أجهزة الأمن تعلن الحرب عليهم: قراصنة الإنترنت عصابات منظمة تسرق لتستمتع بالإنجازات فحسب!

«درينك أور داي» كسرت شيفرة «ويندوز 95» قبل أسابيع من إطلاقه ... ووضعت برنامجا هندسيا بقيمة 9500 دولار مجانا على الإنترنت

TT

انتقل جون سانكوس الابن، البالغ من العمر 29 عاما، في الشهر الماضي من منزل أبويه للمرة الأولى، حيث سافر معهما مسافة 240 كيلومترا من بيتهم في ضواحي فيلاديلفيا إلى منزله الجديد: سجن فيدرالي في ألينوود بولاية بنسلفانيا! وسانكوس، الذي دخل السجن في الثاني من يوليو (تموز) لقضاء حكم لمدة 46 شهرا، تقني كومبيوتر ذو لسان لطيف، ما زال يحتفظ بحيتان القماش المحشوة التي كان يلعب بها في طفولته. لكن محققي ومدّعي دائرة الجمارك الأميركية يقولون إنه كان أيضا رئيس عصابة دولية من قراصنة البرامج، حرمت شركات البرمجة من ملايين الدولارات عبر التوزيع غير الشرعي للبرامج ذات الحقوق المحفوظة والألعاب والأفلام على الإنترنت. في فبراير (شباط) وُجد سانكوس مذنبا بارتكاب جريمة المؤامرة لانتهاك حقوق الطبع.

وكانت عصابة القرصنة المعروفة باسم «درينك أور داي» (DrinkorDie)، من بين الأهداف الرئيسية لأكثر من 100 هجوم منسق تم شنها في الولايات المتحدة وخارجها في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وحتى الآن اعترف 15 شخصا في الولايات المتحدة بالتهم المنسوبة إليهم نتيجة لتلك الهجمات، من ضمنهم طالب من جامعة ديوك (Duke)، ومبرمج كومبيوتر في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس، وموظف لدى مزود خدمة إنترنت، وعدة مديرين تنفيذيين في شركات تقنية. وتم الحكم حتى الآن على سانكوس وخمسة آخرين بالسجن.

ووفرت مقابلات أُجريت مع سانكوس وآخرين ممن هم على صلة بالقضية من ضباط في الجمارك والقوى الأمنية، لمحة غير عادية في عالم قرصنة الإنترنت، فهو مجتمع يتكون من نحو 30 مجموعة رئيسية تقوم بنشر البرامج المحمية عن طريق كسر شيفرات الحماية أو إنتاج نسخ غير قانونية من الأفلام.

ويقول العديد من القراصنة إن ما حفزهم على ذلك العمل لم يكن المال بقدر ما كان الإحساس بالمنافسة، والبحث عن الجاه، والاستمتاع بالقيمة الترفيهية لتوزيع السلع المزيفة التي يطلقون عليها اسم «البضاعة» (Warez). ويقول سانكوس: «معظم الناس الذين كنت حولهم لم يكونوا ليسعدوا أي شخص، وإنما كانوا يبحثون عن المرح لأنفسهم، فتلك هي هوايتهم». وفي مقابلة أُجريت معه قبل أن يذهب إلى السجن، ذكر سانكوس أنه لم يكسب أي مال من قرصنة البرامج، واصفا عمله بنشاط اجتماعي استنزف جهده ووقته.وعاد سانكوس بذاكرته إلى اليوم الذي انقض فيه حوالي 40 من رجال الجمارك المسلحين على موقع عمله، وعلق قائلا: «أحسست وقتئذ بأنني كمن قام لتوه بقتل 50 شخصا».

ويقول المدعون إن سانكوس ساعد على سرقة ملايين الدولارات المستحقة للملكية الفكرية. ورغم رفضه والآخرين التهم المنسوبة إليهم، يضيف المدعون بأن السرقة تواصلت بسبب طبيعة وسيط التوزيع وهو الإنترنت. ويقول مايكل دوبوز، محامي وزارة العدل الذي لعب دورا محوريا بالتحقيق في القضية: «ذلك هو الفرق. فمن قبل، كنت إذا أوقفت المصدر، أُوقِفت القرصنة. لكن كل المواد التي نشرتها عصابة «درينك أور داي» تستمر في الانتشار لمدة طويلة». وحسب المحققين، فبينما تباطأت قرصنة الإنترنت فورا عقب هجمات ديسمبر (كانون الأول) ضد قراصنة الإنترنت، عادت وتيرة النشاط لترتفع مجددا. وعلى سبيل المثال، تم كسر شيفرة الحماية الخاصة بلعبة «ووركرافت ثري» (Warcraft III) التي أنتجتها «بليزارد إنترتينمنت» (Blizzard Entertainment)، وأُطلقت اللعبة إلى الإنترنت بعد يوم واحد فقط من إنتاج القرص المدمج الرئيسي للعبة في منتصف شهر يونيو (حزيران) الماضي.

