وزير التربية الجزائري الأسبق: فرنسا تريد استلاب عقول أطفالنا وخطاب بوتفليقة بعث صراعا كان في طريقه إلى الخمود

الدكتور علي بن محمد: كل العالم المتقدم فضلا عن المتأخر يشكو اليوم من نقائص مدرسته

TT

أنهت لجنة إصلاح المناهج التعليمية في الجزائر عملها، وهي تستعد لتسليم تقريرها النهائي إلى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي نصبها قبل أزيد من تسعة أشهر. وطيلة فترة عمل اللجنة، بل منذ تنصيبها يحوم حولها صراع ونقاش كبيران بين من يرى ضرورة أن تقدم توصيات من شأنها أن تنقذ المدرسة الجزائرية من الوهن الذي أصابها وبين من يعتقد أن هذه اللجنة إنما جيء بها لتمرير قرارات ستعيد البلد إلى نقطة الصفر، من حيث أنها تقترح إعادة التعليم باللغة الفرنسية على الخصوص. ويستند هؤلاء إلى أن اختيار أعضاء هذه اللجنة الذين ألصقت بجلهم «تهمة» الانتماء إلى التيار التغريبي، هو دليل على التوجه الذي سيأخذه عمل اللجنة.

الدكتور علي بن محمد، قام بمبادرة من أجل «إفساد» عمل اللجنة، حيث يقوم بنشر لائحة في عديد من الصحف (المعربة) يدعو فيها الأسرة التربوية إلى التجند من أجل التصدي لأية نتائج تصدر عن اللجنة من شأنها أن تنحرف بالمدرسة الجزائرية وتعيدها إلى ما كانت عليه في السنوات الأولى التي أعقبت الاستقلال. الدكتور بن محمد، يستند في صراعه ضد «التيار التغريبي» على تجربته في ميدان التعليم ثم إشرافه على وزارة التربية بداية التسعينات، وهو يطرح في هذا الحوار الطويل والشيق مع «الشرق الأوسط»، نظرته إلى أسباب وخلفيات الصراع حول المنظومة التربوية في الجزائر، وهو يحصرها على الخصوص في التعبئة التي تقوم بها أوساط رسمية فرنسية وأخرى موالية لها في الجزائر من أجل جعل المدرسة الجزائرية تابعة للمجال الفرنكوفوني. وهو أيضا يشدد على أن أسباب مرض المدرسة تكمن في مجالات أخرى لا علاقة لها أبدا بلغة التدريس. ويعتبر بن محمد الذي تولى أيضا منصب سفير لبلده في القاهرة، من أشد خصوم المدرسة الخاصة، وقد جعلت مواقفه كثيرا من خصومه يصنفونه ضمن أقطاب «التيار البعثي»، وهم يستشهدون في ذلك بتوليه منصب مسؤولية في المؤتمر القومي العربي الإسلامي.. وفي ما يلي نص الحوار:

أصدرت لائحة، منذ أيام، تدعو فيها إلى الوقوف في وجه أي انحراف بالمدرسة الجزائرية، في وقت تقترب فيه اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية من إنهاء تقريرها الذي سيرفع إلى الرئاسة، ألا تخشى أن تُعتبر مبادرتك وقوفا ضد إصلاح المنظومة التربوية ومعارضة لبرنامج الرئيس بوتفليقة الذي صوّتت عليه أغلبية الجزائريين؟

ـ لم يكن في برنامج الرئيس، زمن الحملة الانتخابية، شيء محدد ومفصل عن التربية والتعليم غير الأفكار العامة الموجودة في معظم برامج المرشحين للرئاسة، وقتئذ، من مثل الدعوة إلى الاهتمام بالمنظومة التربوية، وإجراء إصلاح عام لها. ولو أن برنامج الرئيس كان يحمل تفاصيل التوجهات السياسية والايديولوجية التي انحرفت إليها الدعوة إلى الإصلاح أولا، ثم الطريقة التي شُكلت بها لجنة إصلاح التربية، والتي جاء الاختلال الشديد الواقع في تركيبتها البشرية مؤذنا، منذ البداية، بنوعية الإجراءات التي ستتخذها، قلت، لو كان هذا موجودا في برنامج الرئيس لما احتاج هو نفسه أن يعلن، يوم التنصيب الرسمي للجنة الإصلاح هذه، أنه قد يلجأ إلى استفتاء الشعب حول نتائج أشغالها. فمن العبث استفتاء الشعب في موضوع يكون قد سبق له أن أفتى فيه، لو أن ذلك قد حصل.

والواقع أن الأمور بدأت تتضح مع تشكيل لجنة وطنية من 851 عضوا، وتنصيبها يوم 13/5/2000، وتكليفها بتقديم تقريرها لرئيس الجمهورية بعد تسعة أشهر. لقد تبين للجميع أنها لجنة لا يمكن أن تسفر أشغالها إلا عن إذكاء المزيد من الصراع داخل المجتمع الجزائري، وتعقيد الوضعية بترسيخ الاقتناع لدى الفئات العريضة من الشعب الجزائري بأن الأقلية المهيمنة على مفاصل السلطة، المتحكمة بقوة في المرافق العامة للدولة، قد امتدت أيديها، أخيرا، إلى القلعة الوحيدة التي نجت، إلى حد ما، من الوقوع تحت سلطانها المطلق، وهي المدرسة. وكان ذلك بفعل عوامل عديدة، متشابكة، يطول تحليلها، أهمها باختصار شديد أنه لمّا كانت مؤسسات الدولة الجزائرية المنصّبة بعد استقلال البلاد، عام 1962، قد انطلق فيها العمل، منذ البداية، باللغة الفرنسية، فإن الميدان الوحيد الذي كان بإمكانه استقبال الإطارات (الكوادر) المعرّبة هو التعليم. وشيئا فشيئا، وبعد مبادرات التعريب الجريئة التي شهدها هذا الميدان، في المرحلة الأولى من حكم الرئيس هواري بومدين، والسنوات الأولى من حكم الرئيس الشاذلي، صار حقل التربية (في المرحلتين الأساسية والثانوية) عمليا، هو الذي يشكل فيه المعرّبون (أي الذين يمارسون عملهم باللغة العربية) الأغلبية المطلقة من الأفراد العاملين فيه من مربين ومسيرين وموجهين.

وكان أهم ما أجمع عليه كل الملاحظين الموضوعيين، إثر تنصيب «لجنة الإصلاح»، ونشر قائمة أعضائها، أنها لن تستطيع تحقيق التوافق العام الذي لا بد منه للتمكن من إحداث التغيير اللازم والمنشود في مؤسسة بالغة الحساسية، تسعى الأحزاب الناشئة بعد حوادث أكتوبر (تشرين الأول) 1988، وبصورة خاصة أحزاب الاتجاهات التغريبية (الفرنكفونية ـ العلمانية)، إلى التموقع فيها، واستخدامها أداة وغاية ـ في نفس الوقت ـ لمعاركها الايديولوجية.

وكان هذا الحكم في منتهى النزاهة والموضوعية لأن اللجنة التي نُصبت لاقتراح تدابير الإصلاح تشكو من اختلال فاضح في تركيبتها. فهي مكونة من مجموعة من الأشخاص ـ وبعضهم أعضاء قياديون في أحزاب لائكية (علمانية) شديدة العداوة لكل ما يمت بصلة إلى التوجه العربي الإسلامي، في التعليم وفي غيره ـ عُرفوا منذ سنوات طويلة بالحملات القاسية التي ظلوا يشنونها على المدرسة، ويطلقون عليها أشنع الأوصاف من منطلقات لا علاقة لها بالمنظور التربوي، ولا بالمنهج التعليمي. وقد أضيف إلى أولئك مجموعة من الإطارات القديمة، المتقاعدة، التي سبق لها أن تحملت بعض المسؤوليات في الهياكل المركزية لوزارة التربية، ولكنهم في أغلبيتهم يتصرفون بعقلية الموظف الذي يمكن أن يخدم أي اتجاه يرى أن ميزان القوة مائل إليه، بالإضافة إلى أن هوى الكثيرين منهم ليس بعيدا أيضا عن ميول التغريبيين.

