الترابي لـ«الشرق الأوسط»: الأحزاب لا تثق في الحكومة وتخشى أن تفعل بها ما فعلته بأوليائها من قبل

الأمين العام للمؤتمر الوطني الشعبي: طاعة حكم ذي الشوكة تدثر بها مخالفونا من رجال الحكومة لمكاسب دنيوية

TT

تشهد أروقة حزب المؤتمر الوطني الشعبي في السودان بقيادة الدكتور حسن عبد الله الترابي الأمين العام للحزب هذه الايام تحركا ملحوظا ونشاطا مكثفا لم يقتصر على الخرطوم، بل ساحت قياداته وعلى رأسها الدكتور الترابي في جولات ميدانية الى العديد من ولايات السودان المختلفة، حيث انتظمت مؤتمرات قواعده بقطاعاتها المختلفة ونظمت لقاءات جماهيرية مع مواطني تلك الولايات. وأقيم حفل خاص في فندق المريدين بالخرطوم تم فيه تدشين صحيفة الحزب «رأي الشعب»، وهي صحيفة يومية عكست هذا النشاط المكثف للحزب بصورة يومية. وبالفعل شغل المؤتمر الوطني الشعبي مساحات واسعة في صحافة الخرطوم بفعالياته المتعددة وأنشطته المختلفة في العاصمة السودانية والولايات المختلفة، اذ انتظمت مؤتمرات قواعده شبابا وطلابا ونساء وفئات، بينما انشغلت الحكومة بمفاوضات الوفاق الوطني وحث الأحزاب على المشاركة في التشكيل الوزاري المرتقب.

ولما كنت في زيارة الى السودان في مهمة صحافية طوال الاسابيع الثلاثة الماضية حرصت على لقاء العديد من الفعاليات السياسية السودانية في الحكومة والمعارضة للوقوف على مستجدات الاحداث في الشأن السوداني المتشابك التضاريس والمتضارب الامواج، املا في رسم معالم بارزة في الخارطة السياسية السودانية. ومن بين هؤلاء التقيت بالدكتور حسن الترابي الامين العام للمؤتمر الوطني الشعبي في السودان بمنزله في حي المنشية بالخرطوم، ليحدثنا عن مغزى نشاط حزبه المكثف هذه الايام وعن غيره في القضايا.

* هل انتهيتم من مرحلة تأسيس حزب المؤتمر الوطني الشعبي للانطلاق الى مرحلة ما بعد التأسيس، ثم ما هي الملامح العامة لمرحلة ما بعد التأسيس لحزبكم؟

ـ بالطبع نحن لا نبتدر ولا نؤسس شيئا لاول وهلة ولم يكن المؤتمر الوطني الشعبي من قبل الا امتدادا لحركة الاسلام التي كنا فيها. وقد دخلت علينا افواج الجماهير وقيادات وفئات اخرى. فنحن نعتبر المؤتمر الوطني الشعبي تجديدا للرؤى التوحيدية للاسلام. لقد تبدلت النظم كلها، كما تبدلت علاقاتها. وأصبح المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) في السلطة، حيث تأتيه التعليمات من عل، رغم انه بدأ مع الشعب عندما اسسناه، ولكن الآن تبدلت اموره وتجددت نظمه وعلاقته بالسلطان وتغيرت هياكله. فالعضوية نفسها تغيرت، اذ اصبح حزبا حكوميا تحت قبضة السلطان، يأتمر بأمر الحكومة. اما المؤتمر الوطني الشعبي فهياكله مبنية من القواعد، والشورى فيه مبسوطة لكل الاعضاء، اذ ان النظام الاساسي للحزب نظم العلاقات بين القواعد والقيادة. وعملنا على تفعيل نشاط الحزب في اوساط قواعده، وذلك عن طريق الحملات واللقاءات التي حرصنا على تنظيم جولات في الولايات لمخاطبة الجماهير والاشراف على تكوين اطر وهياكل الحزب بالانتخاب، على الرغم من ان الحكومة اغلقت علينا الابواب وزجت ببعض القيادات والقواعد النشطة في الحزب في غياهب السجون. وما ان بدأنا نخرج الى الولايات التي اهملها حزب الحكومة حتى بدأت الحملة الاولى من الاعتقالات والحظر والتضييق. ولكننا مستمرون في عملية بناء حزبنا والاستفادة من اخطاء الماضي، حيث بدأنا نعقد مؤتمرات للطلاب والشباب والولايات المختلفة لانتخاب القيادات من هذه القواعد. فهذا هو الخلاف الذي بيننا وبينهم، فهم يأتون بالقيادات من عل ونحن نصعدها من الشعب. وبدأت الآن في المؤتمر الشعبي حملة تجديد بناء الحزب فئويا وشبابيا وطلابيا مع القطاعات المختلفة، بينما الحكومة مستمرة في التضييق علينا وملاحقتنا امنيا. فالحملة الامنية الاولى التي نظمتها الحكومة ضدنا، كانت حظرا للاموال والدور وبعض الممتلكات الخاصة. والحملة الثانية كانت سجنا واعتقالا وحظر سفر. اما الحملة الثالثة فبدأت الآن اعتقالات على مستوى القيادات. ولكن مع كل هذا سنستمر في بناء هياكلنا الحزبية في القطاعات كافة والولايات المختلفة.

