قائد الأوركسترا العالمي دانيال بارنبويم لـ«الشرق الأوسط» : سنعزف لأول مرة في رام الله وأتمنى أن نعزف في دمشق

صدفة في فندق جمعته بإدوارد سعيد فأنتجت أوركسترا «ديوان الغرب والشرق» العربية ـ الإسرائيلية

TT

قدمت اوركسترا «ديوان الغرب والشرق» حفلتها الموسيقية في قاعة البرت هول في لندن، ضمن برنامج البرومز، ثم شاركت في مهرجان ادنبره، ومن هناك انتقلت الى ألمانيا لتقديم عزفها الكلاسيكي في مهرجان راينغو للموسيقى في فايسبادن بانتظار تحقيق هدفها الاكبر، وهو العزف يوم 21 الجاري في رام الله. اهمية الاوركسترا هذه، انها مؤلفة من شبان عرب واسرائيليين يشتركون في دراسة الموسيقى ويتبادلون التعارف والمعرفة، كل ينطلق من ثقافته.

وراء هذا المشروع الحضاري وقف من الاساس مثقفان وفنانان كبيران هما البروفسور الفلسطيني ادوارد سعيد والمايسترو الاسرائيلي دانيال بارنبويم. التقيا صدفة وقررا المساهمة في عملية السلام، حسب مفاهيمهما ومبادئهما على اساس «ان الاوركسترا تقدم افضل مثل للديمقراطية والحياة الحضارية». منذ بدء المشروع الذي ترعاه بلدية اشبيلية الاسبانية، جالت الفرقة الشابة العالم وصارت سمعتها مرتفعة في اوروبا، بحيث تنقل حفلاتها شاشات التلفزيون العالمية، خصوصاً ان بطاقات حفلاتها في كبرى القاعات تنفد بسرعة، وصار بعض عازفيها اعضاء في فرقة الاوركسترا السيمفونية في دمشق، وأوبرا القاهرة، والاوركسترا الاسرائيلية. العام الماضي رحل المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد. ويقوم اليوم، المايسترو بارنبويم بمسؤولية الاستمرار في هذا المشروع، الذي تتدفق عليه الطلبات من شبان عرب واسرائيليين، كلهم يريدون فرصة الانطلاق والتعارف، وكلهم حاصلون على رضى اهاليهم. اما بارنبويم فقد ولد في الارجنتين بـ«بيونس ايرس» وشب في تل ابيب، وعاش في العالم كله. بدأ عازف بيانو، ثم شارك في خماسي موسيقي، وتحول الى قائد اوركسترا ومناضل من اجل السلام. يعلم فصلين في السنة في كونسرفاتوار موسيقى في رام الله لتلاميذ يصل عددهم الى 800. انه نموذج للتنوير الليبرالي. في القدس أعلن ان رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون غير مرحب به في حفلاته الموسيقية. اليمين الاسرائيلي طالب باعتقاله لأنه يصر على خرق نظام منع التجول المفروض على المناطق الفلسطينية، وفي احد المطاعم الاسرائيلية قذفه بعض الاسرائيليين بالبندورة وبتهمة خائن، فواجهتهم زوجته ايلينا بمحتويات صحن سلطتها. يعيش كما يقول: «الاستعداد الكبير للعزف في رام الله، كونها المرة الاولى التي سوف تعزف فيها اوركسترا (ديوان الغرب والشرق) في الشرق الاوسط. الدولة العربية الوحيدة التي قدمت فيها الفرقة عزفها كانت المغرب قبل سنتين».

* انت رجل مليء بالفعل، اقرأ باستمرار آراءك وافكارك. انك لرجل مليء بالافكار، والفلسفة والمبادئ، واقتراح حلول. هل ان الحياة التي اخترت ان تعيشها هي التي جعلتك هكذا، ام انك من الاساس تريد تحقيق شيء ما؟ ـ لقد كنت محظوظاً جداً، وفقني الله بوالدين ذكيين جداً. لقد كان والدي رجلاً موهوباً، استاذ فلسفة. علمني الموسيقى وعلمني ان اغرق في الموسيقى عزفاً وتفكيراً. والكثير من الاعمال التي اقوم بها، والافكار التي تطرأ على رأسي، تعلمتها من الموسيقى.. ان وجودها بحد ذاته هو البعد الاساسي.