والعجيب أن فيهم من كانوا في تلك المواقع من المسؤولية، أيام المشاريع التعريبية الجريئة التي أشرنا إليها سابقا، وقد شاركوا في تنفيذ تلك السياسات دون أن يبدو عليها أي اعتراض! وقد اقتضت الخطة التكتيكية أن يكون ضمن أعضاء اللجنة عدد قليل من المنتمين إلى الاتجاه الوطني العربي الإسلامي، بعضهم لا يألون جهدا في الدفاع عن أصالة المدرسة، وإخلاصها لجذور مجتمعها، ووفائها لقيم ثورة الفاتح من نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، ولكن البعض الآخر، ممن كانوا يعدون رموزا لهذا الاتجاه، في حقل التعليم، أظهروا سلبية لا تفسير لها إلا غلبة المطامع الانتهازية في نفوسهم، وانتظار المكافأة ـ بفتات المائدة، وسقط المتاع ـ على موقف التخاذل الذي لا يتحرّج كثيرا من زملائهم ورفاقهم في «اللجنة» من وصفه بالخيانة! لقد بلغ الميزان الأعرج في هذه اللجنة من سوء الاختلال أن أشغالها كانت تدور، في أكثر من تسعين في المائة منها، حول المسائل المتعلقة بالمستويين التعليميين الأساسي والثانوي، ولكن المكتب الذي يسيّرها مشكل كله من أعضاء جامعيين لا يعرفون التربية من الداخل، ولا علاقة عضوية لهم بها، إذا استثنينا عضوا واحدا منهم كان في التعليم الثانوي قبل أكثر من عشرية، ثم انقطع للسياسة في حزبه اللائكي... في هذا الجو لم أجد بدّا من أن أدق ناقوس الخطر، وأضغط على زرّ الضوء الأحمر لتنبيه الغافلين إلى ما يمكن أن تحدثه في مدرسة الشعب من أضرار فادحة، لجنة لا تمثل لا توازنات المجتمع، ولا واقع الميدان التربوي. وقد تمثلت مبادرتي في عرض مشروع «لائحة تربوية شعبية وطنية» على المجتمع المدرسي، والتنظيمات العاملة فيه، أو القريبة منه، لإبداء الموافقة عليها بالتوقيع عليها. وهذه المبادرة هي أضعف الإيمان بالنسبة إلى مواطن قضى كل عمره، وهو يدنو نحو الستين، إما متعلما، وإما معلّما. وهو يرى أن المدرسة لن تحقق الازدهار، ولن تبني مستقبل الأمة الزاهر إلا إذا كانت، في وقت واحد، أصيلة، راسخة الجذور في التربية الحضارية لمجتمعها، ومتجددة على الدوام بانفتاحها على علوم العصر، ومناهجه، ومكاسبه التقنية.

* المدرسة الجزائرية خرّجت الإرهابيين وخرجت الذين يحاربونهم؟

الجميع، في الجزائر، متفقون على أن المدرسة الجزائرية متخلفة، فقد وصفها الرئيس بوتفليقة بالمدرسة الرجعية، في حين يعتبرها آخرون كارثة تخرّج منها الإرهابيون الذين يقتلون ويزرعون الفتنة في الجزائر، هل توافق هذه الأوصاف المطلقة على المدرسة، التي كنت في وقت سابق مسؤولا عليها، وما هو التشخيص الذي تقدمه للحالة التي وصلت إليها وأسباب ذلك؟

ـ لا بد لي، قبل الإجابة عن سؤالك هذا، من تصحيح عبارتين وردتا في كلامك بما يوهم القراء بصحتهما، وهما في الواقع غير صحيحين.

العبارة الأولى، قولك إن «الجميع في الجزائر متفقون على أن المدرسة الجزائرية متخلفة». هذا كلام تنقصه الدقة، ويميل إلى التعميم الذي لا يطابق الحقيقة. فإذا كنت تقصد أن أكثرية الناس تطالب بإصلاح الأوضاع المدرسية بتوفير الإمكانيات اللازمة لهذا القطاع الهام، والقضاء على ما فيه من نقائص واختلالات تم تشخيصها، بكل دقة منذ سنوات طويلة.. إذا كان هذا قصدك فكلامك صحيح.. أما الذين يعتبرون المدرسة متخلفة لأنها لا تساير منطلقاتهم السياسية، ومبادئهم الايديولوجية، ولا تعمل على تحقيق ما يسمونه هم، في مصطلحاتهم «مشروع المجتمع».. فهؤلاء قلة قليلة لا يمكن أن تنطبق عليهم لفظة «الجميع»، وهم في كل الاستشارات الانتخابية التي جرت في الجزائر، منذ 1990، لم يحصلوا، مجتمعين، على أكثر من 1% من الأصوات. وحتى حين وقع التزييف في بعض تلك الاستشارات، فقد وقع لصالحهم! العبارة الثانية، هي قولك إن الرئيس بوتفليقة قد وصف المدرسة بأنها رجعية. وهذا أيضا كلام غير صحيح، ونقل غير أمين لما قاله الرئيس أثناء زيارته الأخيرة لولاية البليدة. فهو قال إنه يرفض «العودة إلى القرون الوسطى»، ويرفض «إقامة مدرسة رجعية». والفرق شاسع بين رفض إقامة الشيء، وبين وصف ذلك الشيء الذي هو قائم بأنه رجعي.

هذا من الناحية الشكلية. أما من ناحية لب الموضوع المطروح فأنا أيضا، وكل الذين لهم رأي مثلي، والأغلبية الغالبة من رجال التربية عندنا لا يفكرون مطلقا في العودة إلى ما يسمى بالقرون الوسطى (وإن كانت في البلدان الإسلامية تعد عصر تقدم علمي، وازدهار فكري، وهو ما لا يقاس بما كان سائدا أثناءها في الغرب، وفي أوروبا بالذات، من جهل وخرافات وشعوذة وأساطير...) ولا يتطلعون أبدا إلى ما سُمي «إقامة مدرسة رجعية».

إذا كانت الرجعية هي، في أدق معانيها، الرجوع إلى الوراء، وإحياء الماضي الميت، والتشبث بالقيم البائدة.. فإن هذا التعريف ينطبق تماما على خصومنا. فهم الذين يريدون، بعد قرابة 40 سنة من الاستقلال، إرجاعنا إلى عهد اللغة الفرنسية، والمدرسة الفرنسية، وقد كانت أداة الاستعمار المفضلة لاستلاب عقول الأجيال التي حظيت بمقعد دراسي في ذلك العهد الأسود! وخصومنا هم الرجعيون لأنهم، بعد أن استُكملت مسيرة تأصيل المدرسة الجزائرية بإحلال اللغة العربية فيها محلَّها الطبيعي، كما هو شأن كل لغة وطنية في بلد ذي سيادة، وبعد أن أتممنا فيها عملية التعريب، فصار التلميذ الجزائري يتعلم بلغته العربية من السنة الأولى الابتدائية، إلى نهاية المرحلة الثانوية، بفضل جهاد مئات الآلاف من المربين، وإنفاق الكثير من الجهد والمال.. بعد كل هذا تطلع علينا أصوات انسلاخية، استئصالية، بالمعنى الفكري والحضاري للكلمة، لتخبرنا بأن لجنة «الإصلاح» المزعوم أوصت بالشروع في تعليم اللغة الفرنسية بدءا من السنة الثانية الابتدائية، والتمهيد لتعلم المواد العلمية بها. وهو نفس الاتجاه الذي ظل يحارب اللغة العربية، ويدعو إلى إبقاء الفرنسية لغة تعليم، واكتفاء العربية بنصوص أدبية. أما التربية الإسلامية فقد صار هذا الاتجاه يتخوف منها. وتُشير الأخبار المتسربة من «اللجنة» بأنهم ألغوا هذه المادة وعوضوها بشيء اسمه «التربية المدنية والأخلاقية».

على ضوء هذا كله، من هم الرجعيون؟ الإرجاعيون للهيمنة الاستعمارية، والاستلاب الفكري في أهم مؤسسة لدى الأمة؟ نحن أم هم؟ ثم ان التخلف مسألة نسبية. كل العالم المتقدم، فضلا عن المتأخر، يشكو اليوم من نقائص مدرسته. كل أقطاب السياسة في أميركا واليابان وأوروبا ـ وبريطانيا بالذات ـ يشددون على ضرورة إدخال التغييرات التربوية التي يستلزمها العصر، وتتطلبها تطلعات المجتمع. ولكن لم نسمع أحدا من هؤلاء، في هذه البلدان وفي غيرها من الأصقاع المحترمة في العالم، قال إنه على مدرسة بلاده أن تغير هويتها، أو أن تتنصل من تاريخ قومها، أي أن تبدل لغتها.. إلا نحن. فإن عندنا تيارا جارفا من الأقليات المعقدة من لغتها وتاريخها، المتنفّذة في مجمل الميادين الحساسة، التي لا ترى في المدرسة من عيب أو نقص إلا والعربية والإسلام مسؤولان عنه، وإلا والفرنسية ـ وحدها دون سائر لغات الأرض ـ فيها العلاج الشافي، والدواء الذي ليس مثله دواء.

