أسرار لعبة «غو» القديمة تحدد مستقبل الذكاء الصناعي

عالم واسع من المتغيرات التي حيرت أعتى المبرمجين تتحول بفضل الإنترنت من تدريب لمقاتلي الساموراي الى لعبة متاحة للجميع

TT

في بداية فيلم «أ بيوتيفل مايند» A Beautiful Mind) ) أو عقل جميل، يُشاهَد عالم الرياضيات جون ناش جالسا في فناء برينستون، وقد تحدب فوق لوحة لعب غُطِّيت بقطع سوداء وبيضاء صغيرة تبدو مثل الأحجار. كان ناش يلعب «غو»Go) ) وهي لعبة آسيوية قديمة. الإحباط الذي أصابه نتيجة خسارة تلك اللعبة ألهم ناش، الشخصية الحقيقية، متابعة رياضيات نظرية اللعبة، وهو البحث الذي فاز به في نهاية الأمر بجائزة نوبل. وفي السنوات الأخيرة، أحس خبراء الكومبيوتر، خصوصا أولئك المتخصصين في الذكاء الصناعي، بالشعور ذاته; روعةً وإحباطاً.

ولم تكن برمجة الألعاب اللوحية الأخرى مسألة بعيدة عن الموضوع، فحتى الشطرنج استسلمت لقوة الكومبيوتر، فقبل خمس سنوات، لم يتمكن الكومبيوتر «ديب بلو» الذي يلعب الشطرنج من هزيمة غاري كاسباروف بطل العالم وقتئذ فحسب، ولكنه أمعن في إذلاله، وذلك لأن الشطرنج، ومع كونها شديدة التعقيد، يمكن أن يتم تحجيمها إلى مسألة حسابية ليس إلا.

على أن لعبة «غو» مختلفة تماما، فهي لعبة خادعة توحي بسهولة تعلّمها من قبل الكومبيوتر أو الإنسان، إنها لعبة تملك العمق والتعقيد الذي يتطلب سنوات من الشخص ليصبح لاعبا قويا. وحتى الآن، لا يستطيع أي كومبيوتر أن يصل لأي مستوى مهارة في لعبها يفوق مستوى اللاعب العادي. وتُلعب اللعبة على لوحة مقسمة إلى شبكة من 19 خطا أفقيا و19 عموديا. وتوضع القطع السوداء والبيضاء المسماة بالأحجار على تقاطعات الشبكة، والهدف هو كسب وحماية المربعات بإحاطتها بالأحجار. ويرى المبرمجون العاملون على «غو» أن اللعبة أكثر دقة من الشطرنج في عكس الطرق فائقة الوصف التي يعمل بها العقل الإنساني. ويذهب تحدي برمجة كومبيوتر لتقليد تلك العملية إلى صميم الذكاء الصناعي الذي يتضمن دراسة تعلم واتخاذ القرارات، والتفكير الاستراتيجي، والتمثيل المعرفي، والتمييز النمطي، وربما بشكل مثير جدا، الحدس.

ويقول الدكتور جون مكارثي الأستاذ الفخري في جامعة ستانفورد والرائد في الذكاء الصناعي: «قد يقوم لاعب «غو» جيد بحركة، ويقول لك لاعبون آخرون «أجل إنها حركة جيدة"، لكنّهم لا يستطيعون أن يوضحوا لك السبب في كونها حركة جيدة أو حتى كيف عرفوا بأنها كذلك». ويقول الدكتور داني هيليس، مصمم الكومبيوتر ورئيس شركة التقنية "أبلايد مايندز" Applied Minds) )بأن عمق «غو» جعلها مؤهلة لنوع من التقدم العلمي الذي يجيء من دراسة مثال واحد بتفصيل موسع. ويقول هيليس: "نريد مكافئا لذبابة الفاكهة من أجل الدراسة. الشطرنج كانت ذبابة الفاكهة لدراسة المنطق، وربما تكون «غو» ذبابة الفاكهة لدراسة الحدس». وبالتوازي مع الحدس، فإن التمييز النمطي جزء كبير من اللعبة. وبينما تتسم أجهزة الكومبيوتر بحسن تعاطيها مع الأعداد، فإن الناس بطبيعتهم جيدون في مماثلة الأنماط. ويمكن للناس أن يميزوا أصدقاءهم بنظرة خاطفة حتى من الظهر. ويقول مكارثي: «كل كتاب عن «غو» مليء بالنصيحة على أنماط من أنواع مختلفة». ويعمل الدكتور دانيال بمب، أستاذ الرياضيات في ستانفورد، في وقت فراغه على برنامج يُدعى «جي إن يو غو» G (NU Go). يقول بمب: «بنظرة سريعة إلى لعبة شطرنج يمكنك معرفة ما إذا كانت هناك مشكلة رئيسية. لكن لاتخاذ قرار في «غو» فإن على اللاعبين أن يتعلموا دمج قدرات مماثَلة الأنماط بكل من المنطق والمعرفة التي اكتسبوها عبر سنوات من اللعب». ويضيف: «إذا راقبت لاعبين أقوياء بالفعل، يبدو البعض كأنهم يؤدون حركات غبية، لكن تجدهم يتقدمون في نهاية اللعبة، في حين يقوم الآخرون بعمل حركات مدهشة».