* يلاحظ انكم تنشطون هذه الايام في تنظيم جولات الى الولايات المختلفة، حيث خاطبتم جماهير حزبكم في تلك الولايات ثم عقدتم مؤتمرات للشباب وللنساء.. هل هذا النشاط ضمن خطتكم لمرحلة الانطلاق بعدما وضعتم اسس هذه المرحلة؟

ـ بالطبع المداولات الاولى كانت تجمع القيادات في كل السودان، فتنظر في النظام الاساسي وتسد كل الثغرات التي فيه وأدخلت علينا فعلا وسببت الازمة. وبعد ذلك كان لا بد من ان ننزل هذا الامر على واقع الشعب. فبدأنا في عقد المؤتمرات في الولايات المختلفة رغم المضايقات الامنية من قبل الحكومة. ولكن بحمد الله وفضله كانت هذه المؤتمرات ناجحة وحاشدة ووجدنا قبولا جماهيريا واسعا. ولقد امَّ الندوات التي اقمناها في تلك الولايات جمهور غفير. كما التقينا بمختلف القطاعات الشعبية، مثقفين وطلابا وشبابا وقبائل. وفي ولاية نهر النيل وهي ولاية غالبية اهل الحكومة بعضهم قريب بعض، فكانوا يظنون ان اهل هذه المنطقة تُبع لهم، ولكنها كانت منطقة وعي عال، فكان من العسير على اي سلطة ان تحيط بها، اذ ان التعليم فيها يعتبر من اعلى مستويات التعليم في السودان، ولذلك كان مؤتمر حزبنا في ولاية نهر النيل ناجحاً، ومنها تحركنا الى ولاية البحر الاحمر، ثم ولاية كسلا ومن ثم ذهبنا الى ولاية النيل الابيض، ثم ولاية سنار ثم ولاية الجزيرة وبعدها نتجه ان شاء الله الى ولايات غرب السودان. نحن نريد من هذه الجولات واللقاءات في الولايات المختلفة ان نؤسس حزبنا من قواعده الشعبية حتى يعكس ذلك حقيقة تسميتنا للحزب بالمؤتمر الوطني الشعبي، بحيث يكون تنظيما وطنيا جامعا وشعبيا ايضا.

طاعة ذي الشوكة

* يستند كثير من الاسلاميين الذين انضموا الى الطرف الآخر عند حدوث الخلاف بينكم وبين الرئيس السوداني الفريق عمر البشير، الى قاعدة فقهية تتعلق بطاعة حكم ذي الشوكة.. فما رأيكم الفقهي في مسألة حكم طاعة ذي الشوكة في الفقه الاسلامي؟