في هذا الإطار ينبغي أن تُدرج تهمة «الاستئصاليين» للمدرسة الوطنية بالتخلف، مع أنها الآن هي التي بقيت واقفة، صامدة، عندما انهارت كل المؤسسات الاقتصادية والصناعية التي كانت تحظى بالرعاية الحقيقية، والإمكانيات الوفيرة. ثم ما معنى أن تكون متخلفة، وهي التي أعطت للجزائر كل الكفاءات، والقيادات، والإطارات العلمية التي عندها الآن في كل الميادين؟ نسبة الأميين في الجزائر، عند خروج فرنسا منها، كانت تتجاوز 90%. وكان عدد التلاميذ في مجموع مراحل التعليم والتكوين نحو ستمائة ألف تلميذ وطالب، منهم 500 طالب في كل المراحل الجامعية. للمقارنة فقط، هم الآن سبعة ملايين ونصف المليون من التلاميذ، ونصف مليون طالب جامعي! ومن طلبتنا من يدرس في أرقى الجامعات العالمية ويتخرج منها بتفوق.

وفي هذا الإطار ينبغي أن تُدرج أيضا التهمة الغبية، البليدة، التي يزعم أصحابها أن المدرسة الجزائرية قد تخرج منها الإرهابيون الذين «يقتلون ويزرعون الفتنة في البلاد»، كما قلت.

* كل جانح، وكل منحرف، وكل مجرم.. هو متخرج، حتما من مدرسة بلاده إذا كان له أدنى مستوى تعليمي! هل نقول إن منظومة التربية في البلدان الاسكندنافية تخرج المنتحرين؟ لأن كل الذين وضعوا حدا لحياتهم جلسوا، في يوم ما، على المقاعد المدرسية في تلك البلدان! وهل نقول إن مدارس أميركا وأوروبا الغربية تخرج المتعاطين لأنواع المخدرات، أو تخرّج المصابين بالسيدا، أو بالشذوذ الجنسي.. لأنهم أيضا كانوا تلاميذ في مدارس بلادهم؟

ـ هذا الكلام لا يستحق تضييع الوقت في الرد عليه، لأن فيه من وقاحة السخافة، وصفاقة التفاهة ما يُجسد، في حد ذاته، أحسن الردود عليه. ويكفي، لبيان مقدار التهافت فيه أن نسأل أصحاب هذا الرأي: إذا كانت المدرسة الجزائرية مجرمة ـ في رأيكم ـ لأنها درّست فيها العناصر التي تقتل القرويين، وتزرع الرعب في «المداشر» و«المشاتي»، فقولوا لنا من أية مدرسة تخرّج عشراتُ الآلاف من أترابهم ـ الشبان الذين هم في سنّهم ـ الذين يحملون السلاح لمحاربتهم من قوات الجيش والشرطة والحرس البلدي؟ أليس فيهم من كانوا زملاء لهم في المدرسة نفسها، وربما في القسم نفسه؟ هؤلاء وأولئك هل تخرجوا من منظومة تعليمية واحدة هي المدرسة الوطنية، أم أن الإرهابيين تخرجوا من المدرسة الجزائرية والذين يحاربونهم استوردناهم من خريجي المنظومة التربوية الفرنسية مثلا، أو الألمانية، أو اليابانية؟! مدرستنا جزء من واقع مجتمعنا. ومجتمعات ما كان يُسمى ببلدان «العالم الثالث» تصارع كلها أنواع التخلف الذي يرجع بعضه إلى العهود الاستعمارية، وبعضه الآخر إلى سوء التسيير الذي أفرزته مراحل ما بعد الاستقلال. وللخروج من التخلف العام ـ بما فيه التخلف التربوي ـ شروط ومعايير ليس من بينها على الإطلاق أن يغير الإنسان جلده، أو أن يمسخ تربية أبنائه، أو أن يعوض لغة حضارته، وانتمائه القومي، بلغة أجنبية، ليست هي اللغة الأولى اليوم في العالم على كل حال. ولننظر إلى جيراننا شمالا وجنوبا وغربا وشرقا، الذين علّموا أو لا يزالون يعلّمون أطفالهم وشبانهم باللغة الأجنبية، هل أحرزوا فعلا تقدما مّا، في أي ميدان، يغرينا بأن نقلّدهم من أجله، وننسلخ من أعماقنا الفكرية والروحية في سبيله؟

* العرب يصابون بخيبة لما يزورون الجزائر؟

هناك أيضا من أرجع سبب تدهور مستوى التعليم إلى لجوء الجزائر إلى استقدام معلمين من بلدان عربية قاموا بزرع أفكار قومية في بلد له خصوصياته اللغوية، حتى البلدان العربية (في المشرق العربي خاصة) لا تزال لحد الآن تعتبر الجزائر بلدا أقرب إلى أوروبا منه إلى العالم العربي، ما تعليقك؟

ـ دعني أبدأ الإجابة عن سؤالك هذا من أواخره لأتساءل أولا: هل يمكن أن نعد اعتبار بعض الأشقاء لنا ـ إلى حد الآن! ـ بلدا أقرب إلى أوروبا» مدحا لنا، وثناء علينا؟ أليس ذلك الاعتبار أكبر سُبّة لنا، نحن بلد المليون ونصف المليون شهيد؟ أما كان أجدر بنا أن نوفر هذه القوافل من الضحايا حتى لا يقدموا أرواحهم قربانا لتستقل الجزائر، ثم يكون فيها من يعتزّ، أو يفخر، إذا غمزه أشقاؤه بأنه في الواقع أقرب إلى الفرنسيين منه إلى العرب؟! وابحث عن السبب الذي ذكرت أن بعض العرب يعتبرون الجزائر، من أجله، «أقرب إلى أوروبا منها إلى العالم العربي»، هل ذلك في سبق علم أحرزناه؟ أم في تقدم تكنولوجي جاوزنا فيه مستوى أشقائنا في المشرق والمغرب؟ أم في نهضة علمية وثقافية باهرة نتميز بها عن إخواننا «المتخلفين»؟... كل ما في الأمر أن العرب حين يلتقون في محافلهم السياسية، وملتقياتهم الثقافية يجدون الوفود الجزائرية مشكلة، في الغالب، من ناس لا يحسنون التعبير باللغة العربية، ولا ينسجمون، بحكم تلك العزلة التي فرضوها على ألسنتهم وأنفسهم، مع واحد من الوفود التي جاءوا يشاركونها الحضور في ذلك الاجتماع. وتبلغ المأساة قمتها حين يبدأون الكلام باللغة الفرنسية في تلك المحافل. وهم ليسوا عاجزين عن التعبير بلغة قومهم، ولغة الحضارة التي ينتسبون إليها ـ شاءوا ذلك أم لم يشاءوا ـ وإنما هم، نفسيا، قد أغلقوا الباب دونها، ورفضوا أن تكون لسانهم الذي يعبّرون به. وإلا فإن كل الجزائريين الذين هم دون الخمسين من العمر درسوا العربية في مدرسة الجزائر المستقلة، وكان ينبغي أن لا تكون لديهم أية صعوبة في التعبير بها، شأنهم في ذلك شأن جيلهم من أشقائنا في تونس، والمملكة المغربية. ولو لم يكونوا هم أصحاب السلطة والنفوذ لما ذهبوا إلى ملتقيات لا يحسنون لغتها، ولأرسلوا إليها من يقدر على ذلك.

وحين يأتينا العرب إلى بلدنا في زيارة، أو سياحة، أو عقد اجتماع، فإن أول ما يصابون به من الخيبة هو عدم قدرتهم، في الغالب، على التفاهم بلسان عربي بسيط، لا سيما في العواصم والبلدان الكبيرة، مع ناس زينت لهم وسائل الإعلام، والتواطؤ الرسمي العام، أن تلك اللغة الهجينة، اللقيطة، التي هي في أسوء حالات التمازج، وأغربه بين لغتين، هي لغة الشعب الجزائري، وهي عاميته التي ينبغي أن يقبلها العرب كما يقبلون العامية المصرية، أو السورية. وشتان، شتان بين تلك وهاتين.

هل أقنعتك بأن اعتبار العرب لنا «أقرب إلى أوروبا» (يعني طبعا إلى فرنسا)، هو نقد جارح، وتقريع موجع للذين بقي في نفوسهم إحساس؟

أما الذين يرجعون أسباب «تدهور مستوى التعليم» ـ كما عبرت عنه ـ إلى استقدام المعلمين العرب، فهم في صميم المعركة التي تشنها دوائر الاستئصال الحضاري من أجل عزل الجزائر عن فضاءات انتمائها القومي: العربي الإسلامي. بل إن في هذا القول تجريما لإخوة لنا كنا نحن الذين نسعى، سعي المجتهدين، كل عام، من أجل إقناع المسؤولين في الدول العربية الشقيقة لتغطية حاجياتنا المتزايدة من المعلمين، وبخاصة من أساتذة المواد العلمية الذين كانوا هم أيضا في حاجة إليهم. وكنا نتنافس على استقدامهم إلينا، منذ السبعينات، مع إخواننا الخليجيين الذين رسموا خططا طموحة لتطوير التعليم، وكانوا يقدمون من الإمكانات المادية المغرية، أكثر بكثير مما كنا نقدم نحن الجزائريين.

