أحمد الحليمي: لعبت دورا تصالحيا داخل الاتحاد الاشتراكي والجميع يعرف هذه الحقيقة

المندوب السامي المغربي للتخطيط قال في حوار مع «الشرق الأوسط»: لم أعد تنظيميا أنتمي لأي حزب

TT

يعد احمد الحليمي علمي، المندوب المغربي السامي للتخطيط (يعادل مرتبة وزير) واحدا من الوجوه السياسية التي برزت بشكل لافت سيما ابان حكومة عبد الرحمن اليوسفي حيث تحمل مسؤولية وزارية تمثلت في حقيبة ثقيلة جمعت ما بين الاقتصاد الاجتماعي والصناعة التقليدية والمقاولات الصغرى والمتوسطة والشؤون العامة للحكومة وهي تجربة لم تمر دون اثارة مشاكل، يقول الحليمي نفسه عنها، ان بعض الاشخاص ظنوا انه السبب في عدم مشاركتهم في الحكومة التي يسميها «حكومة توافق» وليس «حكومة التناوب». ويعتقد انه كانت له رؤية واضحة حول عمل وزير اشتراكي في حكومة ليست فيها رائحة الاشتراكية.

ويتردد الحليمي في وصف الحكومة الحالية بـ «التكنوقراطية». ويعتبر الامر مجرد اوصاف تلصق بحكومة ما ويصعب معها قراءة المحتوى السياسي واهداف من يطلقون هذه النعوت.

في هذا الحوار المطول مع الحليمي سيتوقف عند علاقاته مع رفاق الامس ويوضح مآل هذه العلائق اليوم انسانيا وحزبيا وسياسيا، كما يطلعنا عن تفاصيل عمل المندوبية السامية للتخطيط شارحا كيف يجب ان يفهم تضارب الارقام بين مندوبيته، وحكومة ادريس جطو او غيرها. كما لم يتردد الحليمي في ابداء رأيه الصريح في اسباب تراجع «الاحزاب التقدمية»، واسباب بروز ومستقبل الاسلام السياسي، وقضية الاصلاح الدستوري، وكيف ينطلق العاهل المغربي الملك محمد السادس في اصلاح المؤسسة الملكية بسرعة، في حين تتخبط احزاب الصف الديمقراطي في مشاكلها. في ما يلي نص الحوار:

* قمتم بادوار سياسية مهمة في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ايام المعارضة، ثم اصبحت وزيرا بحقيبة ثقيلة عريضة في حكومة عبد الرحمن اليوسفي هل مازال في الطموح بقية؟

ـ اجيبك صادقا ان طموحي لم يكن يوما من الايام ولن يكون ابدا طموح مناصب، بل كان طموحي وسيبقى ان اكون ذلك المواطن الصالح المستحق لرضى ربه وشعبه وملكه.

* عندما كنت طالبا او تلميذا او معارضا لا شك انه كانت لديك صورة معينة عن الوزير او الموظف السامي، أما الان وقد تقلدت هذه المناصب هل ما زلت تحتفظ بتلك الصورة ذاتها؟

ـ اشتغلت في الادارة المغربية وانا سياسي في المعارضة في وقت كانت فيه فكرة الاشتغال بالادارة لا تلقى استحسانا لدى اوساط المعارضة يقينا مني ان مصدر المعلومة في بلاد كبلادنا هو الادارة، والسياسي يجب ان ينطلق من العلم بالواقع وان يتوفر على معلومات مضبوطة، حتى ان دخل دواليب التسيير الحكومي فلن يكون في غنى عن التجربة الادارية لتدبير الشأن العام، علما ان كل معارض يطمح في الوصول يوما ما الى تحمل هذه المسؤولية، ناهيك من ان الصمود ازاء كل الاغراءات والفساد الذي طال الادارة لعقود عدة، يتطلب، وأنت فيها، قوة ارادة اكبر مما يتطلبه الموقف وأنت في موقع المعارضة خارج الادارة.

* معنى هذا انه كان لديك رأي شخصي في الادارة حتى وانت في حزب معارض؟

ـ كان لي حرص دائم على ان يكون لي رأيي المستقل حتى وأنا داخل الحزب، كنت ابتعد بنفسي عن اي تفكير نمطي محنط، في حين اصبح عدد من المتشددين والمتشدقين بالأخلاق الفاضحين للفساد، فاسدين ومفسدين بمجرد ما وصلوا الى مواقع المسؤولية، سواء عن طريق الانتخاب او من دونه.

