء الخبر. هناك قوة هائلة في اميركا، بالاضافة الى المؤسسات الاعلامية، تعملان على بث المعلومات والاشاعات. اي من خلال حالة الغموض يحققون غاياتهم، هم لا يكذبون وبالمقابل لا يقولون كل الحقيقة. الطريقة تشبه كثيراً تلك التي تعاملوا بها مع حالة بن لادن. بالتالي استعمال «شبح» صدام ـ ايا كانت الفوائد ـ (سواء عسكرية او سياسية) يدعم الاميركيين. وتجدر الاشارة الى اننا شاهدنا من هذه الحرب 10% فقط. شاهدنا ما يجب ان نشاهده واهم شيء لم نره. الاتناج الاعلامي كان هائلاً لمعرفة القدر المطلوب معرفته. وهذا جزء من حالة الحرب. اما الجزء الاساسي فينتمي الى الخيال العلمي. لسنا بعد مؤهلين لمعرفة الصورة على حقيقتها. ولن تتضح الصورة الا عندما يفتح الباب للاطلاع ويشرع المحللون بالتحليل.

* من الواضح ان العراق مقبل على فترة طويلة من الفتن والنزاعات. هل بإمكاننا ان نعتبر ان اميركا لم تجد بعد الاستراتيجية النهائية لـ«عراق ما بعد صدام»؟

ـ في رأيي، انه منذ البداية ما من استراتيجية واضحة لـ«عراق ما بعد صدام». هناك رغبات وتمنيات ومحاولات تجريبية. كل الذين اشتركوا في التحضير للحرب كانوا عناصر من الصف الثاني وليس قيادات سياسية انما عناصر تقوم بمهمات ادارية سياسية. من الواضح انه ليس لاميركا مشروع عراقي واضح. اميركا ذهبت الى الحرب وبذهنها ان تؤدي (هذه الحرب) الى فوضى تبدأ بالعراق وتعم خارج المنطقة. ومن خلال هذه الفوضى و«التجربة والخطأ» يخلق وضع جديد. هنا يطرح عدد من الاسباب المعلنة لكن طريقة التعامل والاهداف لوضع ما بعد الحرب ما زالت غير واضحة. اذ ان القوى التي دفعت الى هذه الحرب هدفت الى ادخال المنطقة بحالة من الفوضى العارمة. وهنا تطرح كمية من التساؤلات هل ان اطلاق كل المجرمين المساجين في بغداد والبصرة والموصل كان لتغطية امر آخر حصل. الصورة كانت مركزة على ما يجب ان نراه وقد جرى تعتيم كامل حول حقيقة ما جرى.. وقد يستمر ذلك لفترة طويلة.

* قبيل الحرب ذكرت لي، انه مهما قيل ان هذه الحرب ليست من اجل النفط... هي من اجل ذلك. وغداً سنرى ان اولى العمليات ستبدأ في الموصل وكركوك. هل ما زلت على رأيك؟

ـ موضوع النفط ليس موضوعاً يخص ويهم اسرائيل فقط، الامر اهم من ذلك بكثير. المهم لدى البريطانيين كان تأمين نفط الجنوب وكخطوة ثانية نفط الشمال. بمعزل عن موضوع خط انابيب حيفا ـ الذي برأيي هو موضوع سياسي ـ ويصعب الآن معرفة ابعاده. النفط العراقي حاجة للاقتصاد الاميركي وطبعاً العالمي. اليوم كما نلاحظ، جميعنا رأينا كل شيء عن العراق الا عن النفط. هذا هو الهدف الاساسي والدائم لهذه الحرب.

* والدليل حماية اميركا لوزارة النفط فقط؟

ـ طبعاً هذا من جملة الادلة. ترك كل شيء يحرق من ذاكرة العراق ومن تاريخ الحضارة الانسانية والاحوال المدنية، كما لو كان هناك مشروع لمحو كل شيء والبدء من جديد... يعني اعادة رسم وتكوين بلد. هذا المشروع ينتمي الى الخيال العلمي وايجاد اجوبة عليه يرتكز ايضاً على الخيال العلمي. يجب ان لا ننسى ان الخيال العلمي هو اساس تقدم التكنولوجيا، فالانسان تخيل القمر قبل وصوله اليه. الامر اشبه بحرب النجوم. مشروع مشابه وضع منذ الثمانينات لأجل مواجهة القوى الاعظم اي الاتحاد السوفياتي. هذا المخطط استعمل وبشكل مصغر ومكثف لحالة تسمى العراق.