أحد مظاهر التحدي التي تُبديها اللعبة هو أداء برامج «غو» الكومبيوترية. ويقول ديفيد فوتلاند، المبرمج ومصمم الرقاقات في سان خوزيه بكاليفورنيا، الذي ابتكر برنامج "ذي ماني فايسز أوف غو" (The Many Faces of Go) أحد برامج «غو» القليلة المتوفرة بشكل تجاري: «لقد أوجدت السنوات الخمس الأخيرة تحسينات متزايدة لكن بدون قفزات واسعة». وفاز برنامج فوتلاند ببطولة تنافسية قبل بضعة أسابيع في إدمونتون بولاية ألبيرتا الكندية، شهدت تنافس 14 برنامجا للعب «غو»، من ضمنها عدة برامج من اليابان، ضد بعضها البعض. لكن حتى «ذي ماني فايسز أوف غو» يعتبر ضعيفا بما يكفي لكي يهزم بشكل كامل من قبل أكثر اللاعبين الأقوياء. ويجب أن يتمثل جزء التحدي بسرعة المعالجة، فيمكن مثلا لبرنامج الشطرنج المثالي أن يقيّم حوالي 300 ألف موضع في الثانية، وقد كان "ديب بلو" قادرا على تقييم حوالي 200 مليون موضع في الثانية. ويقول أندرس كيرولف، الذي كتب برنامج «سمارتغو» (SmartGo)، إنه مع منتصف اللعب تصبح غالبية برامج «غو» قادرة على تقييم نحو عشرين موضعا فحسب كل ثانية.

وأثناء لعبة الشطرنج، فإن عدد الحركات المتاحة لدى اللاعب يتراوح بين 25 إلى 35 حركة، في حين أن اللاعب في «غو» يمكن أن يختار من بين 240 حركة متاحة. ويقول الدكتور مايكل ريس، عالم الكومبيوتر المقيم في لندن: «إذا استغرق النظر في عملية ما من «ديب بلو» عند لعب الشطرنج ثلاث ثوان، فإن هذا الأمر سيستغرق من كومبيوتر حوالي 30 ألف سنة عند لعب «غو». وإذا كانت كل قوة المعالجة متاحة، فإن الحل سيكون ببساطة مسألة وقت، لأن الكومبيوترات باتت تنمو بشكل أسرع. لكن العقبات تذهب لمدى أبعد من ذلك; فليست لدى برامج «غو» مشكلة في تقييم المواضع بسرعة فحسب، لكن لديها كذلك مشكلة في تقييمها بالشكل الصحيح. ومع هذا، يزداد إغراء لعبة «غو» الإلكترونية كلما شجعت الصعوبات الناشئة عن اللعبة المبرمجين على تعزيز العمل الأساسي ودعمه بالذكاء الصناعي. ويقدّم الطلبة الخريجون الأطروحات الدراسية على هذا الموضوع، كما يكرس عدد من الباحثين حول العالم جلّ اهتمامهم له. وتجذب اللعبة الناس من كل المجالات. فعلى سبيل المثال، كتب تشين زيكسينغ، أستاذ الكيمياء المتقاعد في جوانغزو بالصين، برنامجا سماه «هاندتوك» (Handtalk)، الذي سيطر على مجال «غو» الإلكترونية لعدة سنوات. أما بمب، البالغ من العمر 50 عاما والمتخصص في نظرية الأعداد، فإنه يلعب «غو» منذ 35 سنة، وقد درس لغة «سي» البرمجية قبل أربع سنوات، لذا بإمكانه أن يكتب برامج للعبة. وبالنسبة لفوتلاند، البالغ 44 عاما ومبتكر «ذي ماني فايسز أوف غو»، فهو يعمل على «غو» الإلكترونية منذ 20 سنة، وهو موظف تقنية رئيسي في شركة أشباه موصلات صغيرة تُدعى «يوبيكوم»Ubicom) )تقع في «سيليكون فالي». كل أولئك لاعبو «غو» أقوياء جدا. فوتلاند، على سبيل المثال، قال إنه كتب برامج لألعاب الداما والشطرنج و«أوثيلّو» (أو عُطيل). ويصف فوتلاند خوارزميات هذه البرامج بأنها متماثلة جدا، وأنه ليس من الصعب كتابة برنامج قوي نسبيا، وقد استغرقته كل واحدة من الألعاب سنة أو اثنتين لإنهائها، ويضيف: «لكن عندما بدأت في «غو» لم تكن هناك نهاية لها». وأشار فوتلاند إلى أن برمجته للعبة «غو» كانت ضعيفة سيما عندما كان لاعبا مبتدئا. ويقول: «الكثير مما كتبت كان خاطئا لأنني لم أفهم اللعبة بما فيه الكفاية». وحتى عندما تتطور المهارة، فإن ترجمة اللعبة إلى برنامج ليس بالمهمة السهلة. يقول بمب: «هناك دفق معين من الوعي يتأتى عندما تنظر إلى المواضع، فربما كنت تنظر إلى 10 متغيرات، لكنك لا تعرف تماما ماذا يجري في اللاشعور، وحتى اللاعب القوي لا يعرف كيف يعمل عقله عندما ينظر إلى موضع ما». ويقول: «نعتقد بأن لدينا الأساسيات لما نقوم بعمله كبشر، إننا ننهض في الصباح ونصنع الفطور، لكن إذا حاولت برمجة كومبيوتر للقيام بهذا الأمر، فستجد بسرعة أن ما هو سهل عليك يكون فائق الصعوبة على الكومبيوتر».

