هنادي العماني كويتية كفيفة يتعلم منها المبصرون كيف يستخدمون الكومبيوتر

تعلمت استخدامه من دون معلم وتصلحه بنفسها إذا تعطل وتضيف إليه شرائح الذاكرة والبطاقات وتخطط لإطلاق موقعها الخاص على الإنترنت

TT

تسمح لي طبيعة عملي أن ألتقي بأنواع كثيرة من الناس السلبيين الذين يختلفون فيما بينهم في نظرتهم إلى الكومبيوتر، فمن محاسب يرى أن استخدامه مربك أكثر من اللزوم، إلى صحافي يلعن اليوم الذي اضطر فيه إلى ترك القلم البسيط ليستخدم الكومبيوتر المعقد، مرورا بمراهق لا يرى فيه إلا وسيلة للعب والتسلية، وغيرهم، إلا أن الأمر مع هنادي جاسم العماني فهو جد مختلف، فعلى الرغم من كونها قد فقدت نعمة البصر، إلا أنها تتكلم عن الكومبيوتر بتلقائية وتمكن وطبيعية بالغة تثير الإعجاب، كيف لا وقد أصبح هو والإنترنت بمثابة عينين جديدتين عوضها الله بهما جزءا مما فقدته من نعمة البصر، وفتح أمامها آفاقا جديدة لم تكن لتحلم بها من قبل.

ولكن ما هي قصة هنادي مع الكومبيوتر؟ دعونا نسمع ذلك منها. تقول «منذ بدأت أسمع عن الإنترنت، وأنا أتمنى أن أدخل عالمها، لكن ما كان متوفرا من أجهزة وبرمجيات في ذلك الوقت لم يسمح لي بتحقيق ذلك الحلم». وشرحت لي أن بداية علاقتها مع الكومبيوتر كانت عام 95 من خلال جهاز اسمه «نافيغاتور» (Navigator) يوصل بالكومبيوتر ولا يقوم الا بطباعة ما على شاشته من نصوص بأحرف برايل البارزة الخاصة بالمكفوفين، وعدا عن ذلك لم يكن يساعدها على الاستفادة من قدرات الكومبيوتر الأخرى. ولم يتطور الأمر كثيرا عندما أتيح لها في عام 1997 استخدام جهاز جديد هو «فيزيو برايل» الذي تعرفت عليه من خلال معهد الكويت للأبحاث العلمية. إلى أن جاء الفرج في عام 1999 عندما عرفها المعهد على برنامج «جوز» Jaws))، وهو برنامج ناطق يقرأ ما على شاشة الكومبيوتر من نصوص باللغة الإنجليزية بصوت مسموع، مما شكل نقلة نوعية بالغة الأهمية في حياة هنادي، «لأنه جعل الكومبيوتر ينطق» على حد تعبيرها. ولم تقتنع وقتها بالاستخدامات المحدودة المعتادة لهذه البرمجيات، ولم تنتظر المساعدة من أحد، فاعتمدت على نفسها فقط وبدأت باستخدام البرنامج في أقصى طاقاته، فتعلمت بواسطته استخدام الكومبيوتر ولوحة المفاتيح والماوس، ثم انطلقت لتحقيق حلمها القديم واستخدمته للدخول إلى الإنترنت واستخدام البريد الإلكتروني، بل وحتى بالدردشةChat) )من خلال الإنترنت مع الآخرين. ولأن البرنامج مزود بوظيفة التعرف الضوئي على المحارف OCR)) صار بالإمكان إدخال صفحات الكتب إلى الكومبيوتر باستخدام الماسحةScanner) )ثم تحويلها إلى نصوص على الشاشة، مما يتيح للبرنامج قراءتها بصوته الإلكتروني، وبذلك استفادت هنادي حتى من الكتب. إلا أن المؤسف أن ذاك كله لم يكن متاحا إلا للنصوص الإنجليزية. إلى أن تعرفت قبل شهرين فقط على برنامج «الآلة القارئة» الذي تنتجه شركة صخر المعروفة، الذي فتح أمامها صفحة جديدة في علاقتها مع الكومبيوتر والإنترنت لأنه قدم لها ذلك ولأول مرة باللغة العربية. وبعد دورة تدريبية قدمتها لها الشركة لتتعرف على البرنامج وطريقة استخدامه، انطلقت هنادي متسلحة بأداتها الجديدة لتكتشف آفاقا جديدة كانت مغلقة أمامها، مدفوعة بإرادتها القوية وبصيرتها الثاقبة. وانعكست مهارتها في استخدامهما حتى على حياتها العملية، إذ أن بطلتنا تتقلد منصب رئيسة مطبعة النور في إدارة مدارس التربية الخاصة، وهي الجهة التي تهتم بأصحاب الاحتياجات الخاصة والإعاقات في الكويت. وتعلق على ذلك قائلة «عملي لا علاقة له بدراستي، فأنا خريجة حقوق من جامعة الكويت، إلا أنه وبعد التخرج تلقيت تدريبا لدى محام، واكتشفت حينها أن هذه المهنة لا تروق لي، فقررت أن لا أمارسها». وبعد أن كان إدخال الكتب في مطبعة النور يتم يدويا قبل تحويلها إلى لغة برايل، أتاح استخدام الكومبيوتر وبرمجياته إدخالها وإنتاجها إلكترونيا، مما صار بالإمكان توفير الكتب حتى للمكفوفين بسرعة أعلى، وأضافت إمكانية أن يتم ذلك باللغة العربية في إتاحة قراءة حتى الصحف اليومية بسهولة أكبر.