* هل تعني لك التواصل بين أبناء البشر؟ ـ ان الانسان يتعلم الكثير من الموسيقى وعبرها. يتعلم ان لا شيء مستقلاً. هناك دائماً تداخل واعتماد داخلي متشابك. وطبعاً هذا يصعب قبوله في الحياة الخاصة، وفي الحياة الاجتماعية وفي الحياة السياسية. كلنا نرغب ان نكون مستقلين. لا يمكن العيش باستقلالية بعيداً عن الآخرين، ثم هناك وقت، على الانسان ان يقود، ووقت عليه ان يتبع. وهذا يمكن تعلمه بسهولة من خلال الموسيقى.

* من اختار اسم : ديوان الغرب والشرق؟ ـ الشاعر الالماني غوتيه، كتب حلقة كاملة من القصائد في «الديوان». لقد اهتم كثيراً بالعربية والاسلام عندما بلغ الستين من العمر، وهذا امر معروف ولقد اقترح ادوارد سعيد، انه طالما ان مشروع الاوركسترا بدأ في «فايمار» في المانيا، فعلينا تسمية الاوركسترا: ديوان الغرب والشرق.

* وكيف التقيت بادوارد سعيد؟ ـ صدفة في فندق في لندن. كنت اسجل اسمي لدى وصولي مكتب الاستقبال، عندما لمحني، واقترب مني وعرف عن نفسه، انا كنت اعرف من هو ادوارد سعيد، لكنني لم اره سابقا، هو عرفني لأنه حضر عدداً من حفلاتي الموسيقية، وكان كتابي الاول قد صدر وفيه فصل كامل عن اسرائيل والشرق الاوسط، وقد لفته ذلك كثيراً لأنه قال، انه نادراً ما سمع عن اسرائيلي يكتب او يتحدث بهذه الطريقة عن الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي. كان ذلك عام 1992، بعد ذلك اللقاء ما عدنا افترقنا ابداً حتى اليوم الاخير من حياته. كنا اذا لم نلتق نتهاتف يومياً.

* وكيف بدأ التفكير في مشروع الاوركسترا العربية ـ الإسرائيلية للشباب؟ ـ عام 1999 اختيرت «فايمار» العاصمة الثقافية لاوروبا، وكان ذلك حدثاً مهماً لأنه لأول مرة يتم اختيار مدينة من ألمانيا الشرقية سابقا. والرجل الذي كلف ادارة البرنامج الثقافي ذلك العام اتصل بي وطلب مساعدتي، لأنه كان رجل مسرح وأدب وأراد برنامجاً موسيقياً. وبعد محادثة طويلة، عبر عن اسفه لرفضي التعاون معه خصوصاً ان «فايمار» تمثل الافضل والاسوأ في تاريخ ألمانيا، الافضل بسبب غوته وكبار الشعراء والفنانين، والأسوأ لأنها تبعد خمسة كيلومترات فقط عن معسكر الاعتقال النازي «بوخيناو»، وانه كان يتمنى تحقيق انجاز ثقافي جديد، وبعد ليل من الحديث المتواصل، قلت له، هل تعرف ان من بين اسباب إنشاء دولة اسرائيل كان الهولوكوست، ولهذا، فان الالمان وبطريقة غير مباشرة مسؤولون عن المشكلة الفلسطينية ايضاً، واذا اردت فعل شيء فليكن شيئاً يجمع الاسرائيليين والعرب. فسأل: كيف؟ قلت: لا اعرف، لكن اذا اقتنعت بفكرة الاتيان بموسيقيين عرب واسرائيليين، فانا استطيع ان اتكلم مع صديقي ادوارد سعيد حول هذا الامر.. واعتقدنا انه اذا نجحنا فيمكن ان نحظى بثمانية او تسعة موسيقيين شبان. ولم نعرف عدد الموسيقيين الجيدين الذين سيأتون من العالم العربي. لذلك قلت له، عليكم البدء من الجهة العربية لأننا نعرف نوع الموسيقى في اسرائيل التي يتعلمها الشباب. وفوجئنا باننا تسلمنا ما يفوق المائتي طلب من العالم العربي فقط، وبعض الذين تقدموا من الشباب العرب كانوا من المستوى العالي جداً. ان بعض اهم اعضاء الاوركسترا هم من العرب. عازف التشيلو الاول في الفرقة مصري، وهو الآن عازف التشيلو الاول في اوركسترا برلين فيلهارمونيك، هناك لاعب الكلارينيت، ومحمد صالح لاعب الاوبوا.. الابرز من مصر وسورية، والعازفة الفلسطينية في الخامسة عشرة من عمرها هي من رام الله، وفي الفرقة فلسطيني من اسرائيل من الناصرة، وعازفون لبنانيون واردنيون واسرائيليون.