* يعرف عن العراقيين انهم «شرسون» في وطنيتهم وقد بدأ الاميركيون بادراك هذا الامر، فهل سيكون ذلك مقياساً في اختيار القيادة العراقية العتيدة؟

ـ ما نزال في مرحلة التجربة والخطأ. ما يزال العمل الاميركي قائم على الحد الادنى من الاشياء. هناك قائمة مصالح والتركيز سينصب على اعمال في الشمال والجنوب. وأوضح انه لا توجد بعد صيغة نهائية بذهن المخطط الاميركي للمشروع العراقي. ونأتي الى موضوع النفط اي موضوع الشرعية. هناك اشكال ـ لا يزال قائما ـ ومعركة كبرى اساسية عن كيفية اضفاء قانونية ما على الوضع الحالي في العراق... يتم البحث عنها. ومن هنا يأتي الضغط على الاعضاء الدائمين في الامم المتحدة وعلى مجلس الامن للحصول على قانونية واعتراف بما جرى ضمن نظرية Deffecto. الاميركيون بحاجة الى قانونية الامر الواقع التي هي بدورها بحاجة الى اعتراف. اما في ما يتعلق بتركيبة العراق. فهم بالطبع درسوا تاريخ العراق. اليوم هناك تساؤل كبير هل ان كل العمل التحضيري وكل مؤسسات الدراسات (التي حضّرت للحرب) لم تجد لحد الآن ما هو المشروع للعراق. لعل لهم ايضاً مصلحة في بقاء الوضع غامضاً. لعل هذه الحالة هي المشروع وكلما طالت افادتهم لان الحاجة تدعو الى وجودهم وبحال عدم وجودهم ما من احد سيستطيع السيطرة على الوضع القائم. هم لا يعملون لادارة العراق انما لادارة الفوضى في العراق. وما دامت الفوضى قائمة والحاجة الى ادارتها موجودة اذن هناك حاجة لهم وتقبل للحالة الاحتلالية من المجتمع الدولي. هناك واقع جديد يستدعي تقبل الوجود الاميركي. احياناً نتساءل هل ان اصحاب الخطة الذين دفعوا الى هذه الحرب وصلوا الى حالة ان الوضع في الشرق الاوسط ككل لا علاج له الا ان تدخل هذه المنطقة في مرحلة من الفوضى.. تدار لايجاد اوضاع جديدة. هنا قد يكون العراق التجربة الاولى في المنطقة. لا اعني ولا اتوقع عملاً عسكرياً خارج العراق ولكن آثار الزلزال العراقي ستؤدي الى وضع قد يخلق مضاعفات في الشرق الاوسط والبلاد المحيطة.

* لكن بالمقابل اميركا عملية جداً «براغماتية» وتريد ان تعمل. هل من الممكن ان تستدرك بعد فترة انها بدأت بالغرق في الخراب وعليها ان تسارع للخلاص؟

ـ يجب ان ننتبه من المنطق الشائع والعقلانية الشائعة. لان كل هذه الاسئلة التي نتساءلها قد سبق وسألوها لانفسهم وتوصلوا الى نتائج نحن لا نعرفها... ولعدم معرفتنا نناقش الامور من منطلق وكأنهم لم يحضروا انفسهم. حصل تحضير لامور مختلفة عن تلك التي نعتبرها هي «السياسة الاميركية». نحن نعتبر ان الاستقرار مصلحة اميركية، قد لا يكون كذلك. قد تكون القوى التي دفعت باتجاه هذه الحرب لها مصلحة في اللااستقرار وفي ان تدخل المنطقة في حالة فوضى لايجاد ظروف قد تؤدي الى حالة فوضى شاملة وقد تصبح القوة العسكرية المجردة قوة منفردة. واليوم عندما ننظر الى القوى العسكرية الموجودة على الارض، نرى ان اهم قوتين هما القوة الاميركية والقوة الاسرائيلية. في حال الفوضى فإن هاتين القوتين يمكن ان يكون لهما مجال اوسع لتحقيق اهداف لعلها مشتركة. او لعل بعض القوى في اميركا تعتبرها اهدافاً مشتركة لايجاد ما يسمى «الشرق الاوسط الجديد». لان نظرية «الشرق الاوسط الجديد» أطلقها شيمعون بيريس. الصورة التي اطلقت بعد اوسلو سقطت. الآن هناك عمل لايجاد «شرق اوسط جديد» نحن لا ندركه بعد. لدينا شكوك لكن ليس لدينا معطيات كافية بعد لادراك ملامح وتضاريس هذه الحالة الجديدة التي يجب ان تولد من هذه الفوضى التي بدأت من العراق وقد تنتشر وتتوسع خارجه.