والواقع أن الذين ينطقون بمثل هذه التهم الرخيصة لا يعرفون على الإطلاق ميادين التعليم والتربية، وإلا فما معنى «تدهور مستوى التعليم»؟ ومتى كان راقيا ونحن ورثنا صبيحة الاستقلال مدرسة فر منها ثلاثة أرباع العناصر التي كانت قائمة عليها من الفرنسيين الذين كانوا يتولون ـ تقريبا ـ كل مناصب التدريب، والإدارة، والتفتيش. وكان الرهان هو فتح أبواب المدارس، أو عدم فتحها؟ فما معنى أن يكون المعلمون الذين كنا «نستجديهم» كل سنة لإنقاذ مدرستين، مسؤولين عن... تدهور التعليم؟! وهناك حقيقة تغيب عن أذهان المسارعين إلى اتهام العرب، وهي أن عدد المعلمين العرب ـ إجمالا ـ كان أقل من عدد المعلمين الفرنسيين، أن كل مواد البرنامج كانت تدرس باللغة الفرنسية، ولم يأت التعريب إلا في شكل جرعات متباعدة في الزمان... وهل يعلم أولئك المتهمون أن كل العناصر التي كنا نستقدمها من أقطار المشرق العربي للتعليم في مدارسنا، كانت كلها، بلا استثناء، من المدرسين فعلا، المرسمين في بلدانهم الأصلية، في حين كان العدد الأكبر من المعلمين الفرنسيين من الفئة التي تسمى «المتطوعين لأداء الخدمة الوطنية النشيطة» ويرمز إليهم اختصارا بحروف VSNA))، وهم المجندون لخدمة العلم الفرنسي، فيعرض على ذوي الشهادات العلمية منهم أن «يتطوعوا» لأداء الخدمة العسكرية في صفوف من ترسل بهم فرنسا إلى مستعمراتها القديمة للتعليم فيها. وهم عادة يكونون من بين المتخصصين في الصيدلة والبيطرة ومختلف فروع الهندسة والتقنيين السامين فيُعلّم كل واحد منهم مادة مثل العلوم الطبيعية أو الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات أو الجغرافيا ـ قبل تعريب هذه المادة مع التاريخ ـ وهكذا يتضح أن عددا هاما من المبعوثين الفرنسيين للتدريس في مراحل التعليم الإكمالي والإعدادي والثانوي ليسوا خريجي دور المعلمين وكليات التربية، ليسوا من الذين سبق لهم أن درّسوا في المدارس والمعاهد. فلماذا لم يقل أحد إن هؤلاء ساهموا في «تدهور مستوى التعليم» بينما تلصق بالمعلمين العرب الذين أخذناهم من مدارسهم مثل تلك التهمة؟

ولست أدري أيضا من ناحية أخرى لماذا لا يقولون إن أولئك المعلمين الفرنسيين هم الذين غرسوا في عقول أطفالنا بذور التغريب والفرنسة والمطالبة بالانضواء تحت لواء الهيمنة الاستعمارية التي تسمى الفرنكوفونية مع أن جزءا من تلاميذهم، الأمس، هم الذين يسيطرون على منابر الإعلام، ويوجهون الرأي العام الوطني نحو الاستئصال الحضاري ويزينون لمجتمعنا قطع صلة الجزائر بتاريخها الصحيح وعمقها الاستراتيجي العربي الإسلامي؟ ولماذا نرى الاستئصاليين عندنا لا يجدون من تفسير لإخلاص أجيالنا لثقافتهم، ولغتهم ودينهم، الوفاء لهاتيك القيم الأصيلة التي رضعوها مع ألبان أمهاتهم، الا في أن حفنة من المعلمين العرب (بعض الآلاف في أحسن الأحوال) هي التي لقنتنا عناصر انتمائنا وجعلتنا نؤمن بعروبتنا، وإسلامنا وندافع عن قوميتنا ولغتنا؟ أفلم نكن قبل ذلك لا عربا ولا مسلمين؟ ولماذا لم تستطع سياسة القهر والتدمير والفرنسة والتنصير طوال مائة واثنين وثلاثين عاما أن تنسينا أصلنا او تصرفنا عن التضحية والكفاح طوال تلك المدة، من أجل إثبات أننا لسنا فرنسيين ولا نريد أن نكون فرنسيين، ولا نستطيع ـ حتى لو أردنا ـ أن نكون فرنسيين، حسب العبارة الشهيرة التي أطلقها رائد النهضة والإصلاح في الجزائر الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس رحمة الله عليه.

أما الزعم بأن لنا خصوصيات لغوية فهو من باب الشعارات التي ليس لها واقع ميداني غير ما دأب عليه الشعب الجزائري منذ أربعة عشر قرنا إذ كانت كل مجموعة بشرية، في جهات مختلفة من الوطن، تتكلم بعامياتها المحلية أو بلهجاتها الأمازيغية. ولكن لغة الإبداع، والإنتاج والمعاملات الرسمية، في كل أشكال الدولة التي عرفتها الجزائر، كانت باللغةالعربية. ولو كان هناك واقع يصح أن نسميه «الخصوصيات اللغوية» لكانت أولى بترسيخه وترسيمه وترقيته، الدول الإسلامية الأمازيغية العظيمة التي نشأت في بلاد المغرب العربي، من الدولة الرستمية، إلى الدولة الزيرية، والحمادية، إلى المرابطية والموحدية، وهي كلها كانت تعمل باللغة العربية، ولا تجد أي حرج في ذلك، بل كانت كلها تعتبرها لغة رسمية للدولة بلا منازع. فمن أولى بتقرير المصير اللغوي، في جهة ما من العالم: الذي يعزف على أوتار القيثار، أم الذين بنوا الدول القوية، وشيدوا الممالك الواسعة؟ وقد امتدت دولة الموحدين، مثلا، من حدود مصر شرقا، إلى مشارف جبال البرانس، المطلة على فرنسا غربا! وكانت دواوينها تعمل بلغة الضاد دون أن تزاحمها في ذلك لغة ما من طيف «الخصوصيات اللغوية». إن تلك الخصوصيات، كما هو معلوم، لا يتذكرها أصحابها إلا وقت التشويش على العربية، وعرقلة خطط التعريب. أما حين تلوح في الآفاق أدنى فرصة لعودة اللغة الفرنسية، فإن تلك المطالب تتلاشى، وتلك الخصوصيات تزول بقدرة قادر. والدليل على ذلك ما نشاهده اليوم في الجزائر!

* تتهم أطرافا بالعمل على جر المدرسة الجزائرية وجعلها تابعة للمدرسة الفرنسية، في حين يعتبرك خصومك واحدا من أقطاب «البعثية» في الجزائر. هل تعتقد أن الصراع هو فعلا بين ما يعرف بـ«حزب فرنسا» من جهة و«حزب البعث» من جهة أخرى؟

ـ منذ عشر سنوات، أو أكثر قليلا، صار كل من يدافع عن عروبة الجزائر، أو يناصر خطط التعريب فيها، يعتبر بعثيا عند منظري التغريب والفرنكوفونية (الذين يسميهم الإعلام المعرب عندنا: «الفرانكوش»). أما من يؤدي واجباته الدينية بانتظام، ويعتز بدينه الإسلامي، فهو عند أولئك الفرانكوش: «أصولي ـ إسلامي». فإذا جمع الواحد منا اعتزازا بدينه الإسلامي، وانتماءه العربي، فإنه عندهم «بعثي ـ إسلامي» أو كما يقولون بلغتهم «إسلامو ـ بعثيست»! وبقطع النظر عن هذا التركيب الجامع بين المتناقضين، إذ أنه من المعروف في المشرق العربي، على نطاق واسع، أن «البعثي» لا يمكن أن يكون «إسلاميا»، و«الإسلامي» لا يكون، بحال من الأحوال «بعثيا».

فهما صفتان متناقضتان، لا يمكن اجتماعهما في شخص واحد، بقطع النظر عن غرابة هذا التعبير، فإنه يبدو من الأحسن تقديم الإجابة عن سؤالك في النقاط التالية، لتكون في غاية الوضوح، والموضوعية:

1 ـ أنا فتحت عيني، وأنا طفل صغير، في بيئة عائلية تشبع كل أفرادها بالقرآن الكريم: كتاب وحي، ومنهج سلوك، وإعجازا لغويا قصارى الواحد منهم أن يضمّن كلامه اليومي بعض مفرداته، أو تعابيره المناسبة لمقتضى الحال. فالإسلام والعربية، بلا تشدد، ولا تشنج، ولا مبالغة ولا تطرف (لأن سياق البيئة لم يكن، أصلا، في حاجة إلى أي شيء من كل هذا) هما أساس المحيط الذي نشأت وكبرت فيه.

2 ـ اكتسبت وعيي السياسي، وانتمائي الايديولوجي أول مرة، وأنا تلميذ في الثانوية، أثناء الثورة المسلحة. وكانت جبهة التحرير الوطني في حياتنا المدرسية هي الإطار الفكري، وهي المرجع السياسي، وهي قائدة الكفاح في سبيل التحرر والانعتاق.