* كيف يتعايشون مع بعض، كيف يتحادثون، وماذا عن مستقبلهم اذا حل السلام او اذا ظل ذلك السلام حلماً بعيداً؟ ـ هذا ليس مشروعاً سياسياً، ولا احد يقول للعازفين ما عليهم ان يفكروا او ان يعملوا، لكن الواضح لدى الجميع، اننا لا نعتقد بالحل العسكري، ولو كنا نؤمن بحل عسكري ما كنا اقدمنا على هذا المشروع. هذا هو الامر الوحيد الذي اتفقنا عليه جميعاً، وفي هذا المشروع تتوفر للشبان فرصة ان يعرفوا الشخص الآخر، ان يعرفوا رواية الآخر. تعرفين، ان عدداً من الشبان الاسرائيليين في الفرقة لم يسمعوا سابقاً برواية الفلسطينيين، وهذا ايضاً ينسحب على الفلسطينيين لم يسمعوا قصة الاسرائيليين. انه مكان رائع. ومثل بقية الشبان، يتجاورون ويتحاورون ويقعون في الحب، ويقرأون ويتدربون...

* وهل ان الجميع حصل على مباركة أهله لهذا العمل؟ ـ طبعاً، وللصغار هذا أمر حتمي. في الفرقة الآن لبنانيان، احدهما في الرابعة عشرة والثاني في الخامسة عشرة من العمر، وما كان يمكن لهما المجيء من دون موافقة وتشجيع الاهل.

* وهل تنوي زيارة العالم العربي مع الفرقة؟ ـ اتمنى ذلك، لكن هذا غير ممكن الآن. احب كثيراً الذهاب الى بعلبك مثلاً، وأحب الذهاب ايضاً الى دمشق، لكن اعتقد انه عندما سنعزف في رام الله الاسبوع المقبل، فان الابواب قد تنفتح في وجه الفرقة.

* ستكون المرة الاولى في رام الله؟ ـ ستكون المرة الاولى التي يذهب فيها سوريون واسرائيليون ولبنانيون للعزف في رام الله. وكلنا ننتظر تلك اللحظة.

* لقد قلت انك لم تلتق ابداً ياسر عرفات وكان ذلك خيارك. فهل ستلتقي محمود عباس هذه المرة؟ ـ انا متأكد من ذلك، ولقد دعاني لزيارته وسألبي الدعوة بكل سرور، ثم آمل ان يأتي الى الحفلة الموسيقية.

* قلت ايضاً، انه عند الفلسطينيين هناك «المسار الثالث» الذي يطرحه مصطفى برغوتي. ـ انا أؤمن بالمبادرات السلمية، وايضاً بالحركة الديمقراطية، لأنني اعتقد ان الفلسطينيين لن يستطيعوا التوصل الى الحل النهائي للقضية، إلا عبر تغيير ديمقراطي في طريقة حياتهم وعيشهم.

* تقول ان الفلسطينيين يحتاجون الى الديمقراطية لحل الصراع، لكن كيف يمكن اقناع الحكومات الاسرائيلية بأن الديمقراطية تحل الصراع؟ ـ الديمقراطية بحد ذاتها لا تحل الصراع، لكن الصراع يمكن حله عبر الديمقراطية. واعتقد ان على الحكومة الاسرائيلية ان تتعلم دروساً كثيرة.