وكانت القرصنة بالنسبة لأعضاء «درينك أور داي»، المرادف التقني للبهجة أو شكلا من أشكال الشجاعة التي يمكن أن توفر لهم قبولا في مجال إجتماعي بدأ بالبروز التدريجي. «الأمر كله يتعلق بالمكانة»، هذا ما يقوله ديفيد غريمز، العضو في جماعة «درينك أور داي» من آرلنغتون بولاية تكساس، الذي عمل كمهندس كومبيوتر في شركة «تشيك بوينت سوفتوير» (Check Point Software)، المتخصصة في حلول الأمن للبرامج، ويضيف غريمز: «إنهم فقط يحاولون اشهار أنفسهم، لا لسبب معين وإنما لإرضاء الذات». ويقضي ديفيد حكما بالسجن لمدة 37 شهرا بعد أن وُجد مذنبا بالتهمة نفسها الموجهة إلى سانكوس.

ويقول ألان دودي محقق دائرة الجمارك الذي قاد التحقيق في قضية «درينك أور داي»: «إنه السبب نفسه الذي يلتحق الناس لأجله بالعصابات». ويمثل التحقيق في هذه القضية جزءا من حملة ضد القرصنة تسمى «أوبريشن بوكانير» (Operation Buccaneer) أو عملية القرصان.

لكن بالمقارنة مع المجرمين الصغار والعصابات المتحاربة، فإن مجموعات قرصنة الإنترنت لها تأثير عالمي يتمثل في عشرات الملايين من الدولارات إن لم يكن أكثر. وتحمي مثل تلك المجموعات سمعتها بإصدار آلاف الأفلام المجانية والألعاب والبرامج والموسيقى على الإنترنت كل سنة. وفي حين أنه من النادر أن تكسب مثل هذه المجموعات المال من نشاطاتها، فإن منتجاتها تنتشر بسرعة حول العالم، لتصل إلى أولئك الذين يبيعونها بالفعل من أجل الربح، مثل من يبيعون البرامج عبر المواقع التي يتم الدفع من أجل الوصول إليها، أو من ينسخونها من الإنترنت على الأقراص المدمجة لبيعها في الشوارع أو في المحلات أو حتى في مواقع مزادات الإنترنت. ويقول بوب كروغار، رئيس اتحاد منتجي برامج الكومبيوتر التجارية (Business Software Alliance): «تصبح النُّسَخ هي المواد الأولية التي يستعملها الآخرون في القرصنة التجارية». ويؤكد هذا الاتحاد أن قرصنة البرامج تكلف شركات البرمجة 10.1 مليار دولار سنويا، وهي خسائر المبيعات الضائعة للبرامج حول العالم.

ويأخذ ضحايا القرصنة التهديد بجدية كبيرة، فقد فزع هافارد فولد، رئيس شركة «فولد سوليوشنز» (Vold Solutions) الصغيرة التي تتكون من ثمانية موظفين، عندما اكتشف أن «درينك أور داي» قد أصدرت نسخة مجانية من البرنامج الهندسي الذي تبيعه شركته بمبلغ 9500 دولار. ويعبر فولد عن صدمته بقوله: «كان ذلك مخيفا جدا، إنهم لا يدركون تأثير انتهاك حقوق الطبع على الشركات، خصوصا الصغيرة منها». ورغم أن «البضاعة» لم تتجذّر إلا في أوائل التسعينات فحسب، إلا أن القرصنة توسعت بسرعة، خصوصا في السنوات الخمس الأخيرة. وساعد الوصول المتزايد للإنترنت عالميا، والتكاليف القليلة للحصول على أجهزة الكومبيوتر، وانتشار أجهزة الإعلام الرقمية، على بدء طفرة تسوق دولية عبر الإنترنت، يمكن فيها لأي شخص الحصول على نسخة مسروقة لبرنامج أو لعبة أو فيلم، بشكل علني وبسهولة. وبالمقارنة فإن تلك العصابات نفسها تميل إلى العمل في السر، اعتمادا على تقنيات التشفير، وعناوين بروتوكول الإنترنت المخفية، وقنوات الدردشة الخاصة، ويتسم عالمهم بالتنظيم الشديد واتباع القواعد الصارمة. وينقسم القراصنة إلى فئتين رئيستين: مجموعات إصدار المنتجات المسروقة وإطلاقها، ومجموعات التوزيع في أرجاء العالم. ويقدر المحققون الحكوميون بأن هناك نحو 30 مجموعة إصدار رئيسية، تضم حوالي 1500 شخص حول العالم. وقد تم تنفيذ عدة أحكام قضائية عقب الهجمات التي تمت في ديسمبر الماضي على عدد من المشتبه بهم حوكموا في بريطانيا وأستراليا وفنلندا والنرويج والسويد. ويقول دوبوزي إن نصف أعضاء جماعة «درينك أور داي» على الأقل يعيشون خارج الولايات المتحدة.