3 ـ بمجرد أن التحقت بالتعليم الجامعي انخرطت في منظمة وطنية لها تاريخ حافل بالجهاد والنضال، هي «الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين» سليل المنظمة التي سبقته إلى الوجود وهي «الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين». وكلتاهما منتظمتان جبهويتان واضحتا الانتماء، وقد انتخبت أمينا عاما لفرع الجامعة التي كنت أدرس فيها، ثم انتخبت في مؤتمر الاتحاد عضوا في القيادة الوطنية.

4 ـ ثم انتميت هيكليا إلى حزب جبهة التحرير، وتوليت مسؤوليات مختلفة في هيئاته منذ عام 1978. وقد انتخبت مرتين عضوا في لجنته المركزية، وتقلدت مسؤولية أمانته المركزية. ولا أعتقد أن عاقلا يمكن أن يزعم أن رجلا هذه مسيرته في حزبه يمكن أن ينتمي إلى حزب ثان، أو أن يكون عضوا في أي حزب آخر مهما كان.

5 ـ أنا أعتبر أن حزب البعث حزب عربي له برنامجه السياسي، وطروحاته المحترمة، ويجمعنا به ـ نحن الجبهويين ـ نضال مشترك، بأساليب مختلفة أحيانا، من أجل تحقيق وحدة الأمة العربية، وتوحيد أقطارها على أسس عصرية، ديمقراطية، ومؤسسات فعالة تمكن العرب من مواجهة مخططات أعدائهم المتربصين بهم والمحافظة على مصالحهم العليا التي بدونها لا يكون لهم لا وجود مستقل، ولا مستقل زاهر.

6 ـ لا أعتبر وصفي بأنني «بعثي» شتما لي، كما لا أعتبر وصف عربي في سورية أو في العراق أو في لبنان أو في الأردن أو في مصر... بأنه، في قضية من القضايا، (كتلك التي كان يحمل لواءها الراحل بومدين) بأنه «جبهوي»، لا أعتبر هذا الوصف بـ«الجبهوية» لا شتما، ولا تهمة له. فقد كان كثير من العرب في قضايا قومية معينة «ناصريين» دون أن ينتموا إلى الاتحاد الاشتراكي، وكان وما زال كثير من العرب في بعض الشؤون الفلسطينية «حماسيين» دون أن يعني ذلك أنهم من أعضاء منظمة «حماس» وكان كثير منهم أيضا، مع «حزب الله» وهو يكافح الصهيونية في جنوب لبنان دون أن يكونوا «حزب اللهيين» وهكذا... يعني أنني لا أرى مانعا من أن أوصف بأنني بعثي ما دام ذلك يعني أنني أؤمن بالقومية العربية، ووحدة الأمة العربية. وإن من مبادئ هذا الانتماء أن تكون العربية سيدة في الجزائر.

7 ـ أما وصف إنسان جزائري بأنه من «حزب فرنسا» فهو شتيمة ما بعدها من شتيمة، وهو وصمة عار، وخيانة. فرنسا هي التي احتلت ودمرت الجزائر. فرنسا هي التي قتلت ملايين الجزائريين. فرنسا هي التي حاولت إخراجنا من دائرة انتمائنا، وفضاء حضارتنا. فرنسا هي التي همّشت ثقافتنا، وكادت أن تقتل لغتنا... إذن فنحن حين نسبّ أحدا بأنه من «حزب فرنسا» فمعناه أننا نتهمه بخيانة الثورة التحريرية، والتنكر لتضحيات المجاهدين، وعهد الشهداء، ورهن استقلال بلادنا لدى فرنسا.

8 ـ وأخيرا، ماذا يكسب أي بلد عربي، سواء كان بعثيا أو غير بعثي، من حثنا على الاحتفاظ بلغتنا وديننا؟ أما حين تشجع فرنسا عناصرها على تمهيد الطريق لفرنسية، وتشجيعنا على المضي في خطط الفرنسة، وتحثنا على الالتحاق بنادي الفرنكوفونية، فإن لها من المنافع والمصالح الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ما لا يغيب حتى عن بال المغفلين!... الصراع، يا سيدي، في الجزائر ليس مع حزب البعث المزعوم في الجزائر، وإنما هو باختصار مفيد، بين الوطنيين الذين يريدون بقاء الجزائر ضمن دوائر انتمائها الحضاري، وأصالتها التاريخية، وديمومتها بوصفها كيانا واضح المعالم والسمات، وبين من يريدون إلحاقنا كذيول وأتباع بالهيمنة الاستعمارية الفرنسية، لنكون مجرد ثقل في كفة ميزانها العالمي، لترجح به في العلاقات الدولية، وسوق استهلاكية لموادها المصنعة، ومزرعة خلفية لها في منظور عظمتها الأوروبية، وفي هذا النطاق يفرضون علينا أن نتبنى لغتها أداة تعبير رسمية في مرافق دولتنا الداخلية والخارجية. ولبلوغ هذا الهدف لا بد لهم من منظومة تعليمية تعلم باللغة الفرنسية، وتنشئ الأجيال على الإيمان بأن مصلحة الجزائريين في أن يكونوا أتباعا لفرنسا. وذلك ما لن يكون، ولكن الإصرار عليه يمكن أن يبعث فتنة في الوطن، لا تكون الأزمة الحالية لديها إلا كنار عود الثقاب أمام أتون الفرن العالي!... الأولياء هم الذين يختارون بين اللغة الفرنسية والإنجليزية

* ينتظر أن تقترح لجنة إصلاح المنظومة التربوية إدراج تعليم اللغة الفرنسية ابتداء من السنة الثانية ابتدائي، أما أنت فترفض ذلك بشدة وتبدو متمسكا بضرورة الاكتفاء باللغة العربية في السنوات الأولى من التعليم المدرسي، هل أنت بذلك ترفض أن يتلقى التلميذ باكرا تعلم اللغات، وهل يعتبر ذلك تخوفا من أن يتهرب التلاميذ من لغتهم الأم؟

ـ كانت اللجنة الوطنية التي نصبت لإصلاح المنظومة التعليمية بادية الاختلال، فاقدة التوازن، كما كنت بينت ذلك في الإجابة عن أحد الأسئلة السابقة. ولذلك لم يكن أحد يتوقع أن تسفر أشغال لجنة مختلة عن خلاصة متوازنة. وقد جاء الاختلال، بالفعل، طابعها المميز. ومن علامات ذلك أنها لم تستطع أن تقدم ما يمكن أن يسمى، بوجه من الوجوه، خطة إصلاح شاملة متكاملة كما اتضح لنا من الوثائق التي استطعنا الحصول عليها.

كل ما فعلته هذه اللجنة هي أنها ذهبت، مباشرة إلى مناطق الحساسية، وهي بالتحديد: اللغة العربية، والتربية الإسلامية، واللغة الفرنسية. وهذه هي مواقع التوتر الاجتماعي، وملتقى الصراعات الحادة بين القوى الوطنية، وهي طبعا، الأغلبية في البلد، وفئات التغريبيين.

1 ـ في مجال اللغة العربية: لوّحت اللجنة، عبر ما تسرّب من أخبارها للصحف، وفي مقدمتها الصحف المعروفة بأنها منابر دائمة ومؤثرة لتلك الفئات، بأنه من الوارد: التراجع عن تعريب المواد العلمية، والعودة إلى تعليمها باللغة الفرنسية بعد أن تم تعريبها منذ ربع قرن... ولا أظن عاقلا يفعل هذا. ولا يمكن أن يصدر إلا عن تفكير معتل. عندما يلاحظ الإنسان السوي الضعف فإنه يعمل على إزالته. أما المتحكمون في سير أعمال اللجنة فقد حكموا بأن سبب الضعف هو اللغة العربية، ومن هنا كان قرارهم بإزالة اللغة العربية. فلو صح هذا التشخيص لكان من الواجب أن تتراجع كل الأنظمة العربية عن تعليم أبنائها بلغتهم القومية لأن لجنة جزائرية مبدعة قد اكتشفت أن سبب النقص والضعف يعود إلى تلك اللغة.