* مثل ماذا؟ ـ عليها ان تعرف، ان هناك شعبين مرتبطان بتلك المساحة الجغرافية التي يسميها قسم فلسطين ويسميها القسم الآخر إسرائيل، وليس هناك من حل عسكري، لهذا عليهم التعلم كيف يشتركان ويتقاسمان ذلك. قبل بدء التفاوض حول الحدود واين ستكون، يجب ادراك المفهوم والفكرة. ولهذا السبب لا يتوصلون الى حل. انه من السهل تحديد اين ستمر الحدود، لكن من اجل التوصل الى ذلك، يجب ان يكونوا مقتنعين بأن عليهم تقاسم تلك البقعة الجغرافية. ثم لا يحق لأي فئة من الناس ان تتحكم بفئة اخرى. والشعب اليهودي. بعد تاريخنا، لا يحق له ذلك. منذ 38 سنة، وهم يحتلون ارضاً، هذا غير مسموح به على الاطلاق. الاحتلال ليس فقط سيئاً بالنسبة الى الفلسطينيين، انه سيئ بالنسبة الى اسرائيل، للأسس الاخلاقية لإسرائيل..

* وسيء بالنسبة الى مستقبل اسرائيل باعتقادك؟ ـ بكل تأكيد. تعرفين، لقد عاش الشعب اليهودي عبر قرون عديدة، كانوا مرتاحين في بعضها، ومكروهين في بعضها الاخر، واحياناً كانت تساء معاملتهم الى درجة لا يمكن تصورها، كما عاملتهم النازية، ولكن عبر التاريخ، كان العالم دائماً معجباً بالذكاء اليهودي، ولكن الاسلوب الذي تتعاطى به الحكومات الاسرائيلية اخيراً، يظهر غياباً كاملاً للذكاء. ان هذه الحكومات تقتل الاسطورة. المهمة الوحيدة، ان ما تقوم به الحكومة الاسرائيلية ليس دليل ذكاء. لا يمكن الاستمرار في احتلال الارض والتحكم بالشعب لمدى 38 عاماً، ثم التوقع منهم ان يوقعوا اتفاقية سلام. تعرفين، يجب عدم توزيع الشعور بالذنب. عام 1948 عندما تم انشاء دولة اسرائيل، رفض الفلسطينيون والعالم العربي تقسيم فلسطين. انا لا اناقش الآن، ما اذا كان ذلك القرار صائباً ام خطأ. لقد صار من الماضي. اليوم بعد ستين عاماً لا نزال في الوضع نفسه. كلنا نعرف ان علينا ان نتقاسم ونتشارك، واسرائيل دولة. هل تعرفين ان هناك واقعاً بسيطاً ترفض ان تدركه الحكومات الاسرائيلية. انه طوال 500 عام عاشت شعوب المنطقة في ظل السلطنة العثمانية، يهودا ومسلمين ومسيحيين، متراضين متخاصمين غير مهم، ثم لمدة ثلاثين سنة في ظل الانتداب البريطاني، مرورا بفترات حسن جوار وبفترات عنف.. ايضاً غير مهم. وعام 1948، سأل الفلسطينيون عندما غادر البريطانيون: لقد تخلصنا من الغرباء، فلماذا تريدون البلاد كلها لكم؟ هناك عدة اجوبة لهذا السؤال، انما على الاسرائيليين ان يعرفوا ان هذا السؤال منطقي. ويمكن ايجاد عدة اجوبة والكثير منها قد يكون صحيحاً، انما يجب احترام واقع ان هذا السؤال شرعي. اعتقد، ولا اظن في كل الحالات أن هناك حلاً آخر، يجب ان يكون الحل باقامة دولتين مستقلتين. لا حل آخر، ولن يقبل احد بأقل من هذا، او بحل آخر. المهم فهم منطق ذلك السؤال، وللأسف فان الحكومات الاسرائيلية لا تدرك هذا، يأتي الجواب: ان الفلسطينيين يريدون التخلص منا. ان اسرائيل ليست «غيتو» في وارسو. انها دولة قوية ولديها جيش قوي. والمشكلة هي انها لن تستطيع ايجاد حل للمشكلة بجيش قوي. يمكنها ان تربح حرباً ضد دولة اخرى. ضد لبنان مثلاً او ضد سورية، او ضد كل الدول العربية مجتمعة، لكنها لن تحل المشكلة الفلسطينية بالوسائل العسكرية، لأن هذه المشكلة في الداخل.