* هل تعتقد ان القيادة السورية تسعى لاستيعاب الضغوطات الأميركية من خلال تغييرات فعلية في بعض النواحي «المزعجة» للمسؤولين الأميركيين؟

ـ ان القيادة السورية ادركت بسرعة اهمية ما حدث وتحرّكت بسرعة لتحديد ما يمكن تحريكه وبالمقابل لتحييد ما هو ثابت ولا يمكن تحريكه. برأيي ردة الفعل السورية كانت سريعة وواعية، لا سيما في ما يتعلق بالاشكال مع العراق والعمل على اغلاق الحدود. اما في ما يتعلق الثوابت الاخرى، هناك من يتحدث عن مرونة، شخصياً لا ارى مرونة في بالثوابت. لعل هناك جهداً لإفهام الولايات المتحدة ان هذه الأمور غير قابلة للبحث، مع الاقناع «لماذا لا نستطيع التغيير».

* رجا صيداوي .. رحلة مثيرة من السياسة المحلية إلى

مهنة الصحافة إلى عالم النفط والمال فالسياسة الأميركية

* في السبعينات كان لك نشاط في مجال النفط.. هلا اخبرتنا عن هذه المرحلة؟ ومتى خرجت من العالم العربي؟

ـ كانت بيروت المركز والاعمال منتشرة بين السعودية والامارات العربية المتحدة واميركا واوروبا. واتخاذي قرار الانتقال كان شخصياً ولا علاقة له بالاعمال. وما احب التنويه به ان كل قرار اتخذته في حياتي كان قراراً شخصياً مجرداً وليس متعلّقاً بظروف او مشاريع. وانا اعتبر العمل حالة خارجية وليس المقرر الرئيسي. قرار الانتقال بدأ يتبلور بذهني عندما ادركت ان وجودي في الخارج سيتيح لي رؤية الصورة بشكل افضل وممارسة حياتي بشكل طبيعي.. لا سيما انه مع قصف المخيمات في لبنان كان من الواضح اننا مقبلون على مرحلة مليئة بالاضطرابات. في بداية 1975 انتقلت الى لندن كما ابقيت كل شيء قائماً في بيروت. البيت النفسي في بيروت والوجود الجسدي في لندن. في ذلك الحين حصلت الصدمة النفطية الاولى، وبالنسبة لشخص مثلي موجود في هذا الحقل، بالطبع فتحت هذه الفرصة امامه ظروفاً استثنائية.. لا سيّما ان الارضية متوفّرة وعنصر المعرفة موجود.

مجال النفط لا يتطلّب فقط استثمار اموال انما معرفة عميقة ودقيقة. وما احبّ التنويه به انه خلال هذه الفترة كان شريكي الرئيسي عدنان خاشقجي، وبالتفاهم انهينا هذه الشراكة وبقينا اصدقاء. وبما انني كنت اقوم بتجارة النفط والمشاريع النفطية في السعودية والامارات وجدت معادلة بأن ـ الشخص مثلي ـ الموجود في اوروبا والذي يقوم باعمال في الشرق الاوسط بامكانه ان يوظف ايضاً في اميركا ويستفيد.. فنفذت هذه المعادلة. فكان لدي اعمال ونشاطات مكثفة في اميركا.