* الشركات ومعاناة المكفوفين

* وعلى الرغم من وجود البرمجيات الخاصة بالمكفوفين، إلا أن هذا لا يعني أن حياة جميع المكفوفين العرب قد أصبحت أكثر سهولة، ففي الكويت لا يوجد سوى 300 مكفوف فقط يستخدمون الكومبيوتر كما قالت لنا هنادي العماني، بسبب ارتفاع تكلفة الحصول على التجهيزات المناسبة. ففي حين أن سعر برنامج «جوز» يبلغ ثلاثمائة دينار كويتي (976 دولاراً)، (الدينار 3.25 دولار تقريبا) وسعر نسخة الترقية منه 30 دينارا، فإن سعر برنامج صخر يصل إلى ألف دينار (3250 دولاراً)، هذا عدا عن سعر جهاز الكومبيوتر الذي يتراوح ما بين 400 دينار إذا كان تجميعا محليا، وألف دينار إذا كان من نوعية معروفة. هذا عدا عن أن سعر طابعة برايل هي الأخرى يصل إلى ألف دينار أيضا. بحسبة بسيطة فإن الكفيف يحتاج إلى ما بين 8800 و10700 دولار أميركي حتى يستطيع أن يتعامل مع الكومبيوتر. فإذا كان ذلك يعتبر سعرا مرتفعا في دولة مثل الكويت التي يعتبر معدل دخل الفرد فيها من أعلى المستويات العالمية، فما بالك بالدول العربية الأقل حظا؟ ولهذا تقترح هنادي أن تبادر الحكومات بدعم حصول المكفوفين على هذه الأجهزة والبرمجيات بأسعار مدعومة، وان تبادر الشركات بتخفيض أسعار منتجاتها، وأن تبذل الشركات العربية جهدا في تعريب البرمجيات الخاصة بالمكفوفين لزيادة الخيارات أمامهم. ولا شك أن مع هنادي كل الحق فإذا كان هناك شركات لا تهتم الا بالربح فإن معرفتها بأن هناك شريحة كبيرة من «الزبائن» لا بد أن يجعلها تفكر بأن هناك سوقا جاهزة لتلقي منتجاتها. وتؤكد هنادي على ذلك قائلة «أصبح الكومبيوتر مهما في حياتنا كمكفوفين، وبفضله لم يعد من الضروري الاستعانة بأي شخص ليقرأ لنا الكتب والرسائل كما كان في السابق».

ومن جانبها فإن هنادي العماني وبوصفها عضواً ومقرراً في لجنة الكومبيوتر في جمعية المكفوفين الكويتية، كشفت أن الجمعية ستقيم قريبا دورات كومبيوتر خاصة بالمكفوفين، إلا أنها لفتت الانتباه إلى أن هذه الجمعية ليست حكومية بل هي جمعية أهلية، وما تتلقاه من دعم حكومي هو بالكاد يكفي لتغطية مصاريفها الأساسية.

وطالبت هنادي بزيادة الاهتمام بالبرمجيات المتوفرة حاليا لأنها تعاني من بعض المعوقات، فمع أن برنامج «جوز» هو الأفضل عند استخدام اللغة الإنجليزية، لكنه لا يتوفر بالعربية، ولا يوجد له وكلاء في العالم العربي الا في دبي وفي القاهرة. كما أن الإصدار الجديد منه أصبح لا يعمل إلا إذا كان نظام ويندوز إنجليزيا فقط، في حين أنه لا بد من توفر دعم اللغة العربية لتشغيل برنامج «القارئ الآلي» من صخر.

أما هذا الأخير فلا يدعم سوى ثلاثة خطوط عربية فقط، ولا يسمح بقراءة النصوص من صفحات الإنترنت المصممة باستخدام الأطر Frames))، كما أن يشترط وصل مفتاح للحماية بالكومبيوتر ليعمل. وانتقدت هنادي ندرة المواقع العربية التي تخدم المكفوفين، لأنها إن وجدت فإنها لا تقدم أية خدمات مفيدة للأسف. في حين أن المواقع الأجنبية توفر خدمات عديدة تتراوح بين تقديم المعلومات والبرامج المفيدة، وفتح المجال للحوار بين قطاع واسع من المكفوفين، وتقول «لقد كونت بفضل الإنترنت صداقات مع مكفوفين من جميع أنحاء العالم من خلال مواقعنا الخاصة التي تقدم حتى منتديات الحوار والدردشة». وتمارس هنادي من خلال هذه المواقع كذلك حتى ألعاب الكومبيوتر مع زملائها المكفوفين، مثل موقع www.jfwlite.com، الذي ومع أنه يقدم ألعابا يمكن للمبصرين ممارستها، إلا أنه يقدم كذلك ألعابا لا يستطيع أن يلعب بها إلا المكفوفين فقط.