* كيف ترى الآن الانسحاب من غزة؟ هل تراه الخطوة الاولى لانهاء الاحتلال وعلى الاسرائيليين ان يدركوا ان عليهم المشاركة في الارض؟ ـ من الصعب التنبؤ. ان الانسحاب من غزة بحد ذاته، امر جيد، خطوة في الاتجاه الصحيح، لكن، يجب ان يكون الخطوة الاولى فعلاً. يمكن تشبيهه كما لو ان عندك طباخاً يعد طبخة. ان الانسحاب من غزة شبيه بالطبخة التي لا تزال في المطبخ، وعلينا الآن تحضير الصحن والطاولة، والاتيان بالطبخة ودعوة الناس لتذوقها واكلها. انها طريق طويلة. اذا توقف الانسحاب عند غزة، واذا كانت هذه الخطوة مجرد مناورة، فانها تكون بمثابة كارثة.

* تقول انك تؤمن بحل الدولتين، وقلت مرة، دولة فلسطينية تلتقي فيدرالياً مع اسرائيل، وان تكون القدس عاصمة واحدة للدولتين؟ ـ هذه امكانية، ويمكن ان تصبح القدس عاصمتين، واحدة لكل دولة.

* ماذا عنيت بالفيدرالية؟ ـ قصدت، اولاً دولة فلسطينية مستقلة قادرة على العيش، والى جانبها دولة اسرائيلية قادرة على العيش ايضاً، وهي موجودة، اما في ما يتعلق بالفيدرالية، فلأن هناك الكثير من الامور على الدولتين المشاركة بها، كالسياحة مثلاً، ولنفترض ان مسيحياً من فرنسا، اراد المجيء الى الاراضي المقدسة، انه لا يريد ان يختار هل يذهب الى الناصرة ام الى بيت لحم، هو يريد المجيء وزيارة المدينتين. هذا ما قصدت بالفيدرالية، تماماً مثل البنيلوكس.

* ذكرت مرة، انك عندما شببت في تل ابيب، لم تكن على علم بانه على بعد مسافة قصيرة من المكان الذي تعيش فيه، هناك فلسطينيون يعيشون في مخيمات تعيسة جداً في اوضاعها متى ادركت الامر؟ ـ عام 1970.

* وكيف عرفت، ما كان السبب؟ ـ لانني سمعت يومها رئيسة وزراء اسرائيل غولدا مئير تقول: «لماذا نتكلم عن الشعب الفلسطيني، لا يوجد شعب اسمه كذلك. نحن اليهود الذين نعيش هنا، نحن الفلسطينيون». فقلت لنفسي، كيف يكون هذا ممكناً؟ ثم بدأت ابحث عن الحقيقة واتفاعل معها.

* هل حدث ان عدت وزرت ذلك الملهى في ميامي في اميركا؟ ـ يا الهي، تعرفين الكثير عني.. كان ذلك عام 1958 والمكان مكتوب على مدخله: لا لليهود، لا للسود، لا للكلاب.. لم احاول زيارته مرة اخرى..

* وتظن ان العالم تغير كثيراً منذ تلك الايام؟ ـ في هذا المفهوم نعم. اعتقد ان العالم تغير بطرق ايجابية، لم يكن كل تغيير سيئاً. تعرفين، قبل ثلاثين سنة، ما كان يمكن التفكير او القبول باوركسترا افرادها من الشرق الاوسط، تعزف «ماهلر» في لندن وفي «البرومز» بالذات، كان الناس يعتبرون «ماهلر» موضوعاً اوروبياً صرفاً. حصل انفتاح عظيم، وتعلم العالم ان يقبل وجود قائد اوركسترا عظيم من الهند، زوبن مهتا يقود بروكنر في فيينا، وفردي في ايطاليا. وقائد اوركسترا ياباني سييحي اوزاوا، وهناك الصيني الشاب عازف البيانو واسمه لانغ لانغ.. هذه كلها تطورات جديدة وقعت في الخمسين سنة الاخيرة.

