محمد مزالي يعترف بـ«أكبر» أخطائه: لم أستقل رغم مؤامرات الحاشية

رئيس الحكومة التونسية الأسبق يكشف لـ«الشرق الأوسط» صفحات من مذكراته قبل إصدارها وتزييف انتخابات 1981 ومؤامرة الخبز * لأني كثير الكلام والخطابات ظن الناس أني الرئيس الفعلي لتونس * لم أفهم حتى الآن لماذا أمر بورقيبة بإعدامي شنقا

TT

بعد أشهر قليلة يصدر رئيس الحكومة التونسية الأسبق، محمد مزالي، مذكراته التي سماها «نصيبي من الحقيقة» والتي ستصدر باللغة الفرنسية في باريس. ومن المعروف أن مزالي تنقل في فترة الحكم البورقيبي لتونس الممتدة ما بين 1956و 1987 بين عدة مناصب شملت وزارتي التربية والصحة، وكرسي الوزير الأول الذي تمت إقالته منه في يوليو (تموز) 1986، وذلك مع قرار الحكم بإعدامه شنقا، وهو ما جعله يواجه مصيرا مختلفا لكل التوقعات المنتظرة آنذاك. ويقول مزالي انه بصدد إكمال كتابة مذكراته التي قطع فيها شوطا كبيرا، والتي ستعرض للكثير من كواليس العهد البورقيبي، وأحداث ربع قرن من السياسة كان خلالها فاعلا اساسيا، إضافة إلى أنه سيعترف بالأخطاء التي ارتكبها، ولن يدافع عن نفسه فيها، كما قال. في هذا الحوار الذي جرى مع مزالي في تونس حديث عن المذكرات التي سترى النور قريبا، ومحاولة لرصد بعض الذكريات والأسرار قبل أن تصبح كتابا منشورا متداولا. وفيما يلي نص الحوار.

* لو نتحدث عن مشروع كتابة «المذكرات» التي ستصدر بعد أشهر قليلة، ما هي أهم المحطات التي ستتوقف عندها؟

ـ ما دفعني دفعا إلى تحرير هذه المذكرات وأنا في خريف العمر، هو حرصي على أن أساهم قدر الإمكان في أعمال وأبحاث المؤرخين في المستقبل، سواء كانوا تونسيين أو عربا أو أجانب. هناك كتب ومقالات صدرت هنا وهناك، وقد اطلعت على البعض منها، وأدركت أنها لا تخلو من أقوال غير صحيحة، حتى لا أقول كاذبة. فقلت في نفسي، قد يظهر بعد عقود من الزمن جيل من المؤرخين يروم الكتابة عن تونس، وواجبي هو أن أشهد بما عرفته أو سمعته أو ساهمت فيه وذلك حتى يستخلص المؤرخ من مذكراتي ومن الوثائق الحقيقية.

* هذا في ما يتعلق بالدافع لكتابة المذكرات، هل تبسط لنا مكونات شهادتك فيها؟

ـ قررت في الوقت الحاضر أن تنطلق المذكرات بتاريخ خروجي من السلطة أي في يوليو (تموز) 1986، بحيث تبدأ بإقالتي من طرف بورقيبة رحمه الله، وأستعرض الأسابيع التي سبقت الإقالة والأسابيع التي تلتها حتى آل بي الحال، إلى ضفاف إحدى بحيرات سويسرا وأنا مطارد، وأبنائي في السجن، والبعض منهم تحت التعذيب البدني. وأثناء تجوالي اليومي حول البحيرة Lumon في سويسرا، استعرض حياة هذا المواطن التونسي المناضل وما انتهى به الأمر، مع التوقف أيضا عند طفولتي، وأيام كنت طالبا ثم كأستاذ ورحلاتي المختلفة في رحاب المعرفة ومساهمتي المتواضعة في معركة تحرير تونس من الاستعمار وفي المعركة الثقافية إذ يعلم الكثير بأني أنا الذي أسست مجلة الفكر، قبل الاستقلال أصدرت كتابا بعنوان «الديمقراطية» ثم ظفرت البلاد بالاستقلال بعد كفاح مرير، ولقد دعيت كعدد كبير من زملائي إلى تحمل المسؤولية، وإلى شرف المساهمة في بناء الدولة التونسية الفتية وذلك في سبيل ديمقراطية البلاد وإطلاق سراح الطلبة والنقابيين المجهولين، منذ سنوات والتشجيع على حرية الصحافة. وينتهي الكتاب بفقرات حول العلاقات الخارجية بين تونس وبلدان المغرب العربي والقضية الفلسطينية.

