الإنسان أيضا قابل للبرمجة

وليد الأصفر

TT

عندما يكون عملك متعلقا بالكومبيوتر وتتاح لك تربية طفل، تحس مباشرة كيف أن الانسان نفسه قابل للبرمجة كالكومبيوتر، ولكن وبدلا من مصطلح البرمجة نستخدم مع البشر مصطلح التعود. صحيح أن الانسان يعقل ويفكر، إلا أنه إن اعتاد على شيء فإنه ينفذه من دون أن يستخدم عقله، لأن العقل نفسه يعمل وقتها لوحده من دون أي تدخل من صاحبه، تماما كالكومبيوتر تعطيه أوامر للقيام بتصرف ما، ثم تتركه لتنفيذ ذلك من دون أي تدخل منك.

هل تشك في ما أقول؟ إذاً هل تتذكر عندما تركت عملك في أحد الأيام بعد نهاية الدوام، بقصد شراء غرض ما قبل التوجه إلى المنزل، وجدت نفسك وقد أصبحت بدلا من ذلك أمام بيتك من دون أن تعرف كيف؟ يكفي أن يكون بالك مشغولا بشيء ما لتصل إلى هذه النتيجة المضمونة، وبخاصة إذا أضفت إلى ذلك أن تكون الطريق المؤدية إلى المتجر هي في جزء كبير منها نفس الطريق المؤدية إلى بيتك، عندها سيعمل عقلك لوحده من دون أي تدخل منك، ليستمر في الطريق التي يعرفها باتجاه البيت، لأن عينيك كانتا تلتقطان أثناء المسير ما خزنه عقلك مسبقا من مؤشرات وعلامات ترتبط مع تصرفاتك عندما كنت «تبرمجه» طيلة سنوات سرت فيها في تلك الطريق. فمثلا، كنت عند الاشارة الأولى تشغل عقلك ليتحكم بجسمك الذي يتحكم بدوره بالسيارة تتجه إلى اليمين، وبعد المدرسة تنعطف إلى اليسار، وهكذا إلى أن تصل إلى هدفك، ولكن إذا انشغل عقلك بشيء آخر مختلف عن قصدك، فإن دماغك سيتحكم بجسمك بذاته معتمدا على المؤثرات الخارجية التي يشعر بها حوله، ليأخذه لتحقيق النتيجة التي ارتبطت بتلك المؤثرات. نحن نسمي ذلك تعودا لكنه هو نفسه معنى البرمجة.

وكما تستطيع أن تبعث بأوامرك أو برامجك إلى مجموعة من أجهزة الكومبيوتر في وقت واحد إذا كانت مرتبطة بشبكة لتنفيذ وظيفة ما، تستطيع أن «تبرمج» مجاميع كبيرة من البشر في وقت واحد كذلك، وهو الأمر الذي يطلق عليه غالبا تعبير «عملية غسل الدماغ»، بحيث تحصل في النهاية على عدد كبير من الناس الذين يقومون بتصرفات متشابهة، مع اختلافهم في الأهواء والتوجهات، وبمجرد أن تطلب منهم ذلك. ولا داعي لذكر أمثلة خوفا من أن تصبح مقالتي سياسية، ولكن يكفي لتنظر إلى الأمواج المتلاطمة من الشباب والفتيات وهم يتفاعلون مع الأغاني الغربية الصاخبة، لتأخذ تصورا (مسالما) عن ما أعني. ولكن الفرق بين الكومبيوتر والانسان (حتى الآن على الأقل) هو في أن الانسان يستطيع إن أراد أن يلغي ما تعود (تبرمج) عليه ويتصرف بشكل قد يكون مخالفا له بالكامل، ويتم ذلك أحيانا بإرادته، وأحيانا بتغير المؤثرات التي كانت تجبره على الالتزام بتلك العادة. ولكن الغريب في أمر البشر أن نسبة من يتمرد منهم على ما تعود أو تبرمج عليه تكون أقل بكثير من بقية من يفضل الاستمرار على ما كان عليه، دائما هناك «أغلبية صامتة». أما في حالة الكومبيوتر فقد تخيل مؤلفو القصص زمنا مستقبليا يبدأ فيه الكومبيوتر بالتمرد على ما برمجه عليه الانسان ليبدأ ببرمجة نفسه بنفسه، ليبدأ هو بالتحكم بصاحبه. ولكن هل ما يقوم به الانسان هو دائما ما تمليه عليه العادة وما يتعلق بها من ظروف؟ وهل العقل هو المتأثر الوحيد في هذا الأمر؟ أم أن العواطف والأهواء لها أثرها هي الأخرى؟ مهما حاول البشر وضع تفسيرات علمية للطريقة التي يتعلم بها البشر ويتعودون، سيقفون حائرين أمام تلك الألغاز الغامضة التي تختزل عادة بما يسمى بالنفس البشرية، التي لا يمكن تصنيفها أو تحديد قواعد ثابتة لها. ولذلك ومهما زادت وتطورت قدرات الكومبيوتر، وهو أمر سيكون، لن يستطيع أي عالم أن يزرع فيه الروح والهوى والعواطف، فسبحان الله.