2 ـ في مجال التربية الإسلامية: في هذه النقطة وصلت اللجنة، من غير بحث جاد ولا استقصاء رصين، إلى خلاصة مدهشة وهي أن المسؤول عن الإرهاب والأصولية في الجزائر إنما هو الساعة أو الساعتان المخصصتان في الأسبوع لتعليم التلاميذ الجزائريين قواعد ومبادئ دينهم الحنيف. فبعد أن كانت مصالح الوزارة، في وقت سابق، غيرت تسميتها ـ بما يبعث على الضحك ـ من «التربية الإسلامية» إلى «التربية الدينية»، (كأن مجرد لفظة «الإسلام» تؤدي إلى الإرهاب!...) جاءت لجنة «الإصلاح» لتوصي بإلغاء هذه المادة تماما، وتعويضها بمادة جديدة تسمى «التربية المدنية والأخلاقية»! 3 ـ في مجال اللغة الفرنسية: تتعالى في بلادنا، منذ سنوات، أصوات الفئات التغريبية، المنادية بنظرية مفادها أن مقتضيات اقتصاد السوق، وآفاق العولمة الزاحفة في كل أنحاء المعمورة، ومتطلبات الانفتاح على العالم، والاستفادة من المعلومات التي تتدفق في شبكة الانترنت.. تتطلب معرفة اللغات الأجنبية. لذلك فإنه لا بد من التبكير بتعليم «اللغات» الأجنبية منذ السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية.

كان هذا الطرح من الناحية النظرية يمكن أن يكون مقبولا، على الرغم من وجوه الاعتراض عليه من الناحية التقنية التربوية... ونحن في الجزائر ـ لعلم القارئ ـ نعلّم اللغة الفرنسية ابتداء من السنة الابتدائية الرابعة. ولكن نصف الأقسام فقط ـ أو أقل من ذلك ـ تتلقى هذا التعليم لقلة الإمكانيات البشرية بالذات.

وعندما جاءت اللجنة إلى تجسيد طرحها النظري توصلت إلى نتيجة غريبة وهي أنه ينبغي تعليم اللغة الفرنسية ابتداء من السنة الثانية الأساسية (التعليم الأساسي يدوم في الجزائر تسع سنوات، ويضم المرحلة الابتدائية: 5 سنوات + المرحلة الإكمالية: 3 سنوات. هذا هو الوضع في الوقت الحالي). أما تعليم اللغة الإنجليزية، كلغة أجنبية ثانية فلا يبدأ إلا... في السنة السابعة الأساسية! وهكذا تبين بكل جلاء أن كل الدعوات الحارة من أجل «التفتح على العالم» وتشجيع تعلم «اللغات الأجنبية» ليست إلا شعارات مضللة، وأن المقصود إنما هو فسح المجال لتغزو الفرنسية وحدها كل المجالات المعرفية في البلاد. وإلا فأي طرح موضوعي نزيه لا يبادر بتبجيل اللغة الإنجليزية، وإعطائها الأسبقية على غيرها لو كانت النوايا سليمة؟ أليست لغة العلم، ولغة العالم، ولغة العولمة، ولغة الإنترنت، هي اللغة الإنجليزية؟ فلماذا يتم تأخيرها إلى السنة السابعة؟ إن هذا الاختيار سيؤدي بالجزائر، حتما، إلى العزلة العالمية والبقاء في فلك التبعية لفرنسا.

نحن لن نقبل أبدا هذه الحلول العرجاء ونقول: كيفما كانت المرحلة الأساسية التي يتم فيها البدء بتعليم اللغات الأجنبية (بالجمع فعلا) فإننا نصر على ضرورة تخيير أولياء التلاميذ بين اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية لتكون إحداهما اللغة الأجنبية الأولى التي يتعلمها أبناؤهم في المرحلة الابتدائية، هذا هو منطق الأشياء، «هم» يريدون فرض الفرنسية على الجميع، ونحن نطالب بعرض اللغتين على الآباء والأمهات اختيار إحداهما ـ بكل حرية ـ لأبنائهم.

* مؤيدو تعليم البدء بتعلّم اللغة الفرنسية يستندون إلى أن الجزائريين يكتسبون هذه اللغة من فترة الاستعمار ومن غير اللائق أن نتخلى عن «غنيمة الحرب» ونبحث عن تعلم لغة بعيدة عنا، ما رأيك في هذا الطرح علما أن البلدان العربية الأخرى فعلت ذلك مع اللغة الإنجليزية؟

ـ إذا سايرنا هذا الطرح الذي عبرت عنه في سؤالك فإنه يمكن أن نجسد الموضوع على النحو التالي: بعض البلدان العربية (المشرقية) غنمت في حرب استقلالها مدفعا من نوع حديث، متقدم الصنع. وبلدان المغرب العربي غنمت في حرب استقلالها بندقية من النوع العتيق الذي استعمل في الحرب العالمية الثانية، هل من «اللائق» أن نوازي بين المدفع والبندقية، هل من العدل عند إعلان الحرب على العدو (وهو، هنا، التخلف) أن تطالب الطرف الثاني (صاحب البندقية) بعدم التفكير في اقتناء المدفع لمجرد أن الطرف الأول لم يغير سلاحه؟! يا سيدي المسألة لا تطرح هكذا. وهذا هو موقع الخلاف بيننا وبين خصومنا. نحن عندنا لغتنا العربية التي تعبر عن ذاتنا، وهي التي نعلّم بها التلاميذ في مدارسنا ونلقنهم بها كل مواد البرنامج الدراسي. ثم إننا نريد أن نزودهم بأدوات تمكنهم من الاطلاع على ما عند الأمم المتقدمة من معارف وعلوم وتقنيات، وهذه الأدوات هي اللغات الأجنبية، ونحن لا ننظر إليها على أساس: ما هو الأقرب منها إلينا، وإنما ننظر إليها على أساس ما هي اللغة الأفيد لنا، والتي تمكننا من الاتصال مباشرة بمنابع العلم ومنافذ التقدم، دون انتظار ترجمتها إلى اللغات «الأقرب إلينا» بعد عشر سنوات.. ولغة العلم في عالم اليوم هي الإنجليزية، ومع ذلك فلم تصدر منا أية دعوة لعزل الفرنسية، أو إلغائها وتعويضها باللغة الإنجليزية، كل ما نطالب به ونصر عليه هو: تكافؤ الفرص بين اللغتين، وعدم التحيز للفرنسية، ولا يكون ذلك إلا بشرطين:

ـ الأول : اختيار الأولياء لما يشاءون لأبنائهم منهما.

ـ الثاني : أن يسوى بينهما في المستوى الذي يبدأ فيه تعليمهما، وفي الحجم الساعي لكل منهما.

ثم إذا كانت للفرنسية المكانة التي تزعم لها في نفوس الجزائريين، وكانت هي «الأقرب إلينا» كما يزعم التغريبيون، فلماذا الخوف عليها إذن، ولماذا هذه الخشية من جعل الاختيار بيد الأولياء. هذا بالإضافة إلى أن المحيط الجزائري المشبع بالفرنسية في الإدارة والإعلام والتعامل الرسمي والممارسة السياسية... من المفروض أن يكون كله في صالح اللغة الفرنسية، فلماذا هذا الخوف عليها من الإنجليزية؟! المدرسة الخاصة هي أخطر أشكال التهريب عندنا

* أنت من أشد المعارضين لإنشاء مدارس خاصة في الجزائر، في حين أنه لا تكاد تخلو منها معظم البلدان، وقد قمت بغلق أول مدرسة خاصة عندما كنت وزيرا للتربية، لكن أعيد فتحها وأنت وزير، ثم تغاضت السلطة عن بروز مدارس أخرى رغم اعتراف المسؤولين في الحكومات المتعاقبة أنها مدارس «غير شرعية». لماذا هذه المعارضة للمدارس الخاصة، وهل تعتقد أن «صمودها» أو مواصلتها العمل خارج الإطار القانوني دليل على أن هناك جهات قوية في السلطة تريد لها أن تبقى مفتوحة، وما هي هذه الأطراف ولماذا لم تعمل على توفير إطار قانوني لها يخرجها من حالتها، علما أن مستقبل كثير من التلاميذ مرتبط بها وعددهم في تزايد؟

ـ أولا، لست عدوا بالقدر الذي تتصوره للمدرسة الخاصة، ومع ذلك فإنه لا بد من إعطاء خلفية تاريخية تفسر للقراء كثيرا من الجوانب الخفية.

كان المأمول والمتوقع، هو أن تعالج السلطات الوطنية، بعد استقلال البلاد، كل مظاهر الوضعية الشاذة التي أحدثها الاستعمار الفرنسي، عمدا، في بلادنا، والتي كانت نتيجتها أن أزيحت لغتنا الوطنية ـ العربية ـ من كل مرافق الحياة: من المدرسة والإدارة والتعامل.. ولم تبق إلا في الكتاتيب التي تحفظ القرآن للصبيان، مع ما يطولها من المضايقات، وفي بعض الزوايا التي يغلب عليها جانب الأدعية والممارسات الصوفية، وهذا الوضع لم يحدث أبدا ما يشبهه، ولا ما يدانيه في أي بلد آخر حتى في المستعمرات الفرنسية المغاربية: تونس، والمغرب. بقيت اللغة العربية سائدة في المجتمع، وبقي فيهما رسم ـ ولو كان باهتا ـ من رسوم السلطة الوطنية: الباي في تونس، والباشا والملك في المغرب. ولم تنقطع يوما جامعة الزيتونة ولا جامعة القرويين عن تدريس كل العلوم التي هي ضمن برنامجهما باللغة العربية.