* محمد مزالي هو المتهم رقم واحد بالتعريب في تونس، وها هو يكتب مذكراته باللغة الفرنسية.. ما سر هذه المفارقة؟

ـ أنا معتز بالتعريب، ومعتز بأن لغتي هي العربية، لكن أنا الآن أعيش في المنفى، وفي فرنسا وجدت تسهيلات مكنتني من التعاقد مع دار نشر فرنسية تدعى «ليبوكيلك» وإذا وجدت من يعرب «المذكرات» التي عنونتها بـ«نصيبي من الحقيقة» فسأكون سعيدا بذلك.

* حياتك السياسية كانت مليئة بالنكسات المعلومة والمجهولة، أي النكسات ستشملها المذكرات؟

ـ من الملفات والأكاذيب التي راجت في وقت من الأوقات قضية «ثورة الخبز» التي اسميها «مؤامرة الخبز»، في المذكرات أبين استنادا إلى الحجج والأحداث أنها مؤامرة حيكت من فوق، ولم تنبثق من القاعدة أي الشعب. وكذلك ما روجه البعض بالاعتماد عن صعوبات اقتصادية لترضية مقولة إن الاقتصاد كان على أبواب الإفلاس في 1986، وأبين ايضا معطيات اخرى من بينها انعكاسات طرد ما لا يقل عن 32 ألف عامل تونسي من ليبيا في أغسطس (آب) وسبتمبر (ايلول) وأكتوبر (تشرين الاول) من سنة 1985 وجرى حجز أموالهم وأرزاقهم وأمتعتهم وتجميد وحجز مكتسبات شركة تونس الجوية وتقدر بعشرة مليارات سنتيم. ثم الانعكاسات التي نتجت عن إقدام إسرائيل على قصف حمام الشط بالقنابل في أول أكتوبر 1985 ثم اقدام الولايات المتحدة على قصف طرابلس وإحجام السياح عن زيارة تونس لقربها الجغرافي، وكذلك انهيار سعر البترول. هناك عوامل تقيم الدليل على طبيعة الصعوبات التي فرضت علينا واعتبر أن أكبر صعوبة، وكان يمكن تجازوها، هي ضعف المدخرات من العملة في البنك المركزي في أوائل 1986 أي قبيل إقالتي، أي انتقاص مخزون العملة الصعبة. ولقد طالبت بعض الدول الشقيقة في الخليج بأن نودع مقابل أجر كمية من الصابة، وبذلك يمكن أن نتخلص من تلك العقبة، ولكن لم يمهلوا، وتمت إقالتي قبل أن تتحقق الوعود التي اتصلت بها من بعض بلدان الخليج الشقيقة. وسأبين في مذكراتي أيضا بأني لم أكن رئيس دولة بل كنت رئيس حكومة، وكان بورقيبة كل شيء، وقد يقول البعض إن بورقيبة شاخ وهرم ولم يعد له أي نفوذ، والحقيقة انه بقدر ما كان يقاسي من الشيخوخة، وتتزايد مضاعفاتها، بقدر ما كان يتشبث بالسلطة، وحتى بأوهام السلطة. كنت في موقف حرج بين مجتمع تونسي ناهض، وشباب طموح، ومثقفين يحرصون على الحرية والكرامة، ومشاكل عمال، من جهة، وبين رئيس شيخ أحببناه وناضلنا معه في الحزب الذي أسسه، وكنا نحمل له الاحترام والتقدير، ولكنه بلغ عمرا متقدما. فأنا عندما تقلدت منصب وزير أول كان عمره ستا وثمانين سنة، مع أمراض جسدية وعقلية أيضا إلى حد ما. ناهيك من أن هناك سبعة أطباء وضعوا امضاءاتهم على أنه لم يعد قادرا على مواصلة رئاسة البلاد.

* بصراحة، ما هي أخطاء محمد مزالي التي سيكون أمينا في ذكرها خلال مذكراته؟ ـ أكبر خطأ هو أني لم أقدم على الاستقالة رغم التخريب الذي وقع لي هنا وهناك، وخاصة من حاشية القصر. فلما أقدمت سنة 1981 على إجراء انتخابات ديمقراطية حرة بالتعاون مع أحزاب المعارضة، حزب الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة المناضل أحمد المستيري، والحزب الشيوعي بقيادة محمد حرمل، وأحزاب أخرى، بعد الاتفاق على ذلك، وقع تخريب الانتخابات، وهناك وثائق تثبت أن السيدة وسيلة، حرم الرئيس الحبيب بورقيبة، أبت إلا أن تزيف هذه الانتخابات، وساعتها كان يجب عليّ أن أستقيل لأن مصداقيتي قد نيل منها وتحطمت نوعا ما، لأنني تحملت المسؤولية السياسية من أجل إرساء الديمقراطية. وكان يمكن أن أستقيل أيضا عندما وقعت «مؤامرة الخبز»، وأيضا عندما عشت مؤتمر الحزب الحاكم الذي بدأ في 19 يونيو (حزيران) 1986 وكنت أمين عام الحزب حيث اندهشت عندما أوحي لبورقيبة بتعيين أعضاء اللجنة المركزية، بينما تقاليد الحزب تقتضي الانتخابات في كل المستويات إلا تعيين أعضاء الديوان السياسي، ساعتها كان عليّ أن أقلب الطاولة.