ـ نحن نعلم هؤلاء الذين اشرت اليهم عبر عشرات السنين، نحن نحسب انفسنا ادرى من غيرنا بدوافعهم مما تخرج ألسنتهم. فالدوافع كلها ان هؤلاء الآن في السلطة، والسلطة توسعت جدا حتى تستوعب شركات ومؤسسات وولايات ومحافظات، وتضاعفت ولايات وحكومات، حتى ان النظام الاتحادي نفسه تضخم وتوسع والمحافظات تكاثرت، والمؤسسات والشركات التابعة للحكومة اصبحت اكثر من اي نظام اشتراكي في العالم (اشارة الى كثرة المؤسسات والشركات العامة التي تملكها الحكومة وتديرها)، فهؤلاء صعب عليهم ان يتركوا المال والسلطة. ولكن لا بد من اخراج حجج لتبرير موقفهم من النكوص على العهد الذي ألزموا انفسهم به للحركة الاسلامية في السودان، فأخرجت مثل هذه الحجج لإسكات الناس، وهذه سنة في كل العصور. فالدكتاتورية الملكية في اوروبا كانت تتدثر بمعان دينية تؤطر لها حكمها وسلطانها على الناس، ويرهبون معارضيهم بالسلاح. فاخترع هؤلاء نظرية البيعة للحاكم، وهذه لم نعهدها في السودان اصلا، اذ لم نبايع احدا. كنا في الحركة الاسلامية في السودان نتعاهد ونتبايع جماعة، اذ ان البيعة لفرد لا تكون الا لله سبحانه وتعالى. والبيعة لم تكن للنبي صلى الله عليه وسلم فكيف تكون لأحد؟! فلم نعهد في حركتنا الاسلامية طوال خمسين عاما بيعة لفرد، ولكن الآن منذ ايام العسكريين الحكام بدأنا نسمع ببيعة للحاكم. فعندما اقترب نميري (الرئيس السوداني السابق جعفر محمد نميري) من الاسلام اخذ فكرة البيعة.

* أليست البيعة مستمدة من قول الله تعالى «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله»؟

ـ يبايعون الله فقط لا يبايعونك انت. مسألة البيعة والخلاف حولها هي مسألة قديمة في الاسلام اخذها الطغاة البغاة الذين جاءوا بغير شرعية للحكم. فأصبحت في السودان عرفية في الشيوخ، الانسان يبايع الشيخ، هي بلا شك مرض ديني استغله غيري عندما اقترب من الاسلام واستغله الآن عمر البشير.

الجدل حول مسألة البيعة

* ألم تعهد الحركة الاسلامية في السودان مسألة البيعة بين اعضائها لزعيم الحركة في العهود الماضية؟

ـ لم يصدر في مؤتمر للحركة الاسلامية في السودان مبايعة لفرد سرا ولا علنا، ولم يعهد اصلا في تاريخ حركتنا انه كانت هناك بيعة لفرد، بل كانت هناك البيعة نسميها لله والعهد كان عهدا في ما بيننا. والآن المؤتمر الوطني الشعبي اسس على هذا الاساس، حيث نتعاهد ونتوالى ونتواثق. ونذكر كلمة بيعة في سبيل الله، فنشهد كلنا اننا نبايع الله، حتى اذا قصر بعضنا، يمده الآخر بنصح او مدد. وبدأ هؤلاء بالحيل الدينية ومنها تحديد ان هذه دولة الاسلام وكيف لا نؤيدها، وكأنها هي الدولة الاسلامية الفرد، وهذا ايضا فقه معروف حتى في الغرب، اذ كان الملك لويس في فرنسا يقول للناس انه الدولة، فاذا اعتدي عليه فقد اعتدي على الدولة. وهذه القضية ما زالت معنا الى اليوم، فكأن الدولة الاسلامية هي الافراد، لكن الدولة الاسلامية هي بناء قائم على الحرية وعلى الشورى وعلى الاجماع وعلى اختيار الوالي ومحاسبته، هذه هي الدولة الراشدة، الدول الاخرى قد تكون اسلامية من حيث بنيتها. البُنية الاسلامية ضاعت في السودان، ضاعت المبادئ والعهد المشترك بين الناس الذي نسميه اليوم بالدستور. والشورى والاجماع يجب ان تكون فوق رأس الوالي الذي يُختار للولاية، وبعد ذلك يكون عُرضة لحرية النصيحة. فهؤلاء يحتالون بقضية ان هذه هي الدولة الاسلامية فكيف نضيعها. اما قولهم بطاعة حكم ذي الشوكة، فهذه واقعية كالواقعية الاميركية، وهي ان القوة هي الحق، وهذه افكار اتى بها الناس في العهد الاموي والعهد العباسي. فهذه مسائل قديمة. فهناك الوالي الذي امر الماوردي ان يكتب كتابا فيعطيه السلطة، بالطبع ليس لها سند من الكتاب والسنة، بالعكس الكتاب عكسها تماما، لان القوة ليست هي مصدر السلطة. فالسلطة من الله ومن اجماع المؤمنين، والله سبحانه وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم «ما أنت بجبار». ولكن بعضهم اخذ مسألة القوة ولكن لم يروج لها في السياسة فحسب، بل رُوج لها حتى في العقيدة. فالعقيدة الجبرية والاشعرية تشير الى ان قدرا من الله يحكمك. فاللص كتب الله عليه في الكتاب ازلاً. والحاكم كتب الله عليه في الكتاب حاكما، فلذلك في الملأ الاعلى هو حاكم، اذن هو قدر فعليك ان ترضى بهذا القدر. فالقدرية جاءت في العقيدة نفسها تأييدا لسياسة طاعة ذي الشوكة اي طاعة ذي القوة ولو كان ظالما، ما دام هو اقوى فعلى الضعيف الطاعة والانصياع. ولكن القرآن كله عكس ذلك، اذ يمنع الضعفاء من طاعة الاقوياء، ويقول انهم يحاسبون إن ذلوا للاقوياء. وهناك حجة اخرى لهؤلاء وهي وحدة الحركة الاسلامية، وهذه طائفية جديدة، كانوا يرمون بذلك الطوائف الدينية، اذ ان القضية اهم عندهم من المبادئ، حتى ولو كان بفارق المدة اي ان النصرة تكون للظالم بالتعصب له، فهذه عصبية جاهلية لا يقرها الاسلام. حتى ان حركة الاسلام عندهم اصبحت كيانا خاصا ليسندوا به العصبية حتى مع الباطل مع ان حركة الاسلام في السودان كانت دائما تتجه الى العموم لا الخصوص فهي حركة دعوة ليست قاصرة على خاصية من الناس بل هي تستوعب عموم اهل السودان، وكانت دائما ضد الطغيان وضد الدكتاتوريات العسكرية التي هم ضحاياها ليس في السودان فحسب بل في العالم كله. ولكن الآن اصبحت تعطيهم منها شوكة فأصبح الباطل الذي كانوا ضده فهو حق، والمصالح الدنيوية غلبت على غيرها من المصالح، هذه كلها امراض تاريخية وليست لها اسانيد والقرآن كله ضدها.