* قلت «عندما كنتُ في المعارضة» هل معنى هذا ان زمنها ولَّى بداخلك؟ ألم يبق بك من المعارضة بقية؟

ـ سياسيا لم احد قيد انملة عن مقاربتي ومثلي العليا في تصوري للمجتمع وسبل تغييره، فانا ما زلت اؤمن بمنهجية التحليل الاشتراكي وانه الاقدر على استيعاب حركية الواقع وتناقضاته قصد تجاوزها، وهذه المنهجية تحنطت وتجمدت في مرحلة الاتحاد السوفياتي، كما اؤمن بان تجاوز القدرات المرحلية لتغيير المجتمع لن يؤدي الا الى الانتكاسات والى العكس تماما من الهدف المتوخى من عملية التغيير.

* انت تقول انك ما زلت وفيا لهذه القناعات التي تحدثت عنها الان، ترى هل ما زال الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي كنت تنتمي اليه وفيا بنفس الدرجة لهذه الشعارات المنحازة للطبقات المسحوقة؟

ـ اعتقد ان الاتحاد الاشتراكي او بالأحرى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كنت من العاملين على خلق شروطه والمؤسسين له وانا طالب قد انطلق بداية على انه اطار للقوات الشعبية وقد رفع شعار «لا حزبية بعد اليوم»، اي انه منذ انطلاقه كان محكوما عليه ان تكون بداخله تيارات، وكان من المفروض ان تفصح هذه التيارات عن نفسها كلما تطورت الوضعية، لكنها في غياب تنظيم ديمقراطي للحوار سلكت سبيل الانفصال والانشقاق، ورغم ذلك بقيت في الاتحاد الاشتراكي تيارات فكرية تلتقي في بعض الجوانب، وبقي الجانب المسيطر بحكم ظروف القمع هو العلاقات الانسانية والتضامن الانساني بين المناضلين. والحالة هذه، لا يمكننا القول ان كل عضو في الاتحاد الاشتراكي كان منسجما مع مواقفه كما تعبر عنها الاجهزة، بل كان عدد من المنتمين وانا واحد منهم يعتبر ان الاتحاد هو الاطار الاقرب للتفكير الذي يؤمن به. ومع الانفتاح الديمقراطي اتضح انه ربما بقي في هذا الاطار السياسي، على صعيد القاعدة وعلى مستوى اقل في القيادة، من يشاطرني واشاطره نفس المنهجية والاخلاق والشعور.

* ومع هذا لا يمكنك ان تنكر انك لعبت ادوارا مهمة في الحزب رغم هذا النقد الذي تبديه اليوم، ورغم انف الاختلاف الذي كنت تشعر به ازاء عدد من الممارسات داخل الاتحاد الاشتراكي؟

ـ ابدا، ولا يمكن لغيري ان ينكر انني لعبت ادوارا مهمة في القيادة والتفكير الاتحادي وبالتالي ليس من الاخلاق في شيء ان يقول احدهم انني لست اتحاديا او ينازعني في هذه الصفة.

* ولكنك عمليا لست في الاتحاد الاشتراكي؟

ـ تنظيميا لست في اي جهاز سياسي سواء الاتحاد الاشتراكي او غيره ولست ملتزما بأي قرارات تصدر عن اية جهة، الا اذا كانت منسجمة تماما مع ما افكر فيه واعتقده.

* حديثك يوحي بمرارة مبطنة ازاء الاتحاد الاشتراكي، ولكن مع هذا ليس بوسعك ان تنفي بسهولة فضل الحزب عليك سواء في مسارك المهني او السياسي، أليس كذلك؟

ـ لم اكن مستعدا للمشاركة في حكومة التناوب، كما تسميها والتي سميتها دائما «حكومة التوافق»، رغم اني كنت من العناصر التي عملت بقوة وفي اوقات حاسمة من اجل الوصول الى هذه المرحلة. ان ما تم آنذاك كان توافقا وطنيا كان المحرك الاساسي فيه هو الملك الحسن الثاني رحمه الله، وتوفرت ظروف دولية واقليمية وداخلية جعلت كل طرف يرى في هذا التوافق عملية ملحة.