* وكنت انت اول قائد اوركسترا يلعب فاغنر في اسرائيل؟ ـ عزفت موسيقى فاغنر في اسرائيل في الثلاثينات.

* اثناء الانتداب البريطاني، انما مؤخراً بعد انشاء دولة اسرائيل، كنت اول من تجرأ على تقديم فاغنر، وواجهت مشاكل أليس كذلك؟ ـ كلا، الحفلة الموسيقية كانت جيدة، انما بعدها وقع ما يشبه الفضيحة في الصحافة وفي التلفزيون. وهذه المرة سنلعب فاغنر في رام الله في 21 الشهر الجاري.

* اريد ان اسألك عن سبب اصرارك على دور اوروبي للمساعدة في ايجاد حل للقضية الفلسطينية، وكأنك خمنت واصبت عندما قلت ان اوروبا اذا لم تساهم في ايجاد السلام في الشرق الاوسط فان الشرق الاوسط سيأتي بالعنف الى اوروبا؟

ـ وقد رأيت ما حصل في اوروبا مؤخراً. لا يمكنك اغلاق عينيك والتوقع ان الامور ستحل نفسها بنفسها.

* قلت ان الانسحاب من غزة خطوة جيدة، البعض يتفق معك، انما متخوف من مشاكل فلسطينية داخلية؟ ـ طبعاً هذا سيحصل، لذلك على المجتمع الفلسطيني الوصول الى مرحلة يحصل فيها على الهدوء، ويصبح مجتمعاً فعلياً. لا يمكن اقناع الفلسطينيين بالحصول على دولة من عدة اقسام. لا يمكن فعل هذا. ان الطريق صعبة، واذا كان الفلسطينيون سيعانون من اوقات صعبة، فان الاسرائيليين سيعانون ايضاً. ان اي رئيس وزراء اسرائيلي يقول لشعبه، ان طريقتي بقمع الفلسطينيين ستوفر لكم الامن وتبعد عنكم العنف، يكذب. لا يوجد دواء ساحر لذلك. على رئيس الوزراء الاسرائيلي، بغض النظر عمن يكون، ان يوفر شروطاً للفلسطينيين كي يعيشوا بكرامة في مجتمع لائق، عندها سيتقلص العنف ويتوقف. اما اذا لم يفعل هذا، وترك الفلسطينيين يعيشون بطريقة لا يملكون شيئاً يخافون من فقدانه، عندها سينفجرون. تماماً كما الحال في العلاقات الانسانية، اذا عاش زوج وزوجته لسنوات، وظل يعاملها بطريقة سيئة جداً الى درجة ان تشعر في النهاية بانه ليس هناك من شيء تخاف فقدانه، فانها تذهب او تقتل زوجها. لكن، اذا شعرت بان زوجها يملك شيئاً مهماً يتعلق بها، فربما تقبل بامور صعبة في ظروف اخرى تقبلها. يجب ان يكون هناك شيء. ان اللحظة التي يأخذ هذا الزوج من زوجته، آخر نقطة من الامل الاخير، ولا يعود هناك ما تخاف فقدانه، لأنه لم يعد هناك شيء، عندها لا تعود الزوجة مسؤولة او يمكن محاسبتها.

* ولكن ذلك الجدار الذي يعتقد المسؤولون الاسرائيليون انه سيحل مشكلة العنف؟ ـ ان للجدار مشكلتين. الاولى: فكرة الجدار، والثانية: اين هو ذلك الجدار. الجدار هو امر زائف، لانه يمر في الاراضي الفلسطينية. لو تم بناؤه حيث المفترض ان تكون الحدود، عندها يمكن النقاش. انا ما ازال اصر على انه فكرة خاطئة. ثم ان تشييده على الارض الفلسطينية انما جاء لاقتطاع المزيد من الارض ليس الا.