الخلاف كان على أصول

* يردد بعضهم ان هناك توجها لبحث نقاط الالتقاء والقواسم المشتركة بين المؤتمرين الوطني والشعبي، باعتبار انهما حزب اسلامي واحد انقسم على نفسه، فأصبح الوطني يمثل الحكومة والشعبي يمثل المعارضة.. فما تعليقكم على ذلك؟

ـ الاحكام العُرفية التي فرغت من مضمونها التاريخي، اصبحت تاريخا فقط وعصبية ولاء، كحزب الامة انشق عندما لم يتفق على معادلة لقسمة السلطة بين رئيس الحزب والإمام، وعندما حدث الاتفاق بينهما اجتمع الحزب مرة ثانية، وكذلك حزب الوطني الاتحادي انشق بين السيادة والقداسة، ولكن في النهاية عندما قسمت السلطة على معادلة مرضية اجتمع الحزب مرة اخرى. فالقضية كلها كانت صراعا على سلطة وتراضيا عليها. فراقنا لم يكن فراقا لنحتكر كل الساحة، الحاكم يكون منا والمعارض يكون منا، وان فقد الناس الثقة في الحكومة يقدمون الامر للمعارضة، فالامر ليس كذلك. الحكومة الآن تستفيد من الاحزاب الدينية التقليدية التي ترى قياداتها ان المعارضة كانت تأكل من قواعدها باسم الدين، فهي تريد الحكومة ان تضرب لهم هذه المعارضة. وكذلك هناك قوى اخرى في الخارج يرون ان الاحزاب هي الخطر لانها تعبئ الشعب. والشعب الآن حتى الذي ضد الحكومة ما يزال يتردد بعض الشيء في فهم مقولاتنا المتعلقة بالحريات، فبعضهم يقول لنا صراحة انتم الذين جئتم بهؤلاء، لانهم يجهلون اننا كنا على خلاف معهم في فهمنا للامن، وكذلك في دعوتنا الى عودة الحريات الصحافية والحزبية والحريات الدستورية، ولكن الناس يذكرون الايام الاولى من «الانقاذ»، فيريدون ان يشفوا غيظهم مما يحدث في المعارضة، ولكن هذا ليس باتفاق اصلا. فالموقف الفكري عندنا ليس انت في الحكومة ام خارجها. فالخلاف كان على اصول وليس على مواقع، بينما الخلاف بين الاحزاب التقليدية السودانية كان على مواقع، فاذا اتفق على تسوية امر المواقع توحدوا، ولكن الخلاف الآن بيننا وبين الحكومة ليس على مواقع، بل هو خلاف في الاصول.