* ما هي ذكرياتك الشخصية مع تلك المرحلة بالذات؟

ـ اتصل بي عبد الرحمن اليوسفي في نفس اليوم الذي استدعي فيه من قبل القصر الملكي لمقابلة الملك الحسن الثاني رحمه الله. ذهبت الى الدار البيضاء فأخبرني بموضوع تشكيل الحكومة، وقال لي «لقد استغللناك دائما، ومثلما استغلك سي عبد الرحيم (بوعبيد) سأستغلك انا ايضا، واني اريدك ان تكون معي في هذه الحكومة، وانت من اقنعتني بها». وبدات العمل الي جانب سي عبد الرحمن الى ان تأكدت مشاركة الاتحاد في الحكومة وتم عرضها على المكتب السياسي حيث تم اقتراحي فيها من جميع اعضاء هذا المكتب ممن عبروا عن رايهم في مرشحي الحزب. وما زلت اتوفر على هذه الاقتراحات مكتوبة في وثائق فيها من يرشحني وزيرا للفلاحة او من يرشحني للشؤون العامة للحكومة، علما اني كنت في القرض الفلاحي (بنك حكومي) الذي حصلت فيه على التقاعد المبكر، وكنت مقبلا على ادارة شركة مغربية عربية مهمة وفي ظروف عمل مادية اهم بكثير من منصب الوزير. من هذا المنطلق، دخلت التجربة الحكومية والاستيزار على اساس انه واجب وطني، وعلى اساس اني ساقدم خدمة للاتحاد الاشتراكي ولذلك التوافق الذي سيؤدي بالمغرب الى الخروج من ازمات متعددة.

* ألا تعتقد ان قربك من اليوسفي والموقع الذي شغلته داخل الحكومة السابقة كان سببا في ما حصل لك من مشاكل آنذاك؟

ـ في الواقع انه لم يسبق ان حصلت لي مشاكل كبيرة في حكومة عبد الرحمن اليوسفي، كل ما هناك ان ما اثار بعض الغيظ او الاحقاد من قبل هذه الجهة او تلك لم يكن نتيجة حقد او موقف مسبق من شخصي، بل كان مبعثه اعتقاد بعض الاشخاص انني المسؤول عن عدم مشاركتهم في الحكومة، وما اتضح بكيفية جلية، انه كانت ثمة صراعات داخل الاتحاد الاشتراكي، ونظرا للنفاق السياسي الذي يكون سائدا في مثل هذه الصراعات كان هناك من يريد ان يتهجم على اليوسفي، معتبرا الهجوم عليَّ نوعا من المس باليوسفي والنيل منه، فليس من الغرور التذكير انه قبيل تأسيس الحكومة لم يكن هناك تيار في الحزب ليس على اتصال مباشر ودائم بي، وكان الجميع يأتون الى منزلي للتدخل هنا وهناك للمصالحة او لغيرها. سواء تعلق الامر بصراع محمد اليازغي مع الفقيه محمد البصري او عندما وقع الخلاف بين اليوسفي واليازغي حول جريدة الحزب، او الخلاف بين الشبيبة الاتحادية او ما سيصبح بعدها «جمعية الوفاء للديمقراطية» والأموي بمساندة الفقيه البصري رحمه الله من جهة، واليوسفي والمكتب السياسي للحزب من جهة اخرى. وكانت اغلب الاجتماعات تتم في منزلي الى وقت متأخر من الليل، واقول باطمئنان ودون نزعة ذاتية انني كنت في اهم مراحل تطور الاتحاد احد اهم محاوره.

* هل تظن ان رفاق الامس تنكروا اليوم لتلك الادوار التي تصفها بالمحورية؟

ـ لا اظن ذلك، ولكن كثيرا ما يعمد القوم الى عملية التغييب.

* لماذا يغيبون برأيك تلك الادوار؟

ـ ربما يكون ذلك راجعا الى كون الاخلاق السياسية تريد ذلك، ومن هذا الباب فانا من السياسة براء، و بكل تاكيد لن اكون سياسيا بهذه الاخلاق.

* وهل من خير في سياسة اخلاقها نكران الجميل؟

ـ لا خير فيها ولا عقل لمن يعطي اهمية لذلك (يضحك كثيرا)

* هل ندمت على شيء في الحكومة السابقة؟

ـ كانت لي في الحكومة نظرة واضحة حول ما يجب ان يكون عليه عمل اشتراكي في حكومة ليست اشتراكية وذلك في اطار وطني اجتماعي سياسي اقتصادي لم تكن الاشتراكية مطروحة في جدول اعماله، ولا في اي بند من بنود هذا الجدول. وكنت املك مقاربة لهذا التصور، فيما انجزت من عمل، من البداية الى النهاية، ذلك اني قمت بعمل من اجل النهوض بالاقتصاد الاجتماعي، وتدعيم المقاولة الصغرى والصناعة التقليدية، وخلق دينامية لمحاربة الرشوة باعتماد الشراكة مع المجتمع المدني، وذلك قصد تدعيم موقع الطبقة المتوسطة والفئات المنتجة في بلادنا، وفي الوقت ذاته عملت على استرجاع جزء من الدعم المالي للسكر الذي كانت تستفيد منه دون مبرر اقتصادي طبقة ميسورة بينما كان يفترض ان تستفيد منه الطبقة الشعبية، مما مكن من توفير 20 مليار سنتيم (20 مليون درهم) سنويا تم توظيفها في مشاريع اجتماعية همت مدن القصدير وتوفير الماء وشبكة المجاري، كما قمت بإعادة النظر في اسعار استهلاك شبكة الماء.