* الحاصل في أذهان التونسيين اليوم هو أن مزالي هو الذي رفع في سعر الخبز، وتسبب في ثورة الشارع التونسي، إلا أنك تنفي هذه التهمة، فمن هو المسؤول عن تلك الزيادة إذا؟ ـ توقفت في مذكراتي عند هذه النقطة ودافعت عن نفسي فيها بالحجج. بورقيبة هو الذي قرر مضاعفة سعر الخبز. ولقد اعترف بعض المسؤولين بذلك، وقد صرح الباجي قائد السبسي في تلفزيون أبو ظبي بأن قرار مضاعفة سعر الخبز اتخذه بورقيبة. أنا كانت مهمتي تطبيق قرارات الرئيس مع العلم أني حاولت أن أتخذ إجراءات للتخفيف من حدة وقع ذلك القرار، وهي إجراءات تمت بالتعاون مع زملائي الوزراء والاتحاد العام التونسي للشغل.

* لماذا ترفض أن يقال «في عهد محمد مزالي»، ألم تكن النجم السياسي رقم واحد، صاحب الخطب المتتالية والظهور الدائم؟

ـ لأنه لم يكن لي عهد، لا أنا ولا بقية الوزراء أمثال الباهي الأدغم والهادي نويرة. لقد كان عهد بورقيبة، ذلك أنه نظرا لشخصية بورقيبة العملاقة، فإنه هو الذي كان يحدد اختيارات الدولة كاملة، ومسؤولية رئيس الحكومة تنحصر في تطبيق تلك الاختيارات، لا أكثر ولا أقل. وأدرك لماذا اختلط الأمر على كثير من الناس، فأنا كنت أتجول كثيرا، وأتكلم كثيرا، وكنت أمتلك سهولة في التعبير في الخطاب، وعلاقاتي كانت مميزة مع رؤساء الدول ورؤساء الحكومات العربية والأوروبية، فكان يبدو للبعض بأنني أنا رئيس الدولة. كنت املأ الساحة، ولكن من دون أن تكون لي سلطة القرار!

* بعد إقالتك وهروبك من تونس راجت بعض الإشاعات والتساؤلات، ومن بينها لماذا هرب مزالي إذا كان بريئا من التهم الموجهة إليه، وها أنت في تونس، بماذا تجيب بعد كل هذه السنوات؟

ـ لقد ساد آنذاك تعتيم كبير، وتشويه وثلب وسب، وقلب للحقائق، بحيث ان بعض الأصدقاء في اوروبا والعالم العربي استغربوا كيف ينتهي أمري وأنا مسؤول لمدة ربع قرن إلى تلك الحالة، وكيف انتهى حالي من مناضل ووزير أول إلى شرير! في الواقع ان كل تلك الإشاعات كان سببها التسابق غير الشريف من أجل السلطة. بعض العناصر كانوا معششين في حاشية بورقيبة. لكن السؤال: لماذا هربت واجتزت الحدود في ليلة كلها مخاطر في 3 سبتمبر 1986 عبر الجبال الفاصلة بين تونس والجزائر إذا كان ضميري مرتاحا، هذا السؤال أجيب عليه بالقول: لأنهم أقنعوا الرئيس بورقيبة انني دبرت مع بعض الأطباء مكيدة لإقصاء بورقيبة عن الحكم وقلب النظام. ومن جهته، فإن بورقيبة، وهذا ما لم أفهمه إلى حد الآن، نادى وكيل الجمهورية آنذاك وأمره بالقبض علي، والحكم عليّ بالإعدام شنقا، وأضاف بأنه حتى لو تدخلت بعض الدول فلا بد من شنق محمد مزالي كما حصل لعلي بوتو في باكستان. فقلت في نفسي إذا أمكن لي الإفلات من حبل المشنقة، فذلك سيكون أفضل، ومن غير أن أعلم أي أحد قررت الهروب، وقد رويت في مذكراتي بالتفصيل هروبي من تونس وكيف قصدت اللجنة الأولمبية الدولية التي آوتني وكانت بمثابة عائلتي الثانية، وبقيت معهم عشرة أشهر وذلك إلى أن وجدت من بعض الدول الخليجية الصديقة العون والدعم الذي مكنني أن أعيش أنا وعائلتي في حال مستور.