أمراض الحركات الإسلامية

* هل هناك امكانية لاعادة الحركة الاسلامية في السودان الى بوتقة واحدة مع الاحتفاظ على الخلافات التي بينكم وبين الحكومة؟

ـ الامراض التي تصيب الحركات بعضها يستمر وبعضها يختفي. فالمسلمون انقسموا الى سنة وشيعة، بالرغم من انه مرت قرون على الصراع نفسه. فهذه الامة التي اختلفت استمر امر خلافها الى يومنا هذا. وكذلك اختلف العلماء والفقهاء حول بعض المسائل فخرجوا علينا بمذاهب مختلفة وهكذا. فأحيانا الصراع يصبح مرضا دائما لا يشفى، ولكن احيانا في تاريخ الاسلام يحدث تجديد يجمع قواعد الناس بمختلف احزابهم وفرقهم وعصبياتهم المختلفة. فنحن كنا نبحث عن حركة كما اقول عن نفسي دائما باني لست سنيا ولا شيعيا هربا من العصبية المتخلفة. فهذا يسمى مالكيا او حنفيا او شافعيا او حنبليا او زيديا او صوفيا او قادريا او سمانيا، ليس ذلك لاني اعتبر كل هذا باطلا، ولكنه هو تراث انقسمنا على بعضه، فمن هذا التراث بعضه خطأ نتعظ به وبعضه صواب نبني عليه. فالآن يبدو لي ان الذي حدث هو الذي يحدث دائما حول السلطة. فالحزب الشيوعي السوداني اختلف مع من خرج عن السلطة، لان السلطة بدأت تخرج عليهم بسلطانها، والذين كانوا في السلطة كلهم ركنوا اليها وتركوا الشيوعية مرة واحدة. وكذلك الحال في نظريات بعضها عربية وبعضها عالمية. فهذه ظواهر يبدو لي تتكرر في مثل هذه الحالات. وان كثيرا من الذين فارقونا من اجل السلطة لن يعودوا والذين خالفونا حول السلطة والمعارضة في ايام مايو (ايار) 1969 (نظام الرئيس السوداني الاسبق جعفر نميري) بعضهم عاد الى الحركة الاسلامية وبعضهم لم يعد واصبح متدينا منعزلا والبعض الآخر ترك الدين وجرى وراء الدنيا، فهؤلاء كذلك منهم من يعود ومنهم منْ لن يعود، ولا اقول ان احدهم اذا خرج من الحكومة لن يعود ابدا، لان كثيرا منهم ما تزال تعتمل في نفسه روح تتمزق، يرى الحق، حيث ذهب المؤتمر الوطني الشعبي، ولكن المصالح والقيود والرهائب والرغائب كلها هناك، هذا قد يخرج من الحكومة ويعود الينا ولو بعد حين.

المضايقات الأمنية

* هل ما تزال هناك مضايقات واعتقالات أمنية لبعض أعضاء حزبكم ام ان الامر اختلف في الفترة الاخيرة؟

ـ طبعا انت تسأل شخصا له تجربة طويلة مع الاعتقالات والسجون مع نظام نميري. والغريب في الامر حتى نظام نميري عندما بدأ يتحدث عن النموذج الاسلامي وضعنا في السجن فترة من الزمن. وفي آخر العمر في قمة هذه الدولة التي تدعي بأنها دولة اسلامية والتي تتخذ من الاسلام شعارا رجعنا الى الاعتقالات والسجون.