* أنت وليد بيئة النشر والكتابة فالوالد كان يملك جريدة النصر في سورية.. ما الذي حطّ بك في عالم النفط؟

ـ عند قيام ثورة الثامن من مارس (اذار)، اغلقت الصحف بما فيها صحيفتنا «النصر» وبفعل الثورة قام نظام جديد وحل تغيير جذري طال كافة المرافق. وتسبب انتمائي للخط الذي قام بالثورة بخلاف سياسي مع والدي، وتأجج هذا الخلاف ايام معركة الانفصال. كما انني كنت اكتب مقالات في «النصر» تغضب والدي وأصدقاءه وحلفاء الخط المعادي للثورة. في ما بعد كنت احد مؤسسي جريدة «الثورة» (التي ما زالت مستمرة الى اليوم) وتوليت رئاسة قسم الاخبار. وبعد مدة وجيزة وجدت انه على الرغم من انتمائي لخط الثورة وصداقتي لقادته، الا ان هذا الانتماء يشكل حالة تناقضية ما بين تركيبتي الثقافية المائلة لليبرالية والديمقراطية وتوجهات هذا الخط. شعرت بأنني اقوم بشيء لا يمثل تماماً قناعاتي وبالمقابل لست ضده كلياً. فاستقلت من الجريدة وانتهت علاقتي بها وذهبت الى بيروت. وكان ذلك في عام 1963. ابرز حدث فتح عيني نحو عالم النفط، كان الازمة السورية ـ العراقية في العام 1966. للحظة شعرت ان هذا الموضوع كلنا جهلة فيه ـ وللاسف ـ لا نزال. فمسألة النفط والطاقة تسير حياتنا وتقررها ونستمد اهميتنا في العالم منها.. ونحن لا نعرف عنها شيئاً. اكتشفت اني شخص يزعم انه يتعاطى في الشأن العام واهم مفصل في الشأن العام هو جاهل فيه.

* يعني هذا ما دفعك الى تأسيس دار نشر للمطبوعات التي تعنى بالطاقة؟

ـ نعم. فعندما قررت الاهتمام بكل ما يخص عالم النفط والطاقة.. وجهني صديق حميم هو المرحوم ماجد العاص الذي كان نائب رئيس «أرامكو» لقراءة منشورات وكتب. فاكتشفت ان افضل طريقة للمعرفة هي النشر. فاصدرت في عام 1968 نشرة «عالم النفط»، كانت اسبوعية تجمع كل ما ينشر في العالم وتلخصه، واعتبر هذه الخطوة من اهم الاعمال التي قمت بها في حياتي، لانها جعلتني اتعمق بالنفط بشكل لم تؤمنه لي اية وسيلة اخرى. كنت رئيساً للتحرير ويساعدني مترجمان. والجدير ذكره انني اليوم اصدر 17 نشرة خاصة بالنفط والطاقة على الانترنت من بينها اول جريدة نفطية في العالم Oil Daily وتصدرها مجموعة Energy Intelligence Group وخلال سنتين ونتيجة المعرفة العميقة التي منحتني اياها مهنتي استطعت «استقراء» مستقبلي.

* لديك حس التكهن بشكل لافت اذ تقرأ المستقبل في كل شيء؟

ـ هي النزعة التحليلية. وجدت ان هناك تحولاً في ميزان القوى ما بين الشركات الكبرى ـ التي كانت تسمى بـ«الاخوات السبع» وهي المسيطرة على كل حقول النفط والغاز في العالم ـ والدول المنتجة التي كان دورها دور ثانوي جداً، اذ يقتصر على كونها دولة مضيفة تجني المداخيل من الشركات وتصرفها.

* قبل دار النشر، كنت ناشطاً في تجارة النفط واستحداث خطوط الانابيب وعملت خلال الفترة الذهبية.. هلا حدثتنا عن هذه المرحلة؟

ـ بعد مرور عشر سنوات على بداية اوبك ونزعة «نفط العرب للعرب»، ساد مناخ سياسي ملائم للعمل والانتاج يتجلى بالتحرر من الاجنبي واسترجاع المصادر الطبيعية. فأيقنت ان البيئة ملائمة لتأسيس شركة صغيرة تقوم هي باقتناص الفرص في هذه المرحلة حيث تنتقل السيطرة من الشركات الى الحكومات المنتجة. واسست الشركة وكانت الفكرة صحيحة، وما احب التنويه به انه خلال هذه الفترة (1970 ـ 1975) كانت الاسعار في صعود وهبوط مستمر، حدث احياناً اننا كنا نشتري كمية من النفط ونبيعها ـ وما زالت موجودة في البحر ـ بربح 10 دولارات على البرميل الواحد. الظروف حقاً كانت مساعدة. اليوم لم يعد من مجال لهكذا حالات. وقد قامت شركاتنا بعدد ضخم من المشاريع في مختلف المجالات النفطية من استكشاف وانتاج نفط ومد خطوط الانابيب.