* ان بعض القادة الاسرائيليين لا يريدون دولة فلسطينية مستقلة، ويدعون انها ستكون مكونة من حماس والجهاد، ولا يريدون مثل هذه الدولة على حدود اسرائيل، ولهذا وافقوا على الانسحاب من غزة فقط؟ ـ ولهذا قلت، ان الفلسطينيين في حاجة الى نظام ديمقراطي، وفي اللحظة التي تصبح فيها حماس مشمولة وطرفاً في نظام برلماني ديمقراطي، فان عليها ان تتخلى عن السلاح، لأنه سيكون لها رأي ودور وقرار سياسي. الآن لا شيء من هذا لدى حماس، وبالتالي فانها لا تتحمل اي مسؤولية. يجب جعل حماس مسؤولة تجاه الفلسطينيين، وتصبح مسؤولة بجعلها جزءاً من مجتمع ديمقراطي فلسطيني.

* انت مأخوذ جداً بالفيلسوف سبينوزا، هل تشعر بانك سبينوزا آخر، او نسخة عنه؟ ـ كلا.. لقد تعلمت الكثير منه، واحاول ان اتبع المبادئ الاخلاقية التي شرحها وطرحها.

* لكنه استسلم ولم يكن يقبل المغامرة، انت على العكس مستعد للاقدام على المغامرة.. مثل هذا المشروع.. وتقديم فاغنر في اسرائيل، والتبرع بجائزة الدولة الاسرائيلية التي حصلت عليها للكونسرفاتوار الفلسطيني.. كلها مغامرات؟

ـ افعل كل ما اؤمن به.. ثم لماذا تقديم جائزتي الى الكونسرفاتوار الفلسطيني، مغامرة؟ ان كل شاب في هذه الاوركسترا، يسبق السياسيين والشعب في بلاده بما لا يقل عن عشرين سنة. ان لاعب الكلارينيت السوري في الفرقة كنعان العظمة، وفي مؤتمر صحافي في بيونس ايريس بعد احيائنا حفلة موسيقية، سأله صحافي: انك تلعب في فرقة مع الاسرائيليين؟ اجاب: نعم، لكنني اتيت الى هنا، لأنه تتوفر لي فرصة للتعبير عما افكره به كسوري، انا اعتقد ان علينا استعادة هضبة الجولان. انا احببت المجيء الى هنا، والتحدث الى الاسرائيليين وابلاغهم بما اريد، ثم العب الكلارينيت، وارى انهم معجبون بي ويصغون الي.

* انها طريقة اتصال جيدة؟ ـ لكنها طريقة جديدة في العالم العربي. انا احترم هذا، ما كنت ساحترمه لو قال: «اتيت الى هنا، لألعب الكلارينيت وانه امر جيد ان التقي اسرائيليين واعزف معهم». انا اعرف ان هذا غير حقيقي. ان هؤلاء الشباب، لديهم القدرة والاستعداد للقتال والدفاع عن قضاياهم، وهم يفعلون هذا في «وسط عرين الاسد»، هم الشجعان، وليس انا.. سأصبح في الثالثة والستين في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، عشت حياة خمسة اشخاص.. كانت حياتي مليئة جداً، ووصلت الى مرحلة تسمح لي بالقيام باعمال، اما لاعتقادي انها مهمة، او لانني استمتع القيام بها.

* هل ما زلت تملك ذلك الحلم الذي تحدثت عنه عام 1999؟ ـ ان الاحلام والمبادرات تزداد صعوبة مع السنين، صعوبة في تحقيقها.. مازلت اذكر ما كتبت عن ذلك الحلم، بأن على الاسرائيليين ان يوفروا للفلسطينيين الاحتفال باستقلال الدولة الفلسطينية في اليوم نفسه الذي تحتفل اسرائيل بيوم استقلالها، ايار (مايو)، كي نلغي مسألة ان الاستقلال الاسرائيلي 15 هو يوم «النكبة» عند الفلسطينيين. لو ان الاسرائيليين فعلوا هذا منذ عشرين سنة، لكان فعلهم مبادرة عظيمة، اليوم لن يعني فعلهم شيئاً، لأن الفلسطينيين يشعرون بانهم يسحبون استقلالهم غصباً عن كل الاسرائيليين.

* لكنك ما زلت تملك ذلك الحلم، وان يصبح ايار (مايو)، «يوم السلام» 15؟ ـ ما زلت احلم بذلك الحلم، وان كنت اعتقد ان هذا لن يحدث.