ولكن حركة الاسلام في السودان متجددة رغم كل الظروف. فهناك طلاب الحركة الاسلامية الذين نشأوا يعارضون الحكومة وكل الانظمة الدكتاتورية كسائر الحركات الاسلامية في العالم، ولكنهم ايدوا الحكومة وساندوها في احلك الظروف. فالطلاب دائما فيهم روح الخروج والثورة على الانظمة. فالآن الطلاب وجدوا سبيلهم في الخروج والثورة على النظام، وكذلك وجدوا راحتهم النفسية في المؤتمر الوطني الشعبي، لذلك خرجوا كلهم عن المؤتمر الوطني وانضموا الى المؤتمر الوطني الشعبي الا قلة قليلة. ففي الولايات الطلاب الذين مع المؤتمر الوطني دون العشرة وبعضهم فوق العشرة بقليل، بينما جموع الطلاب هناك انضمت الى المؤتمر الشعبي وانتظمت في المؤتمرات الطلابية وفي حركة العمل السياسي بالحزب. المضايقات الامنية على اعضاء حزبنا زادت قسوة واعتسافا. فالاحزاب التي جاءتنا من الخارج لم تكن بأحزاب معارضة فاعلة، فهي غير نشطة، لا تقيم ندوات ولا مؤتمرات عامة للقواعد ولا تظهر نقدا للانتخابات الاخيرة ولا للاجراءات الامنية التي تضاعفت الآن. لما دعوناهم للعودة الى السودان كان ميزان الحرية منفرجا ونريد ان يزداد انفراجا واعتدالا. ولكن تلك الحريات ارتدت عليها الحكومة فانتكست مرة اخرى بسبب تعسف النظام وتضييقه لهامش الحريات. فأصبحت المعارضة ضعيفة في البلد. فالنظام ليس له مؤيد والاحزاب التقليدية تؤيده بينما الجنوب كله ضده طبعا الا الجنوبيين الذين في السلطة فقط، وحتى هؤلاء بقلوبهم ضده، ولذلك لا استبعد ان يشتد غضبه وخوفه وتشتد اجراءاته الامنية، وهي حاليا تشتد حينا بعد حين. في البدء كان حظرا وتلطفا ثم اعتقالا، ثم طال الاعتقال قيادات المؤتمر الشعبي.

* هناك بعض اتهامات من قبل الحكومة لبعض قيادات حزبكم متعلقة بعدم تسليمهم الامانات التي بحوزتهم قبل الانشقاق من سيارات وأسلحة وغيرها باعتبار انهم كانوا في الحكومة والآن في المعارضة فعليهم رد هذه الامانات.. فما تعليقكم؟

ـ اولا: الامانات التي تتحدث عنها أُخذت بالقوة من اعضاء حزبنا، بل حتى الشركات الخاصة التي كان اغلبها مملوكة للافراد صادرتها الحكومة. ثانيا: كل اموال المؤتمر الوطني دورا وسيارات اخذتها الحكومة منذ اول ايام الخلاف بيننا وبينهم. الآن بدأوا يتابعون سيارات مملوكة للمؤتمر الشعبي العربي الاسلامي بحجة ايقاف نشاطه من قبل الحكومة. فالمؤتمر الشعبي العربي الاسلامي لا علاقة له بالمؤتمر الوطني. صحيح ان الحكومة ألغت الاتفاقية والحصانات، لكنه حول سياراته الى افراد لانه باعها حتى يستطيع ان يفي بالتزاماته المالية تجاه الموظفين الذين انفض سامرهم بعد الغاء الحكومة لاتفاقية انشاء مقره في الخرطوم. والآن طلبوا من كل الاحزاب ـ يقصدوننا نحن بالطبع ـ ان تسلم الاسلحة التي بحوزتها. طبعا الاحزاب ليست عندها اسلحة ولا المؤتمر الوطني الشعبي عنده اسلحة، ولكن هناك شخصية في المؤتمر الشعبي هو حسن الترابي كانت له حراسات قديمة منذ عودته من كندا، قبل ان يكون رئيسا للمجلس الوطني (البرلمان)، ولكن حيلهم لا تنطلي علينا لاننا نعلم طريقة تفكيرهم واسلوب عملهم.

* يشير بعضهم الى ان الحكومة رقيقة في تعاملها معك شخصيا، فهي تعتقل اعوانك ولكنها لا تقترب صوبك.. فهل هي خائفة منك ام انها تراعي حق ايام سلفت؟

ـ انهم الآن يعتقلون كل من يخرج من هذا المنزل (منزل الترابي بحي المنشية في الخرطوم) حتى ولو جاء اهليا من الاهل للتحية والمجاملة، بل اصبحوا يعتقلون ايما تاجر مجاور للترابي. فقد قبضوا على تاجرين لانهما جاران لي في الحي. فأصبحوا يعتقلون قيادات المؤتمر الشعبي، وبدأت الدائرة تقترب شيئا فشيئا مني. فأنا اتوقع وأتهيأ لاعتقالي في اي وقت، لا سيما ان هذا البيت له عهد قديم مع الاعتقالات اما وأبا.