ويضيف بمب: «هذا الأمر ينطبق تماما على «غو»، فمتى حددت المتغيرات التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، يقوم عقلك اللاشعوري بتشذيبها، ومن الصعب قول كم يستمر هذا التشذيب ببالك ليُنجز، لكن في موضع ما على اللوحة حيث أنظر إلى 10 متغيرات، فإن على الكومبيوتر أن ينظر إلى الآلاف، وربما مليون موضع من أجل الوصول إلى الاستنتاجات نفسها، أو إلى استنتاجات خاطئة».

ويتفق ريس، مؤلف »غو 4(بلص بلص)»Go4(plus plus)، الفائزة السابقة التي حلّت ثانية في مباراة نهاية الأسبوع الفاصلة، مع بمب في طرحه. ويقارن ريس، الخبير في الشبكات العصبية، قدرة إنسان على تمييز موضع قوي أو ضعيف في «غو» بالقدرة على التمييز بين صورة كرسي وصورة دراجة: كلتا المهمتان صعبة على الكومبيوتر إلى حد كبير جدا، على حد قوله. ويقول فوتلاند: «لذلك السبب فإن كتابة برنامج «غو» قوي ستعلمنا كيفية جعل الكومبيوترات تفكر مثل الناس أكثر مما ستعلمنا كتابة برنامج شطرنج قوي». ويشير ريس، الذي يعمل على «غو» طوال الوقت، إلى أنه لا يفكر بتكريس وقته لأية مشكلة أخرى عدا «غو»، ويضيف: «إنها مشكلة مثيرة أساسا، وهي على المستوى الصحيح من الصعوبة، فلو كانت سهلة أصلا لكانت قد حُلّت منذ زمن، ولو كانت صعبة بشكل خيالي لكان الناس قد استسلموا نتيجة الإحباط».

ويقول فوتلاند: «أعتقد في المدى البعيد أن الطريقة الوحيدة لكتابة برنامج «غو» قوي هي جعله يتعلم من أخطائه، وهذا جزء من الذكاء الصناعي التقليدي، إلا أن أحدا لا يعرف كيف يفعل ذلك لحد الآن. على أن هناك بضعة برامج لديها بعض القابلية للتعلّم الذاتي». ويرجع برنامج فوتلاند، على سبيل المثال، إلى قاعدة بيانات لألعاب تمت من قبل لاعبين أقوياء في إقرار حركاتها، ويوظف برنامج ريس خطة تعلم لتقرير أي الحركات هي المثيرة للاهتمام من أجل النظر إليها. ويقول ريس إنه قد جاء بفكرة لبرنامج «غو» جديد يمكنه أن يتعلّم عن طريق تحليل ألعاب احترافية. لكن يتطلب الأمر عملا كثيرا لمتابعة فكرته، الأمر الذي يحرمه من الاستمرار بعمل التحديثات على برنامجه الحالي. ويضيف: «يبدو من غير المحتمل أن تتم برمجة كومبيوتر لهزيمة لاعب بشري قوي في وقت قريب، لكن من الممكن إحراز قدر كبير من التقدم، وتبقى المشكلة مع ذلك مثيرة. إنني أتخيل بأنها ستظل مشكلة قائمة يتحدث عنها الناس لعدة عقود مقبلة».

* نيويورك تايمز ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»