* من اللافت انك وضعت حداً لهذا النشاط رغم كل هذا النجاح.. ما تجلى بتوقيفك لهذه الشركات للانتقال الى نشر المطبوعات عن الطاقة. هل اتى ذلك بعد ادراكك بأنك جنيت ثمرة تجارة النفط؟

ـ الى حد ما، الموقف وراء ذلك فلسفي. لم ادخل في اي اعمال انطلاقاً من فكرة الاعمال فقط، بل من منطلق الهم العام والتعاطي الفكري. واهتمامي بالنجاح في العمل يهدف الى تحقيق شيء واحد: الحرية الشخصية. وهذه الحرية لن يستطيع الانسان الحصول عليها الا اذا كان حراً اقتصادياً. هذا ابرز شرط ليكون الانسان حراً.. وبالتالي يطرح السؤال، ما الذي يمكن فعله بهذه الحرية اذا لم يكن مستمتعاً بحياته؟ يجب ان يمارس حريته ليفيد من حوله. شخصياً كنت مقرراً التقاعد في سن الاربعين. فعند هذه السن حصلت الصدمة النفطية الثانية.. وبالتالي اصبح ترك الفرص حينها نوعاً من الجنون. فقررت اعادة تعريف معنى التقاعد. اعتبرتها حالة يزاول خلالها الانسان ـ فقط ـ الاعمال التي يحبها ويتخلص من اي شيء يقوم به والحافز وراءه هو مجرد العمل او لتحقيق نجاح مالي على حساب المزاج او اسلوب العيش. منعت الحافز المالي من ان يوجهني او ان يدفعني الى القيام بتسويات، يقوم بها الانسان عادة في حياته، فقررت تخصيص جزء كبير من وقتي للامور البحت فكرية وثقافية فانخرطت في نشاطات ومؤسسات فكرية والعديد من مراكز الدراسات، كان همي ان اساعد بلا اي مردود مالي.

* الى جانب النزعة التحليلية الموجودة في شخصيتك، لا شك ان لديك فلسفة خاصة في الحياة.. ما تعليقك؟

ـ نعم. ارفض ان تصبح الآلية هي الغالبة وان افقد سيطرة الدفع الذاتي، اي بدل ان اكون صاحب القرار تصبح الآلية هي صاحبة القرار. اتفادى كل لحظة اكون فيها مسيراً من القرار وليس من نفسي. اعمل دائماً على مراقبة ذاتي لعدم الوقوع في حالة الاستمرارية التي تتغلب على القرار الذاتي. لم اسمح للاستمرارية ان تجرفني، لذلك اتخذت قرارات في حياتي ـ ليست صحيحة تماماً بالمعنى الاقتصادي ـ لكن صحيحة بالمعنى «الحياتي». لم استمر لمجرد الاستمرار، وهذا ما سألتني اياه سابقاً، لماذا اوقفت شركات في عز نجاحها. اهم شيء بالنسبة لي، ان اشعر انني انسان حر سيد قراراتي.. قبطان سفينتي، ارفض ان اكون جزءاً من وضع بدل من ان يكون هو جزءاً مني. برأيي ان لم يكن الانسان حراً ما من قيمة لكل الامور الاخرى.

* الى اي مدى ساهمت نشأتك في بيئة النشر والكتابة في فتح عيونك؟

ـ نعم ساهمت وبشكل كبير. والاهم من ذلك، اننا كنا نعيش كل حدث في البيت، وكأننا موجودون فيه. ازمة كوبا عشناها ليس فقط كمراقبين انما كنا جزءاً من هذه الحالة. بلا شك هذه البيئة تخلق حالة فضول فكري مستمر وشهوة للمعرفة ونزعة للتحليل المستمر. حينها تصبح قادراً على اخذ الوقائع واستنباط النتائج وتحليلها. والنقطة الثانية والمهمة ايضاً، انك لا تأخذ بما يأخذ به العامة.. أي الاتخاذ بالاسماء الكبيرة. مثلاً، في طفولتي كنت ارى رئيس الوزراء في بيتنا يفاوض والدي ما جعلني اتآلف مع هذه الشخصيات واعتاد هذا النوع من الحياة. حصل بمثابة انسنة للشخصيات الكبرى.