* لحزبكم نشاط ملحوظ خلال الاسابيع القليلة الماضية في الاتصالات مع الاحزاب السياسية ومن بينها الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة العقيد جون قرنق وحزب الامة بقيادة السيد الصادق المهدي.. فما هي نتائج هذه الاتصالات؟

ـ اننا الحزب النشط في العمل السياسي في السودان لاننا اكثر تنظيما. فالقيادة على اتصال دائم ولقاءات مباشرة مع قواعده بينما الاحزاب الاخرى تخلت عن قواعدها ونظمها زمنا طويلا. هناك اتصالات مستمرة مع الحركة الشعبية طيلة الفترة الماضية لبحث القضايا كافة والمشاورات معها جارية لحل قضية جنوب السودان التي هي أُس مشاكل السودان ومن ثم الاتفاق حول قضايا النظام الاتحادي وتوزيع الثروة وعلاقة الدولة بالدين والهوية الفكرية والثقافية للسودان في ظل التعددية السياسية والثقافية. وكذلك لنا اتصالات جارية مع بقية الاحزاب. فنحن الذين اسسنا المؤتمر الوطني فلنا علاقات مع كل الفعاليات السياسية السودانية، ونحن نحسب اننا يمكن ان تختلف معها على بعض المبادئ والوسائل ولكن هذا لا يمنع من ان نتفق على اسس الحرية وان تكون كل مواقع السلطة من الحكم المحلي الى السلطة العليا بالانتخابات، فالسلطة يجب ان تعود للشعب لينتخب مَنْ يراه مناسب. والاحزاب تخشى حاليا بأس الحكومة، لذلك فهي غير ناشطة وغير فاعلة في معارضتها للحكومة. والاحزاب تخشى من الحكومة ان تفعل بها ما فعلته بأوليائها من قبل، وتكون اشد بأسا بهم، فالاحزاب ما تزال حذرة جدا وتتفق معنا في قضية الحريات، ولكنها لا تجهر بمعارضتها لاجراءات الحكومة الامنية. اما عن حزب الامة فهم الآن في حوار مع الحكومة حول المشاركة في السلطة، فبعض قياداته تريد المشاركة في السلطة ولكن القواعد رافضة مبدأ الدخول في السلطة. ولقد تحدثوا الينا حول بعض القضايا، وقالوا انهم سيقدمون برنامجا حول قضايا البلاد لمناقشتها والتداول حولها وما زلنا في انتظار هذا البرنامج، ولكن الاتصالات قائمة والمداولات مستمرة، وكذلك الاتصالات جارية بيننا وبين الحزب الاتحادي الديمقراطي داخل السودان وخارجه. وبالطبع لنا اتصالات ومشاورات مع الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق، خاصة ان الشخصيات التي قادت المفاوضات مع قرنق باسم الحكومة الآن هم في المؤتمر الشعبي، فلذلك لم يكن من العسير اجراء هذه الاتصالات بين حزبنا والحركة الشعبية، بينما الآن الذين يقودون المفاوضات مع قرنق ضد الحكومة، هم شخصيات امنية او عسكرية. نحن حرصنا على كشف خيانة الحكومة للعهود وللدستور وبدأنا نفضحها. كما ان قضية الانتخابات الاخيرة فضحت الحكومة تماماً امام الشعب. وتساءلنا عن اموال البترول اين تذهب وهذا سؤال مشروع لهذا الشعب، بينم ما زالت رواتب المعلمين غير مدفوعة من قبل الحكومة والتعليم هابط المستوى في كثير من الولايات.

رأي الشعب

* أصدرتم أخيراً صحيفة «رأي الشعب».. فهل ستكون صحيفة حزبية أم لديكم لها تصور آخر؟

ـ كان التصديق لاصدار صحيفة «رأي الشعب» عسيراً جداً في الاجراءات والديوانيات وكان بعضها قصداً وبعضها معقدة، وبعد ذلك كان علينا ان نجمع البنية الأساسية لهذه الصحيفة من كوادر بشرية وامكانات مادية، وهي الآن خرجت باسم شركة يملك اسهمها افراد من قيادات المؤتمر الشعبي. وستكون صوت الحزب ولكننا لن نجعلها صحيفة حزبية فحسب بل ستكون صحيفة تهتم بالقضايا الكبرى للوطن. ولكننا نتوقع ان تجد قسوة من الرقيب كما يفعلون مع الصحف التي تكون قريبة منا مثل صحيفة «ألوان» التي ينتظرون طباعتها ثم يصادرونها حتى تزداد الأضرار المادية وأحيانا يقرأونها سطراً سطراً امعانا في التأخير والتعطيل والترهيب.