* كيف ذلك؟

ـ كانت هناك ثلاثة مستويات للاسعار حسب كمية استهلاك الماء فحافظت على سعر المستويات الدنيا وزدت في سعر المستوى الثالث وانشأت مستوى رابعا بسعر اكثر ارتفاعا يؤديه من لهم امكانات مالية ويستهلكون اقساطا كبيرة من الماء في تجهيزات منزلية كمالية. وبالموازاة مع ذلك قمت بسن قانون المنافسة فضلا عن الإسهام في الدفع بالحركات الشبابية وخاصة في ميدان المقاولات. كانت سياستي داخل الحكومة تتوخى دعم الطبقات الصغرى والمتوسطة يقينا مني ان دمقرطة الحياة العامة وخلق دينامية التطور لا بد ان يمر عبر دعم هذه الطبقات التي كانت تعاني مخلفات وآثار برنامج التقويم الهيكلي خلال الثمانينات. اما ما ندمت عليه فهو انني لم اعط اهمية لتوضيح هذه المقاربة وما واجهته من اعتراضات اوساط المصالح معززة بالسياسة المالية المتبعة وبتحركات كانت وراءها في غالب الاحيان اوساط في وزارة الداخلية وفي بعض الاحيان من وزراء للاسف ممن كانوا محسوبين على الاتحاد الاشتراكي، وهذا ما يسر بعد ذلك تغييب هذا التوجه والتنكر له رغم ما يقال عن استمرار ذلك التوجه.

* وصفت حكومة اليوسفي بانها لم تكن اشتراكية، فكيف تصف الحكومة الحالية؟ هل هي حكومة تكنوقراط ام حكومة سياسيين تكنوقراطيين ام حكومة تكنوقراطيين يمارسون السياسة؟ ام ماذا بالضبط؟

ـ اعتقد انها اوصاف تلصق بهذه الحكومة او تلك بطريقة اعتباطية يصعب معها معرفة محتواها الفكري وابعادها السياسية مع انه يمكن ملاحظة ان المشاريع والأوراش الكبرى التي انطلقت في اخر عهد الحكومة السابقة او التي تلتها مستمرة، والمهم انها تمت بمبادرات ملكية وانه مهما كانت طبيعة الحكومة فان هذه المشاريع ستمضي كما خطط لها. اعتقد ان عمل اية حكومة كان يجب تقييمه على ضوء قدرتها على التدبير اليومي لشؤون المجتمع ومدى اثاره على الحياة المعيشية، واستراتيجية تحسينها مستقبلا بالنسبة لأوسع شرائح المجتمع.

* في وقت ما كان اليسار في المغرب ينعت الملكية بالسير عكس عجلة التطور والحال اننا نلاحظ اليوم ان المؤسسة الملكية تسير بسرعة تحديث الذات بنحو ربما تعجز عن مسايرته اليوم الاحزاب التي كانت تنعت نفسها بالتقدمية، كيف تفسر هذه المفارقة؟

ـ الملكية في المغرب عمرها يقاس بالقرون وقد بنت استمراريتها دوما على قدرتها على التأقلم مع الواقع وتطوره، وذلك تاريخيا انطلاقا من التنظيمات القبلية التي لعبت دورا محوريا في توحيدها لتأسيس مسلسل تشكيل الامة المغربية، مرورا بمرحلة التحرر من الاستعمار وتزعمها للحركة الوطنية، وصولا الى بناء الدولة العصرية باعتماد هيكلة جديدة للتشكيلة الاجتماعية وانتهاء بعملية التوافق من اجل استيعاب طبقات تهمشت بفعل الاصلاح الهيكلي الذي لحق الاقتصاد، واصبحت تهدد النمط التسييري للمجتمع. هذه الصيرورة تجعل الملكية ذات مرجعية تاريخية في عملية تدبير المجتمع مما يجعل اية قوة اخرى لا تستطيع ان تسلبها الزعامة التي اكتسبتها في هذا المسار التاريخي. فالحسن الثاني رحمه الله صاحب مبادرة التوافق ربما ترتبت في علاقاته المتعددة مع قادة الحركة الوطنية حساسيات منها الايجابي والسلبي. اما اليوم فلماذا هذا التوافق مرتبط بملك ليست له اية حساسيات من اي نوع ومع اي كان، وبالتالي اصبح يتمتع بهامش في العمل متحرر من عقد الماضي ويؤهله للعمل باداء عال، في حين اصبحت الحركة التقدمية والوطنية بصفة عامة للاسف تعاني خلافات وانقسامات بفعل طغيان المصالح الفردية والمطامح الفئوية المتعددة، وغياب مشروع مجتمعي واضح المعالم واستراتيجية الانجاز. والحال انها افتقرت في مسارها بالمعارضة لاسباب التجربة فيما يخص تدبير الاقتصاد والعلاقات الدولية المتشعبة باستمرار. والحقيقة ان وضع الاحزاب السياسية بالمغرب يمكن اعتباره نتيجة طبيعية لسيطرة وزارة الداخلية على امتداد ثلاثين سنة على تدبير النخب السياسية مما ادى الى تهميش من كانت لهم القدرة على التأقلم والارتباط بالجماهير او انهاكهم او استقطابهم. اذن هذه المفارقة التي تتحدث عنها نتيجة لتطور اصبح فيه الملك يتوفر على قدرة هندسية في تدبير المجتمع بينما هناك اجهزة حزبية او مؤسسات اخرى لم تراكم من التجربة ما يكفي ولم يعد لها الالتزام الضروري ببرنامج عملي مؤثر لتكون في مستوى التدبير السياسي المطلوب للمجتمع.