* في عام 1986 اسست دار نشر لمطبوعات تعنى بالطاقة، ألم تفكر بتأسيس مجلة او جريدة، لا سيما انك تملك الخبرة والامكانات خصوصاً بظل وجودك في الخارج في عز فورة الاعلام المهاجر؟

ـ كان هناك محاولة في عام 1977 عندما تشاركت وسليم اللوزي في «الحوادث».

لكن هذه الشراكة لم يكتب لها النجاح، فصفيناها وبقينا اصدقاء. من يعش في الغرب تتكون لديه قناعات وعادات ـ لا اعرف اذا كانت صحيحة ام لا ـ فتولد لديه نزعة ليكون نظامياً ودقيقاً اكثر. هذا ما جعلني كلما بدأت بمغازلة فكرة اصطدم بعواقب.

* اما زال هذا الحلم يدغدغك الى اليوم؟

ـ نعم، نتيجة بيئتي ونشأتي.

* رجا صيداوي نجحت في الغرب، هل النجاح هناك اسهل من النجاح في بلادنا؟ هل نحن متوهمون بأن العربي يحارب في الغرب؟

ـ ردة الفعل تجاه العربي في الغرب، هي نفسها حيال اي غريب في مجتمع. في بلادنا النجاح اسهل لان التحديات اقل. في الغرب المنافسة ضخمة جداً وتحقيق الانجازات ضمن هذه البيئة الصعبة يتطلب نمطية من الانضباط ودقة في العمل والحرص على السمعة. دائماً ابتعد عن اغراءات السهولة ولذة النجاح هي النجاح بظل شروط صارمة.

* تعتبر ان «بروفايلك» غربي اكثر مما هو شرقي؟

ـ اعتبر نفسي مواطناً عالمياً. عواطفي في منطقتنا ونشاطاتي وتحركاتي في العالم اجمع. العالم بيت كبير والانسان ينتقل من جناح الى جناح.

* تعزو نجاحك الى اوروبا واميركا اكثر من العالم العربي.. الى اي مدى تعتبر ان الغرب اعترف بنجاحك اكثر وانك معروف هناك اكثر مما في العالم العربي؟

ـ سؤال في غاية الاهمية، صحيح انني معروف في الغرب اكثر مما في العالم العربي.. لانني طوال حياتي تفاديت الظهور ـ لمجرد الظهور ـ والعلاقات العامة. طبيعة نشاطاتي في الغرب هي عبر مؤسسات ظاهرة مهمة ومعروفة بشخصها. لكن لا بد انني معروف في الشرق ايضاً، والدليل هذه المقابلة.

* اللافت في مسيرتك انك طوال حياتك المهنية لم يكن ظهورك عبر شخصك انما عبر مؤسساتك اذ نجدها معروفة اكثر منك. بمعنى نسمع كثيراً بالشركة ومن ثم نعرف ان رجا صيداوي وراءها وليس رجا صيداوي يملك كذا وكذا.. هل هدفت الى هذا الامر؟

ـ هذا كان هدفي، تفاديت الظهور الشخصي. مراراً ما كنت اشتري شركة واشترط ان لا يعلن عن شرائي لها، الابتعاد عن الاضواء قرار اتخذته منذ البداية.

* وهل هذا الوضع يريحك اكثر؟

ـ هذا الوضع يمنحني الحرية. برأيي ان الانسان يبحث عن الاضواء في حالتين: اما اذا كانت «الأنا» Ego لديه تتطلب تغذية او اذا كان هذا الظهور يفيده في نشاطاته. طبيعة اعمالي لم تكن تتطلب مني الظهور بشخصي.. من يريد ان يعرف من وراء هذه الاعمال يعرف بسهولة ومن لا يريد لا داعي ان يعرف. عموماً، في العالم العربي الظهور يفوق الانجازات.