* الحاجة أم الاختراع

* ولا يمكن اعتبار هنادي مجرد مستخدم كومبيوتر عادي، ففي حين يتجمد كثير من مستخدمي الكومبيوتر من المبصرين أمام أجهزة الكومبيوتر التي يعملون عليها إذا أصابها عطل ما، ويبدأوا بالاستنجاد بموظفي الصيانة، فإن هنادي لا تستنجد بأحد إلا عندما تكون متأكدة تماما من أن المشكلة تستدعي فعلا إرسال الكومبيوتر إلى الصيانة، إذ أنها تحاول أن تصلحه بنفسها، فإن لم تستطع فإنها تتصل بالشركة وتأخذ منهم أية تعليمات لإصلاح المشكلة من خلال الهاتف، وفي كثير من الأحيان تنجح في إرجاع الكومبيوتر إلى حالته الطبيعية بنفسها، بل فاجأتني عندما أكدت أنها تقوم بنفسها بإضافة شرائح الذاكرة إلى الكومبيوتر كلما أرادت أن تزيد ذاكرته، كما تعتمد على نفسها فقط في كل مرة تحتاج أن تضيف بطاقة إلكترونية، كبطاقة الصوت مثلا إلى جهازها. ولكن هل تكتفي بذلك؟ بالطبع لا، فهي تسعى الآن إلى تعلم طريقة عمل تهيئة للقرص الصلب Format)) وطريقة تثبيت نظام ويندوز من دون الاستعانة بأحد، ولكنها ولأن الكومبيوتر يكون صامتا أثناء هذه العمليات، فإنها ستطلب من أحد ما أن يقوم بذلك أمامها مرة واحدة، حتى تحفظ الصوت الناتج عن لوحة المفاتيح في كل عملية من العمليات. وعندما قلت لها ان هذه العملية ليست ذات طابع يومي، وأنها لن تحتاجها إلا بعد مدة طويلة، قالت انه ومهما يكن فإنها تحب أن تكون مستعدة لجميع الاحتمالات. كما انها ومن جانب آخر قد تكون هنادي أول مكفوفة عربية ستحضر دورة «ويندوز 2000 بروفيشينال» التي ستقدمها لها شركة مايكروسوفت مجانا، بعد أن كانت وهبتها كذلك كل البرمجيات التي احتاجتها، أما سبب اهتمامها بهذه الدورة فهو كما جاء على لسانها «لأنني أريد أن أدخل مجال الشبكات وأن أتعلم حل مشاكل شبكات الكومبيوتر».

وأصبح من نافلة القول الآن أن أشير إلى أن هنادي وبعد كل ما سبق، لا تستعين بأي شخص إذا أرادت أن تثبت برنامجا جديدا على كومبيوترها أو أن تفحصه وتعالجه إذا أصابه فايروس. أما الأكثر إثارة، فكان اعترافها لي بأنها حاولت كذلك استخدام برامج الاختراق التي يستخدمها الهاكرز، من باب أنها تريد أن تعرف كل شيء، إلا أنني وصلت إلى مرحلة فضلت فيها الانسحاب خوفا على جهازها.

ولأن الحاجة أم الاختراع حتى مع فتاة في حالة هنادي، فإنها تجري الآن تجارب تحاول من خلالها وصل هاتفها الجوال العادي بجهاز الكومبيوتر، حتى تتمكن من التحكم به وبمحتوياته من خلال البرامج القارئة للنصوص، بما في ذلك التعامل مع سجل أرقام الهواتف المخزنة فيه، ومع الرسائل الصادرة منه والواردة إليه. حيث أنها تستخدم حاليا هاتف «نوكيا كوميونيكاتور» الذي حصلت له على برنامج ناطق من إنتاج ألماني، إلا أنها تريد كذلك أن تتحكم بجميع أنواع الهواتف الجوالة العادية الأخرى. وعندما سألت هنادي عن استخدام الكومبيوتر من قبل أفراد أسرتها، متوقعا أن يكونوا جميعا ماهرين به وهم المبصرون، أجابتني ضاحكة «في الحقيقة أنا الوحيدة التي أستخدم الكومبيوتر في المنزل حتى الآن، بل انني أنا التي أعلم بقية أفراد الأسرة طريقة استخدام الكومبيوتر والتعامل مع الإنترنت».

أما عن مشاريعها المستقبلية (بالإضافة لكل ما سبق ذكره أعلاه) فإنها تعد العدة حاليا لتصميم موقع الويب الخاص بها، والذي يتوقع أن تطلقه في الإنترنت خلال الشهرين الأخيرين من العام الحالي. تركت هنادي وفي نفسي شعور بالفخر والاعتزاز بهذه الفتاة العربية، التي لم تتخذ من ظروفها عذرا لتتوقف عن الإنتاج والعطاء، وأصبحت نموذجا يستحق أن يحتذيه المبصرون قبل المكفوفين.