* يوجد بالمغرب اليوم مشروع سياسي كبير اسمه الاصلاح الدستوري، كيف يمكن تكييف هذا المطلب وجعله في صالح انتقال ديمقراطي وتنموي للمجتمع المغربي، والابتعاد به عن مجال الشعارات وربما المزايدات السياسية، علما ان عددا من الجهات السياسية اصبحت تطرح هذا الموضوع من باب الموضة السياسية للمرحلة؟

ـ لو راجعنا تراثنا الثقافي سنجد طغيان انتاج الفقهي والحديث والنحو، على الانتاج الادبي الوطني، فنحن لم ننجب عبر التاريخ كثيرا من القصصيين والشعراء ومن مؤرخين، ولكن كنا دائما فقهاء ومفتين بكيفية ممتازة، ثم اننا ورثنا عن الاستعمار الفرنسي النزعة البونابارتية المتمثلة في طغيان القانونية التي تعمد دوما الى حل كل مشكلة تطرأ بالرجوع الى اعادة النظر في القوانين، خلافا للمنظور الانغلوسكسوني الذي يحل الازمات من خلال برامج واجراءات عملية تسايرها الاصلاحات القانونية بكيفية بعدية، انها البراغماتية الانغلوسكسونية مقابل الدوغمائية الفرنسية التي انضافت الى ما ورثناه من ثقافتنا الوطنية التقليدية. وهكذا كلما وقعت مشكلة في المغرب الا قلنا يجب تغيير القانون او سن قانون جديد او خلق مؤسسة. وهكذا يتم اليوم وامام ما تعرفه البلاد من مشاكل، اختزال حلها من قبل بعض الاوساط في مسالة واحدة هي الدستور. واسمح لي هنا بطرح بعض الاسئلة: هل اذا غيرنا الدستور سيتغير ما يعاني منه المجتمع السياسي من اختلالات؟ هل ستتغير النخب المسيرة للاحزاب السياسية؟ هل ستتبدل السلوكات الاخلاقية والسياسية بشكل ميكانيكي؟ هل في الدستور الحالي ما يمنع الاحزاب عندما تختلف حول تشريع ما الا تحل خلافاتها بالاعتماد على الالية الدستورية وتلجا الى الملك لإطفاء نار الفتنة بينها كما حصل في قضية ادماج المرأة في التنمية؟ هل في الدستور الحالي ما يمنع الاحزاب من مبادرات تحسين ادائها الا اذا جاءت هذه المبادرات من عند الملك؟ هل تغيير نمط توزيع السلط الحالي سيضمن الحد من هذا التشتت او يصلح نوعية المنتخبين؟ بالطبع لا. عندما لا تكون هناك رغبة في التغيير او مبادرات جريئة في هذا الميدان يتدخل الملك بحكم سلطته التي هي نفس سلطة جميع رؤساء الدول في العالم بوصفه مسؤولا عن الاستقرار والانسجام في المجتمع ككل، وبالتالي عليه التدخل كلما بدا ان هناك ما يزعزع وحدة البلاد او يتهدد استقرار المجتمع، او عندما تتاخر حركية الحكومة في استقطاب رؤوس الاموال والدفع بالتجهيزات الاساسية الضرورية للبلاد.