نحن حركة اسلامية قوتها في الدعوة الى الله تعالى، فالصحيفة وسيلة من وسائل الدعوة ولأن البلاغ هو رسالة اي دولة جديدة حتى ان علاقتنا الخارجية كانت علاقات رسالة ودعوة. وهذه دوافع دين لن نسكت عنها، حتى اذا اسكتوا الصحيفة فسنظل نصدر منشورات وسنظل نتحدث ولو دخلوا البيوت لن نسكت أبداً.

* أعلم انكم فرغتم من كتاب في التفسير وكذلك من كتاب «تجديد الفقه الاسلامي».. فكيف توفقون بين زحمة العمل السياسي والكتابة؟

ـ الآن، بالطبع احدى عيوب المؤتمر الوطني انه ترك الفكر تماما واصبح منشغلاً بالجدليات والشكليات لا بالفكريات، والآن المؤتمر الشعبي بدأ من تحت واصبح كل عضو فيه لا بد أن يكون في حلقة تدارس.. وفي أعلى بدأت تصدر برامج ورسائل في الشؤون السياسية والثقافية.. الخ.. طبعاً منها تفسير القرآن الكريم. ولقد هجمت قوات الأمن على مقر هيئة الاعمال الفكرية، حيث صادرت كل ممتلكاتها وكل الشرائط وأقراص الكومبيوتر التي كانت تحتوي على مراجعات اخيرة لهذا التفسير، وفيها ايضا الجزء الاخير الذي كان معداً للطباعة.

وترجاهم بعض الناس ان يخرجوا الفكر القرآني من هذه المضايقات الأمنية وقد ردوا بعضها ولم يردوا البعض الآخر. وكانت هناك بعض الكتب التي صدرت منذ ايام النميري وايام الديمقراطية مثل كتاب «الشورى والديمقراطية». اما كتاب التفسير فهو ليس ليوضع على أرفف المكتبات ولكنه للقارئ ولكل مثقف ان يقرأه، وحرصنا على ألا نكثر من اجزائه، حيث حصرناه في ثلاثة اجزاء، وهو التفسير التوحيدي لأنه يوحد الآيات والكلمات بعضها ببعض وهو ما لم تفعله كتب التفاسير الاخرى، وهو يوحد القرآن من واقع اليوم ويخاطب المسلم وغير المسلم. هذا هو منهج التفسير كما شرحته المقدمة، وهو يبدأ الآيات يرتلّها كلمة كلمة وآية آية فيربطها مع بعض، فتتصل المعاني بكل السورة، ثم كل مجموعة آيات في موضوع في السورة، ليخاطب بذلك الموضوع العالم الى يومنا هذا. فاذا خوطب النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن، والنبي قد توفي طبعاً فيخاطب الآن به الداعية او الحاكم وكذلك يخاطب اهل الكتاب، وعندما يخاطب المشركين فالمقصود الآن سور الإشراك الحديثة في المعاني نفسها.

الآن نصدر كتابات حول تفصيلات هذه الأزمة، ماذا جرى لهذه الحركات الفكرية في العالم من العِلل والأمراض وما ترتب على ذلك، وهي كتب متصلة وأصبحت دعوة للناس جميعا، لأننا انصرفنا عن هموم الحكم ومشاكله الى الدعوة. فاذا جاء الحكم غداً يجدنا أثرى ثقافة وفكراً، والقيادات لن تأتي بالعاطفة والعصبية وشعارات الاسلام، وان الانتخابات الاخيرة في السودان كانت اشد زوراً وأكثر بهتاناً من اي انتخابات سبقت. ودخل على السلطة ايضاً الفساد في المال العام، حيث تكاثر الفساد مع زيادة المال والبترول. ففي المرة المقبلة لا بد ان نخرج للثقافة والاقتصاد والحكم خيراً اكثر مما اخرجناه. اما عن كتاب «تجديد الفقه الاسلامي» فالحكم نفسه الآن موصول بمصادر الفقه، هذه القضية لم تعالج بالأمس ولكن بعد ان مررنا في واقعنا من الحياة بهذه التجربة، حين النظر لواقع السلطة هل هي للشعب ام للحاكم؟ وهل وظائف الحياة تؤديها الحكومة بوزرائها ام يؤدي ذلك الشعب؟ هذا كتاب سيصدر ان شاء الله قريباً.