ولكن تلك السلطات لم تعالج هذا الشذوذ بحجة أنه لا بد من مرور وقت معين، ومع مرور الوقت، كان المشكل يزداد اتساعا، وبدل تجفيف منابع الوضع الشاذ، أصبحت مرافق البلد ومؤسساته العلمية والثقافية والإدارية والسياسية تشارك في تغذية «الشذوذ».

وبما أن المدرسة كان محتوما عليها أن تعرب شيئا فشيئا، ليس نتيجة لقرار سياسي حازم، في جميع الحالات، ولكن نتيجة لأحوال موضوعية ما كان بالإمكان تخطيها، أهمها أن توسيع التعليم، تطبيقا لمبدأ «ديمقراطية التربية»، استدعى توفير أعداد من المعلمين ما كان بالإمكان توفيرها من الجزائريين، الذين كانوا ـ على قلة من كان له المستوى الذي يمكن أن يسمح له بمزاولة التعليم ـ يفضلون الوظائف في قطاعات أخرى أقل إجهادا، وأكثر ربحا، وأعلى منزلة في نظر المجتمع، ولا من الفرنسيين، الذين لم يكونوا في كل سنة يلبون إلا 40 أو 50% من حاجاتنا من المعلمين فكان لا بد من الاستعانة بالبلدان العربية لتوفير ما نسد به الحاجة.

وبدأت بعض الأقسام يغلب عليها تعليم معظم مواد البرنامج فيها باللغة العربية، وبدأت اللغة الفرنسية منذ مطلع السبعينات تشكل أداة فرز طبقي، فكان أبناء الأعيان والموظفين والنخب الفكرية المفرنسة، على قلتها، وأبناء ضباط الأمن والجيش، وأبناء الدبلوماسيين، يهربون إلى المؤسسات التعليمية التابعة للسفارة الفرنسية. ولما كانت هذه المؤسسات لا تستطيع أن تتسع لكل الراغبين في الالتحاق بها فقد ازدهرت أيضا المدارس الخاصة التابعة للكنيسة: «سان جوزيف» و«سانت إليزابيث» و«سانت جونفياف» الخ... وكانت تعلّم طبعا، باللغة الفرنسية إلى جانب تعليم مادة اللغة العربية، كمجرد لغة.

عندئذ استشعرت السلطات العمومية الخطر الذي يمكن أن يشكله تعليم النشء في مؤسسات من هذا النوع، وذلك في أمة خارجة لتوها من ظلام الاحتلال الطويل الذي عمل كل ما في وسعه لتقسيم الشعب الجزائري الواحد إلى طواف وقبائل، وكان يحسن أيضا اللعب على النعرات الجهوية، والخصوصيات المحلية لتحطيم وحدة المجتمع التي كانت الضامن الأوحد لانتصاره على المحتل.

وكان من نتيجة هذا الوعي بالخطر أن أقدمت الدولة سنة 1976 على تأميم كل المدارس الخاصة، بما فيها مدارس الجزائريين التي كانت كلها ذات طابع تجاري، وبلا أي محتوى تربوي حقيقي; وبما فيها، طبعا، مدارس الكنيسة، أما مؤسسات التعليم التابعة للسفارة الفرنسية فقد اقتصر السماح بالالتحاق بها على أبناء الدبلوماسيين وموظفي الدولة العائدين من مهماتهم في الخارج، ثم أنشئت لهؤلاء مؤسسات جزائرية، ومنع على الجزائريين الالتحاق بتلك المدارس.

وما إن وقعت حوادث أكتوبر 1988، حتى بدأ الهجوم المنظم على المدرسة الجزائرية، وتحميلها كل ويلات البلاد، وبدأت بعض المدارس الخاصة، في صورة بدائية تظهر هنا وهناك. وكانت كلها غير شرعية، وغير قانونية بصريح النص القانوني (أمرية 1976) الذي يمنع على الخواص فتح أي نوع من المؤسسات التعليمية.

وقد قُمت ـ عام 1991 ـ عندما كنت أتولى وزارة التربية، بغلق واحدة من أولى المدارس غير الشرعية التي نشأت في البلاد. ثم وجدت تلك المدرسة من يتواطأ مع المشرفين عليها لإعادة فتحها. ونمت المدارس الخاصة كالفطريات في العاصمة والولايات المجاورة لها بشكل خاص، وهي كلها ـ بالإضافة إلى عدم شرعيتها ـ ليست إلا صيغة للالتفاف على العربية والتعريب. فهي كلها تُعلّم باللغة الفرنسية. ولو كانت مدارس لتوفير النوعية في التعليم، كما يدعي أصحابها، لاحترمت فيها البرامج الرسمية، وجرى التعليم فيها بلغة البلاد، مثلها مثل المدارس العمومية. ولتُقنعنا حينئذ، بأنها حققت لتلاميذها من الكفاءة ما لم توفره المدارس العامة.

أنا خصم موضوعي للمدرسة الخاصة التي ليست إلا شكلا من أشكال «التهريب»، بل هي أخطر أشكاله على الإطلاق، وكفاك بها مصيبة أنها تُهرّب عقول الأطفال، وتناور للالتفاف على حقائق المجتمع وثوابت الأمة، وتمهد السبيل لفرز اجتماعي وسياسي رهيب، لتخريج «نخبة» جزائرية تواصل الصراع الحالي بصورة أشد، وتزرع بذور الفتنة وقانا الله منها.

لو كانت في البلد سلطات تحمي القانون وتحافظ عليه لما سكتت على هذه الظاهرة. ولما حمت الخارجين على القانون! فكيف تريد من هذه السلطات أن تلزم غدا، هذه المدارس باحترام البرنامج الرسمي، كما هو الشأن في كل البلدان المحترمة التي فيها مجال مفتوح للتعليم الخاص، وهي (السلطات) قد عجزت عن منع تلك المدارس وهي في صورة تحد واضح لنص قانون صريح؟! وفي خلاصة هذه النقطة: كم عدد الذين سيلتحقون بالمدارس الخاصة، حين يسمح بها، ونحن نعرف أن الأسر مطالبة بدفع مبالغ عالية تقدر بما بين 5 و6 آلاف دينار عن أطفال المرحلة الابتدائية، في الشهر الواحد؟ هل بضع مئات، أو حتى بضعة آلاف من تلاميذ هذه المدارس هم الذين سيحلون مشكلة العلم والثقافة في الجزائر، أم أن الذي يحلها هم السبعة ملايين ونصف المليون من تلاميذ المدارس العمومية؟

ثم إن التغريبيين ينسون ـ كعادتهم ـ بعض الحقائق الصارخة. هل يعلمون أنه عندما تتم تسوية الوضعية القانونية لفتح المدارس الخاصة ستقوم الجهات التي يخشونها، وتقض مضاجعهم بفتح آلاف المدارس؟ ولن تكون مدارس الفئات التغريبية إلا قطرة في بحر متلاطم الأمواج؟! إن كل الاحتياطات التي أخذتها تركيا العلمانية، وقراراتها بطرد التعليم الديني من المدارس العامة هي التي مكنت تلك الملايين التي تلقت دروسا إسلامية، على هامش التعليم العام، من قلب الموازين، فأدخلت الهلع إلى نفوس الحكام، وجعلتهم في حالة طوارئ كلما حان موعد انتخابي في البلاد.

* صرح وزير الخارجية الفرنسي قبل انتهاء زيارته الأخيرة إلى الجزائر أنه أخذ وعدا من الحكومة الجزائرية على إعادة فتح مدرسة ديكارت الفرنسية المغلقة منذ سنوات، لماذا أغلقت هذه المدرسة، ولماذا تعود اليوم إلى النشاط، وهل أنت ضد انتشار مدارس اميركية وفرنسية على غرار ما هو موجود في بلدان عربية أخرى؟

ـ بالنسبة للجزء الأول من السؤال، فإن المعروف أن سلطات السفارة الفرنسية أغلقت مؤسساتها التعليمية في الجزائر إثر الاغتيالات التي ذهب ضحيتها عدد من الفرنسيين في الجزائر. ومن المحير في موقف السلطات الفرنسية أنها ترفض تسيير رحلات الخطوط الجوية الفرنسية، بحجة الخوف من الإرهاب، ومطار الجزائر فيه من الاحتياطات الأمنية ما يعرفه كل من سافر منه إلى أي اتجاه كان، ولكنها في الوقت نفسه، تقدّر أن خطر الإرهاب قد زال، وأنها بالتالي تستطيع أن تفتح من جديد مؤسساتها التعليمية في الجزائر. هذا فقط لتسجيل التناقض الصارخ بين الموقفين.

أما من ناحية مسألة فتح مؤسسات تعليمية أجنبية في الجزائر، فالمفروض أن يخضع للقاعدة المعروفة وهي المعاملة بالمثل. ولكن «الوضعية الشاذة» التي أسلفتُ فيها القول هي التي تطرح عندنا إشكالات من نوع خاص.