* هل افهم من هذا انك تعتقد ان مسالة التغيير الدستوري معركة غير ذات موضوع؟

ـ اقول انها حتى الآن لا تتعدى ان تكون شعارات النخب في حدود قليلة فيها الكثير من المزايدات السياسية وقليل من القناعات الا عند القليل. والحال انه سواء غيرنا ام لم نغير الدستور المهم هو ما نحن قادرون على تغييره في اطار الدستور الحالي، وعموما لن يزيد من قدراتنا الحالية تغيير الدستور وقد ينقص منها شيئا.

* نتائج الاحصاء الذي اعلنتم عنها اخيرا حددت خريطة الفقر في المغرب ولم تحدد خريطة الثراء الفاحش علما ان الثراء غير المشروع سبب اساسي في رسم خريطة الفقر بالوطن؟

ـ المحقق ان رسم خريطة الفقر بالمغرب هو نتيجة لمزاوجة نتائج الاحصاء مع نتائج البحث حول استهلاك الاسر، وهي تقنية تمكن من اعطاء صورة عن طبقات الاستهلاك وليس طبقات الدخل، وبالتالي ما دام الفقر دوليا يحدد على اساس الاستهلاك الغذائي وغير الغذائي فيمكن ان نحدد الفقر ولا يمكننا تحديد المداخيل التي يمكن ان تعطينا فكرة عن الثروات، وهذا موضوع يجب البحث فيه عن طريق مقاربة اخرى اي عن طريق بحث ميداني احصائي، وهي عملية لن تؤدي الى معرفة حقيقية لان الناس لا يكشفون مستوى دخلهم بالضبط. ربما يتأتى ذلك عن طريق دراسة لبنية الضرائب ولكنها غير متوفرة الآن، ونحن بصدد اعادة النظر في المحاسبة الوطنية وفي هذا الاطار سنتوفر على الادوات التي ستمكننا من اعطاء فكرة عن توزيع الثروات في المغرب بكيفية اكثر دقة.

* كيف ترد على من يقول ان الارقام والنتائج التي تصدرها المندوبية السامية للتخطيط فيها احراج للحكومة لأنها تعري واقعا ربما يريد البعض التستر عليه؟

ـ البحوث الاحصائية في العالم باسره بطبيعتها مستقلة عن اية جهة ودورها ان تزود كل الفاعلين بالمعطيات التي يمكنهم ان يبنوا على اساسها مشاريعهم وسلوكاتهم، والحالة نفسها الان تحدث في المغرب. ويجب التذكير هنا بمسلسل توفير بعض المعطيات الاقتصادية في كل سنة. ففي بداية السنة المالية نقوم بتشخيص الوضع الاقتصادي في السنة الماضية واعطاء اسقاطات لما تكون عليه السنة المقبلة على اساس فرضيات حول سعر الدولار وسعر البترول او محصول السنة الزراعية. وتعتمد وزارة المالية هذه المعطيات لوضع القانون المالي (الموازنة) علما انها تتبنى اهدافا اكثر طموحا تلتزم امام البرلمان بتحقيقها. فهناك فرق بين ما نضع من اسقاطات وما تسطره الحكومة من اهداف. بعد ذلك نقوم كمندوبية للتخطيط بتحليل الوضعية اعتمادا على القانون المالي الذي تم التصويت عليه في البرلمان وكذا بتقييم نتائجه المستقبلية ونصدر توقعات لما يمكن ان تكون عليه السنة وهي توقعات ربما تكون اقل او اكثر مما طمحت اليه الحكومة، وفي منتصف السنة نقوم الوضعية من جديد ونعطي توقعات تكون اقرب الى الواقع لاننا نطلع بشكل اكبر على تطور الاسعار والانتاج الصناعي، في حين ان الحكومة تبقى معتمدة على الاهداف التي رسمتها سلفا فعندما يحدث هذا التناقض فان كان لصالح الحكومة فان ذلك لا يضرها اما ان كان اقل فقد تقول انها مؤمنة بالوصول الى اهدافها وهذا من حقها ويحدث في كل البلدان. بعد ذلك نقوم بوضع المحاسبة الوطنية التي تكون مؤسسة على ما وقع فعلا وتصدر نتائجها، وانذاك ينضبط لها الكل على اساس انها الحقيقة. لكن ما يحدث احيانا على مستوى التيارات المساندة للحكومة او المعارضة لها او على مستوى الصحف ان يتم تقديم ما يحدث من فرق بين النتائج والاهداف والتوقعات على اساس انها تناقضات، والواقع انها مسالة عادية جدا.