وباتت جماعة «درينك أور داي»، التي ربما كان أشهر ما عُرفت به عملية فكّ شيفرة نظام التشغيل «ويندوز 95» قبل أسابيع من إطلاق مايكروسوفت له، تركز مؤخرا بشكل أكبر على البرامج المتخصصة غالية الثمن مثل برنامج «فولد» الهندسي. ويعلق غريمز عضو «درينك أور داي»: «من الممتع إطلاق شيء يكلف 18 ألف دولار بالمجان، فلولانا ما لأحد أن يرى تلك القطعة البرمجية».

وتتسابق الجماعات لكي تكون الأولى في إصدار الأفلام والألعاب الشعبية، لكن النوعية مهمة كذلك. وتتلقى كل جماعة الضربات من الجماعات الأخرى المنافسة عند إصدار أي منتج جديد. فعلى سبيل المثال دعت جماعة «إيمورتال في سي دي» (Immortal VCD) إصدار إحدى منافساتها لفيلم ديزني «ليلو آند ستيتش» (Lilo and Stitch) بأنه ثانوي، واصفة نسخة الفيلم بالمهزوزة والمظلمة. ولجماعات الإصدار زعيم أو زعيمان، واثنان أو ثلاثة مديرين آخرين يُطلق عليهم أعضاء المجلس، و10 إلى 15 موظفا عضوا في المجلس يعملون على الإصدارات، و50 إلى 100 عضو آخرين يتمتعون ببساطة بإمكان الوصول إلى الإصدارات. ويظهر سانكوس، وهو أحد زعيمي «درينك أور داي»، على الإنترنت باسم Eriflleh، وهو التهجئة العكسية لكلمة HellFire. أما الزعيم الآخر، الذي يستخدم الاسم Bandido على الإنترنت، فيعيش في أستراليا ولم توجه إليه أية تهمة، وذلك حسبما أفاد مسؤولو وزارة العدل. ومثل كل جماعات الإصدار قامت جماعة «درينك أور داي» بتقسيم العمل. إذ يقوم الموردون، وهم في أغلب الأحيان من شركات البرمجة، بتقديم نسخ البرامج، في حين يعمل مفككو الشيفرة، وهم الذين يلعبون الدور الأكثر تعقيدا من الناحية التقنية، على تدمير الحماية عن البرامج. ثم يأتي دور الفاحصين الذين يتأكدون من أن النسخ غير المحمية للبرامج قد عملت بشكل صحيح. وأخيرا، هناك المغلفون الذين يقسّمون البرامج إلى ملفات صغيرة قبل توزيعها على مواقع الإنترنت المعنية بإصدار تلك البرامج. وقد بدأ سانكوس كفاحص ومغلف لجماعته قبل الانتقال إلى موقع القيادة، ويعلق على ذلك بقوله: «ما كان هناك الكثير من الناس ليقبلوا العمل في الاختبار والتغليف، فتلك كانت تعتبر من الأعمال الوضيعة».

ولمجتمع البضاعة المسروقة قواعد بيانات عديدة لمتابعة آلاف الإصدارات البرمجية. ويمكن للناس إجراء بحث أو تدقيق عبرها لمحاولة معرفة ما إذا قد تم إصدار فيلم أو برنامج ما.

ويحتفظ موقع «إزنونيوز» (www.isnonews.com) بقاعدة بيانات عامة تتألف من ملفات المعلومات التي ترافق كل إصدار لبرنامج مسروق جديد أو بضاعة جديدة. وتحدد مثل هذه الملفات المسؤول عن عملية الإصدار، ووقت الإصدار، وعدد الملفات التي تم تقسيم المنتج إليها، بالإضافة إلى المراجعات والعروض التي تقيم الإصدار. وبمجرد أن تصل الملفات إلى مواقع الإصدار، تتحرك مجموعات التوزيع لتسيطر على الأمور وتنقل تلك الملفات عبر سلسلة توزيع منظمة. وخلال 10 دقائق من إصدار البرنامج المسروق، يتم نسخه إلى عشرات من مراكز التوزيع المركزية على الإنترنت.

ويقدر المسؤولون الحكوميون بأنه خلال الست ساعات التالية، يقوم موزعو المستوى الأدنى بنسخ الملفات إلى حوالي 10 آلاف موقع حول الإنترنت. وفي غضون يومين أو ثلاثة، يصبح البرنامج أو الفيلم المسروق متاحا على مجموعات «يوزنت» (Usenet) وعلى الشبكات البرمجية مثل «كازا» (KaZaA) و«مورفيوس» (Morpheus). وعندما تنتشر الملفات وتصبح مشاعا عاما، فإنها بالضرورة تكون متوفرة لأي شخص يبحث عنها على الإنترنت في جميع أنحاء العالم.

(«نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»)