المفروض أن دولة ما عندما تفتح مدارس على أرض دولة أخرى، إنما يكون ذلك أساسا لمواطنيها لتضمن لهم تعليما موحدا مع أبناء قومهم الذين لم يغادروا بلدهم. فإذا فتحت مصر مدرسة في ألمانيا فليس ذلك ليتعلم فيها الألمان، ولكن ليتعلم فيها أبناء مصر الذين يريدون الاحتفاظ بنفس المضمون التربوي الذي يمنح للمصريين في مصر.

في ضوء هذا الواقع نتساءل: هل المؤسسات الفرنسية التي كانت، أو التي ستكون، مفتوحة في الجزائر هي للفرنسيين؟ بالتأكيد، لا. لأن عدد التلاميذ الفرنسيين لا يبرر فتح ثانوية ولا ابتدائية. هو إذن موجه لتلاميذ جزائريين، وهنا لا بد من التساؤل أيضا: في إطار أية سياسة يدخل فتح هذه المعاهد التعليمية؟ هناك فرق بين أن توفر لمواطنينا فرصا لتعلم اللغة الفرنسية، أو الاطلاع على جوانب الحضارة الفرنسية، في أوقات ملائمة، تكون عادة بعد توقيت المدارس الوطنية، وبين أن تستقبل جزائريين في سن الدراسة العادية، لتعلمهم باللغة الفرنسية تاريخ فرنسا وجغرافيتها، وكامل مواد برنامجها كما لو كان أولئك التلاميذ فرنسيين، في فرنسا.

هل هذا هو التعاون التربوي؟ هل هذا هو التعامل بالمثل؟ أليس هذا احتلالا فكريا؟ واستلابا رسميا لعقول المواطنين الصغار؟ ولماذا تحرص دولة ما كل هذا الحرص على أن تنفق الاموال الطائلة لصهر أبناء أوطان أخرى في بوتقة حضارتها ولغتها وثقافتها، وأن تنقل إليهم في أوطانهم البعيدة شبكة مؤسساتها التعليمية، في نفس الوقت الذي لا تحرص فيه دول أخرى حتى على ضمان الحد الأدنى من معرفة أبنائها للغتهم وتاريخهم وثقافتهم، فتسلمهم، وهم على أرض الوطن، إلى منظومة تعليمية أجنبية لتصهرهم، وتصبهم في القالب الذي تريده؟ هل يمكن أن نقول إن فرنسا تكنّ لنا من عواطف الحب، وتخصنا بهذا المقدار من المودة لتتحمل كل هذه الأتعاب والنفقات من أجل أن تعلمنا في مدارسها التي تقيمها عندنا، بينما يعيش مئات الآلاف من أبنائنا المغتربين في فرنسا، وعشرات الآلاف من أبنائهم المسجلين في المدارس والمعاهد الفرنسية لا يتلقون درسا واحدا في لغتهم، ولا في تاريخ بلادهم، ولا في أي جانب من جوانب حضارتهم؟ فإذا كان هناك ميدان ينبغي أن تكونفيه «الشراكة التربوية» بين الجزائر وفرنسا، فهو بالضرورة تعليم أبناء المغتربين المسجلين في مدارسهم، وليس أبناء الجزائريين المقيمين في الجزائر، الذين تتطوع الدولة الجزائرية لفرض اللغة الفرنسية عليهم في كل مراحل التعليم.

* كلما حققت الفرنسية نجاحا في الميدان سكت دعاة الأمازيغية؟

ـ ألا تعتقد أن تميز الجزائر من بين جل الدول العربية الأخرى، بهذا الصراع حول المنظومة التربوية واستمرار النقاش حول وجود اللغة العربية نفسها أجنبية في بلد عربي يعود بالدرجة الأولى إلى وجود صراع آخر حول الأمازيغية التي يعاديها جزء من الجزائريين، وقد ولّد هذا الكره عداء لدى فئات من دعاة الأمازيغية للغة العربية؟

* الصراع على المنظومة التربوية في الجزائر موضوعه اللغة العربية، لا اللهجات (أو اللغات، إن شئت) الأمازيغية، الموضوع هو أن لنا لغة وطنية كانت المطالبة بتركها تقوم بوظائفها العادية، منذ الاستقلال، تلاقي المعارضة والمقاومة من فئات ترى أن اللغة الفرنسية ـ التي تعلمتُ بها ـ هي التي ينبغي أن تحتكر تلك الوظائف، وأن تبقى للغةِ العربية مواقعُ الزوايا الصوفية، وكتاتيب تحفيظ القرآن التي كانت لها أيام الاحتلال. فلمّا بدأ التعريب يخطو خطواته الحاسمة، نتيجة للضغط الشعبي، ولمعطيات المحيط، وللظروف التي شرحتها في الإجابة عن سؤال سابق، تبينت الأطراف التغريبية عندنا، ومن ورائها القوى الخارجية التي تدعمها وتوجهها، أن المواجهة بين العربية والفرنسية، وفي رحاب المدرسة بالذات، توشك أن تفوز فيها الأولى بالضربة القاضية. وذلك منطق الأشياء. لذلك تفتقت العبقرية عن خلق ضرة محلية للغة العربية تشوش عليها المسيرة، وتنافسها على مواقع الصدارة، وهي ما سمي بـ«اللغة الأمازيغية». وأكرر فأقول يخبو كل صوت ينادي بالأمازيغية كلما لاح أمل، في الأفق، بعودة الفرنسية. وهو ما يقع الآن في الجزائر. ويتعالى ذلك الصوت مدويا كلما اكتسبت العربية موقعا جديدا في التعليم أو في الإدارة، أو حان أوان تطبيق قوانين التعريب.

يا سيدي «الأمازيغية» هي لهجات متباينة، وهي في أحسن الحالات مثل العامية الجزائرية. فتصور أننا نُعلّم العامية في المدارس. لمن نعلمها؟ والذين يتكلمون بها قد تعلموها عن أحسن معلم: أمهاتهم! وكذلك الأمازيغية. الذين يعرفونها قد تعلموها ونشأوا عليها، والذين لا يعرفونها ماذا تريد أن تعلّمهم بها في المدرسة: الرياضيات؟ الفيزياء؟ الكيمياء؟ الجغرافيا؟ الفلسفة؟ ماذا تعلّمُ بها وأجدادُنا أبقوها للتعامل اليومي وقضاء الحاجات البسيطة؟

نعم إذا كان البعض غير راضين عن مستوى اللغة العربية ويرون أنها لا تسمح لنا بالتفتح على العالم، وهي لغة حضارة عظمى، قادت الفكر العالمي مدة خمسة قرون على الأقل، ويستعملها اليوم نحو 300 مليون عربي في كل معاملاتهم، فهل يقبل من هؤلاء أنفسهم أن يدعوا إلى تعليم لغة لم تستكمل أدواتها وهي مصطنعة، أنتجتها مخابر الأكاديمية البربرية في باريس، ليس لها إلى الآن، مع ذلك لا نظام كتابة قار، ولا نظام نحوي متفق عليه، ولا تنظير قاعدي شامل؟ وبعد كل هذا وذاك لماذا نترك اللغة التي وحدتنا طيلة أربعة عشر قرنا، ونستعمل لهجات تشتتنا زمرا وطوائف، إذا كنا نطبق مخطط من يريد لنا ذلك التشرذم لتبقى اللغة الفرنسية هي الأداة الوحيدة التي نتفاهم بها. وحينئذ تكون الرابط الفريد لوحدتنا، والمستفيد من هذا الوضع معروف، ولا يحتاج إلى مزيد بيان.

لقد جُمد قانون تعميم اللغة العربية في الإدارة، وجاء الخطاب الرسمي منذ سنتين على لسان الرئيس بوتفليقة ليبعث بشدة، وعنف، صراعا كان في طريقه إلى الخمود. وإذا بنا بعد قرابة الأربعين سنة من الاستقلال نعود إلى مخاطبة شعبنا باللغة الفرنسية، ونخطط للعودة بالمدرسة إلى ما كانت عليه في مثل ذلك التاريخ، ونفتح لفرنسا شهية «مشاركتنا» في تنشئة أبنائنا، ونروّج للفرنكوفونية في العالم حتى لنستحق الثناء العطر من الرئيس الفرنسي على ذلك. وتتحدث الأخبار عن اقتحام قريب لشركة «هاشيت» الفرنسية للكتاب المدرسي في الجزائر، بحيث تُمكن من وسائل طبع نحو من ثلاثين مليون نسخة في العام! ولم تعد تتحرج تلفزتنا من تقديم مسؤولين جزائريين يخاطبون شعبهم بالفرنسية. ويسمون كل هذا «تكسير الطابوهات»، هل تعرف بلدا عربيا واحدا من المحيط إلى الخليج يشبهنا في هذه الحالة التعيسة؟