* هل ما زالت علاقتك بعبد الرحمن اليوسفي مستمرة؟

ـ الناس يتحدثون عن علاقاتي باليوسفي، والواقع انه كانت لي علاقات متينة مع المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد والفقيه محمد البصري رحمهم الله جميعا، وكانت علاقاتي مع الجميع دائما متصلة وحميمية مبنية على اساس الصراحة والرأي المستقل. وكثيرا ما كنت اختلف بحدة مع بعضهم، كما كان يحدث مثلا مع الفقيه البصري اذ كنت اؤاخذ عليه سلوكات او اختيارات معينة، ولكن اخلاقي كانت تمنعني من اعلان مواقفي هذه نظرا لما كان يطال الاتحاد الاشتراكي انذاك من قمع واضطهاد. كنت جريئا وواضحا لعدد ممن يقولون اليوم بالتوافق والانفتاح والليبرالية وكانوا ممن يأملون في نجاح تلك الاختيارات وينتظرون في اطارها المهدي المنتظر. اما علاقتي باليوسفي فهي باقية مستمرة الى اليوم وقد اتصلت به اخيرا حين كان يقضي عطلته باليونان، واتصلت به ايضا قبل ايام فأخبرني انه سيعود الى المغرب الاسبوع المقبل وضربنا موعدا للقاء.

* كيف يتعايش داخلك اليساري والسياسي والمسؤول السامي؟

ـ مسألة التعايش بسيطة لأنني صادق مع نفسي، مطمئن مع قناعاتي لا يتحكم في سلوكي ومواقفي سوى الوعي بكوني مسؤولا قبل كل شيء امام الله والوطن والملك.

* اليسار المغربي بدأ يتجمع كيف تنظر لهذه الظاهرة؟

ـ مصدر الاشكال هو ان اليوتوبيا التي سادت بداية الاستقلال انطلقت من الايمان بان الجماهير الشعبية بداهة تتميز وتتوفر بطبيعة معاناتها على قدرة التغيير نحو الافضل بحكم الصيرورة المجتمعية للتاريخ، وهذا ما كان بشكل او بآخر الاساس الفكري للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية فلم يكن هناك توافق حول منهجية في التفكير والتحليل، وتصور للتشكيلة الاجتماعية وقدرات تطورها على اساس تحالفات مضبوطة مما ادى الى ان تنمو في رحمه تيارات متعددة تمحورت عند البعض حول اعتماد التنظيم الحزبي والنضال الديمقراطي الجماهيري لتحقيق التقدم الاجتماعي والسياسي، وعند البعض ممن اعتنق منظورا اقتصاديا حول توجه يرى في تدهور الاقتصاد ومعيشة الجماهير مناخا يؤدي الى قيام الثورة بمجرد احداث بعض الهزات ولو عن طريق اعمال عنيفة. وامام الخطوة الجريئة لسنة 1998 اصبحت جميع الفصائل المنتسبة لهذه التيارات رغم ما تعلن من انتقادات تندرج بكيفية او اخرى في اطار التوافق، وأصبح كل منها يفكر من اي موقع يمكن ان يساهم في هذا التوافق ويضمن لنفسه موطئ قدم في هذا المسار. واتضح للجميع ان اي جزء من تلك التيارات لا يمكنه بمفرده ان يحتل في هذا الاطار موقعا وازنا، وانه للابقاء على فكر يساري متحرر في المغرب لابد من تقاطب مكونات اليسار التاريخي. فهذا التطور له ما يبرره وما يجعل الانسان يتمنى له ان ينجح غير انه لا يمكن ان نغفل ما يبدو فيه من ان ارتباطات الماضي ومخلفاته ما زالت تعمل عملها كلما تم تجاوز الشعارات حول ضرورة الوحدة واصبح الامر يقتضي توفير شروطها. فعسى ان يبقى في عالم اليوم من يحافظ على الفكر الاشتراكي بالمعرفة الموضوعية بالواقع الدولي المتغير، وعسى ان يتقمصه شباب من جيل جديد غير متاثر بخلفيات الماضي ولا بصراعاته.

* ولكن النظرة الواقعية تقتضي ايضا عدم اغفال مكون اساسي في الساحة السياسية، اقصد الاسلام السياسي؟