* والآن هل استرجعت حقوقك المادية التي انقطعت عنك لسنوات طويلة، وهل عالجت مع الحكومة التونسية الحالية كل المشكلات؟ ـ في الخامس من أغسطس 2002 اجتمعت محكمة التعقيب، وقررت نقض الحكم اللا دستوري الظالم الصادر ضدي يوم 20 ابريل (نيسان) 1987 من دون إحالة.

لقد اعترف القضاء ببراءتي، وطويت الصفحة. كما أن بيتي الذي طردوا زوجتي منه عام 1992 عاد لي من جديد، ونظرا إلى أنه استعمل من طرف القضاة والمحامين، فقد عرضوا عليّ تعويضا ماديا، ولقد تم ذلك، وأقول حقيقة إن الفضل في هذا هو للرئيس زين العابدين بن علي، وهو الذي عمل للوصول إلى هذا الحل المشرف للجميع.

* لو نحاول تجاوز قرار بورقيبة بإعدامك وتناول نجاحات بورقيبية وفشله بشيء من الموضوعية، ماذا تقول؟ ـ بورقيبة نجح في تحرير تونس وفي بناء دولة عصرية وفي عدة إصلاحات جوهرية أتمناها لعديد الدول العربية والأفريقية، كتحرير المرأة وتعميم التعليم، وأيضا قضية تنظيم النسل، وتكوين شعور بأننا شعب متماسك مع تجاوز العقلية القبلية. لكن الفشل الذي حصل كان مرده تقدم بورقيبة في السن ومرضه، خاصة عند تعرضه للانهيار العصبي، لذلك فقد كان قابلا للتأثير عليه من طرف الحاشية، ولو ان بورقيبة توفي بعد أول أزمة قلبية في مارس (آذار) 1967 لكان التاريخ غير التاريخ. لكني أعتقد أن الأجيال الصاعدة لن تنسى بورقيبة الذي ضحى بحياته وشبابه من أجل تونس، وكانت له رؤية سياسية عبقرية، كان يفهم التكتيك والكر والفر وكيفية بناء الاستراتيجيات، واستطاع بشعب فقير ومشتت ومتخلف أن يخلق قوة ضاربة جعلت المستعمر يختار الانسحاب والاعتراف لأهل البلد بحقوقهم.

* كفاعل سياسي سابق كيف ترى حاضر تونس السياسي؟

ـ لقد توقفت علاقتي بالسياسة من قريب ومن بعيد منذ عام 1986.

* الدستور التونسي شهد بعض التنقيحات كيف تراها؟

ـ الدستور التونسي على الورق خارق للعادة، كل الضمانات موجودة، ولكن العبرة في التطبيق.

* قلت لي قبل البدء في تسجيل الحوار انه لو أتيح لك أن تكون رئيس دولة لما بقيت أكثر من دورة واحدة، لماذا؟

ـ هذا اختيار وأنا أدرك أن الكثيرين لن يصدقوا هذا الكلام. ففي أواخر أكتوبر 1984 مرض بورقيبة مرضا كبيرا، ونقلوه إلى أحد المستشفيات بسبب جلطة قلبية، وعندما عدت إلى البيت قلت لابني: لو قدر لي في يوم ما أن أصبح رئيس دولة فإني سأصدر ثلاثة قرارات، الأول هو انني لن أغادر بيتي، بل سأبقى أسكنه، مثل الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران. أما الثاني فهو انني بعد ثلاثة أو ستة أشهر من تولي الرئاسة سألقي خطابا أقول فيه اني لست مقتنعا بالشرعية الآلية التي تقلدت بها منصب رئيس الدولة، ولذلك سأعلن عن انتخابات رئاسية في مدة قصيرة، وسأتسول إلى أحمد المستيري وحمد بن صالح وآخرين كي يدخلوا في السباق. والقرار الثالث هو انني إذا نجحت في الانتخابات سأعلن في خطاب بأني لن أترشح مرة ثانية وسأكتفي بلقب رئيس جمهورية سابق، وأترك المكان لغيري.

* لماذا في رأيك فشلت المعارضة التونسية رغم قدمها النسبي في إثبات الذات؟

ـ لأنها معارضة مشتتة، وثانيا ربما لأنهم تنقصهم الشجاعة، لأن السياسة تتطلب الشجاعة والمخاطرة إلى حد الموت والسجن، ولا أفهم كيف يقوم شخص ما بالمعارضة، وينتظر أن يأتيه الحكم على طبق من فضة. لا بد من الاتصال المباشر بالشعب. وأنا أكتفي بذكر هذه الأسباب، طبعا مع وجود أسباب أخرى.