ـ انا لا اعرف معنى للاسلام السياسي فالإسلام لا يرتبط بنظرية اقتصادية شاملة لان المنظومات الاقتصادية تتطور على اساس تطور الانماط المجتمعية والاقتصادية، ومن المحقق ان الرسالة المحمدية كانت ثورة جامحة ضد انماط الاقتصاد والمجتمع ما قبل الرأسمالي. فهي الثورة الاولى للمجتمع الليبرالي التي فسحت المجال للتطور الذي عرفته المجتمعات في العالم. هذه قناعتي الراسخة. فلكي تكون هناك نظرية سياسية شاملة لابد ان تكون مبنية على نظرية اقتصادية شاملة تحدد نمط الانتاج والتراكم والتوزيع تتأسس عليها، فقد اتت بعد ذلك نظريات ليبرالية اسست للديمقراطية السياسية وانبثقت عنها نظريات اشتراكية اعتمدت توزيع فائض القيمة للعمل في المجتمع لتحرير المرء من الاستغلال، واسست للديمقراطية الاجتماعية. اما المغرب فهو مجتمع مسلم اراد من اراد وكره من كره، اذ لا يمكنه مثلا ان يقبل باللائكية التي آلت اليها الليبرالية او العلمانية المتصلة في الاصل بالفكر الاشتراكي لان ذلك غير منسجم مع تاريخه وعقيدته وتصوراته، لكن المجتمع المغربي قابل لان يقبل بحرية ممارسة الاديان ومنفتح على الآخر ويجد في ذلك ضرورة ملحة لتطور البلاد. قد نجد في التيارات الاسلاموية من يعتمد مرجعية اسلامية لكنه تقدمي ويعتقد بضرورة التاقلم مع الواقع مقابل من يعتمد المرجعية ذاتها ويؤمن بامكانية اعادة انتاج انماط اكل عليها الدهر وشرب في الاقتصاد والمجتمع والعلاقات الدولية. على انني متيقن ان تيارات الاسلام السياسي، كما تنعتها، جاءت نتيجة فشل الحركات التقدمية او الانظمة الديكتاتورية التي كانت مسيطرة على الساحات الوطنية واعتقد انها مع تطور المجتمع ودمقرطته ستصبح حركات سياسية ككل الاحزاب الاخرى مهما احتفظت في خطابها من ايحاءات روحية.

* هل لديك برنامج خاص برمضان؟

ـ لا اغير شيئا من برنامجي الغذائي ولا العملي. احافظ على نفس نوعية الوجبات العادية التي اتناولها في باقي الشهور، ولا تختلف الا من حيث الزمن ولا اغير من كثافة عملي شيئا.

* هل تتابع برامج التلفزيون المغربي؟

ـ اتابع الاخبار وبعض البرامج، الا ان اوقات عملي كثيرا ما تفوت علي.

* هل تستمع للقرآن و الموسيقى؟

ـ اقرا كتاب الله يوميا وهو شيء ضروري للاستقرار النفسي وللطمانينة وفيه متعة ادبية زيادة على الجانب الروحي، كما استمع للموسيقى لانني اجد فيها مجالا للخيال والتامل. والحقيقة ان نظرتي للحياة مطبوعة بالجانب التصوفي، فكثيرا ما اجد في اغنيات ام كلثوم اشراقات روحية.

* تعيش وسط الارقام والاحصاءات كيف تحافظ على ذاكرتك؟

ـ اعتقد اننا يجب ان نعيد النظر في حكمنا على المناهج التعليمية التقليدية التي تعتمد على الذاكرة. فالبدء بحفظ القران والشعر الجاهلي وغيره، ولو دون ادراك تام لمعانيه ينمي الذاكرة التي هي جزء من القدرات الذهنية، وهو ايضا مدعم ومساند ومكمل لذكاء الطفل وملكاته، فمن حسنات ذلك التكوين التقليدي ان تبقى الذاكرة قوية، عكس ما يحدث في برامج التعليم الحديث التي تلغي عملية تفعيل الذاكرة بعد اكتساح حوامل تدريس تعتمد على المسموع والمرئي لهذه الملكة البشرية.

* متى اصبحت جَدا؟

ـ مند سنوات وعندي اربعة احفاد.

* هل احتلوا مكانة الابناء؟

ـ الابناء اصبحوا اصدقاء والأحفاد اصبحوا مصدر متعة نستمتع بهم في الجوانب المسلية خلال وجودهم معنا ونترك تحمل اعباء رعايتهم لآبائهم وأمهاتهم.

* حسب بعض الصحف فان عددا من الوزراء انفصلوا عن زوجاتهم، فما علاقة الوزارة بأبغض الحلال عند الله؟ وما فائدة استيزار به خراب بيوت؟

ـ البيت الآيل للخراب يسقط سواء تم استيزار صاحبه ام لا (يضحك كثيرا) ولكن قد يكون لطبيعة العمل دور في الموضوع. الحقيقة ان ذلك مرتبط بطبيعة الزوجين فهناك من لا يستطيع التوفيق بين الحياة الزوجية والمهنية، مقابل ذلك ثمة نساء لا يقدرن مسؤولية الزوج ان كانت مضنية. وهناك بطبيعة الحال ايضا من الازواج من يكون على شفا حفرة من الغرور، ويعتبر ان اي منصب عال قد يصل اليه وسيلة للرقي الاجتماعي تدعوه للقطيعة مع ما مضى وقد يعتبر حياته الزوجية جزءا من هذا الماضي.