هل ندفع اليوم ضريبة «النتائج غير المتوقعة» للهاتف الجوال؟

تبقى «كفة حسنات» الجوال هي الأرجح رغم انتهاكه لخصوصية المتحدث وتأثيره سلبا في السلوك الاجتماعي

TT

أتاحت لنا التقنية اللاسلكية معرفة الكثير عن حياة الآخرين بشكل أكثر سهولة من أي وقت مضى، على أن ذلك لم يكن عبر برامج الكومبيوتر أو أجهزة التنصت عالية التقنية، بل أن الأمر برمته ليس منافيا للقانون أو الآداب العامة... فكل ما عليك فعله لتكشف الكثير من تفاصيل حياة الغرباء هو التجول في إحدى مدن القرن الحادي والعشرين في هذا العالم، والتنصت مستمعا إلى شخص يتحدث عبر الهاتف الجوال! وتؤثر حالة الحديث سلبا على مستعملي الهاتف الجوال ويمكن أن يبدو التأثير في أي مكان وأي زمان، لكنه يظهر بجلاء في معظم الأحيان على الناس الموجودين في الأماكن العامة المزدحمة مثل المطاعم والمواصلات العامة وحتى مواقع العمل. وتحت ذلك التأثير قد يتحدث الشخص المتصل بصوت يعلو مرتين وربما ثلاث مرات فوق مستوى صوت المحادثة الطبيعية، أما الأشياء التي يتحدث عنها فهي أمور مثل الشيكات المرتجعة وخلافات المحبين! ويعتبر الصراخ أثناء الحديث في الهاتف الجوال واحدا من النتائج العديدة غير المتوقعة في عالم الهاتف الجوال، فأثره الشديد ينعكس على أكثر من مجرد علاقتنا مع الآخرين، ورغم أن ذلك يتم بدقة، إلا أنه يغير كذلك في سلوكنا الشخصي بطرق خبيثة لا تخطر على بال أحد. ونكتشف أكثر من أي شيء آخر الفرق الشاسع الذي يحدثه بين العقل والجسد، لأنه يمكننا الآن أن نكون حيث لسنا موجودين فعلا بصرف النظر عن مكان وجودنا! ويؤكد مؤسس ورئيس معهد آرلنغتون المعني بالدراسات المستقبلية في آرلنغتون بفيرجينيا، جون بيترسن على ذلك بقوله: «ما يحدث هو تغيير وجهة نظرنا عن الحقيقة، فمنذ مدة ليست طويلة كان إجراء مكالمة هاتفية بعيدة المسافة مسألة كبرى، أما الآن فالأمر لم يعد كذلك». وبالتأكيد هناك المزيد من التغيير في الطريق، فخلال خمس سنوات يتوقع باحثو الشؤون المستقبلية أن تواصل الهواتف الجوالة «انكماشها» في الحجم مع تزايد إمكاناتها. ولن يكون بوسع هذا الجهاز الكفي الصغير إجراء المكالمات الهاتفية فحسب، وإنما سيعمل ككومبيوتر وربما حتى كتلفاز. ومن يدري ما يكون بعد ذلك، لكنهم لا يستبعدون حتى إمكانية زرع رقاقة اتصالات في الجسم.

لكن حتى هذه الأيام، يعد العالم مكانا أصغر بكثير بسبب الهاتف الجوال. وفي الولايات المتحدة، ومع أنها تعد الأبطأ بين الدول الصناعية في تبني الهاتف الجوال، يستخدم اثنان من كل ثلاثة، أو حوالي 137 مليونا، الهاتف الجوال. وقبل أكثر من عقد بقليل، أشارت دراسات سوق أجرتها شركات اتصالات إلى أنه وفي أحسن الأحوال سيتجاوز مستعملو الهاتف الجوال في الولايات المتحدة الثلاثة ملايين، طبقا لمايكل زي، عالم الاجتماع في جامعة ولاية مونتكلير في نيو جيرزي. ففي بادئ الأمر، ادعى الناس بأنهم حريصون على خصوصيتهم كثيرا ولا يريدونها أن تنتهك دون سابق إنذار بهاتف جوال. ويضيف زي: بعضهم كان يقول: «لن أقبل هاتفا جوالا في سيارتي لأنها أحد الأماكن الخاصة التي لا يستطيع رئيسي في العمل ولا زوجتي ولا أطفالي الوصول إليها. حسن، لكن ذلك الحال قد تغير».

أما في أماكن العمل، فقد أصبحت الهواتف الجوالة آخر تقنية تمثل الاتصال بين المكتب والبيت، فالهاتف الجوال، الذي يسميه البعض تهكما «المقود الإلكتروني»، سهّل على الرئيس الوصول إلى الموظف في أي وقت وأي مكان، مع العلم طبعا أن هناك القليل جدا من الأعذار الناجحة لعدم الرد على المكالمة، أو حتى لعدم الاتصال في حال وجود مكالمة لم يُرد عليها. وقد ألغى الهاتف الجوال بعض الدقائق الثمينة التي تمثل وقت «التحضير العقلي» الذي كان يتيحها سلفه جهاز النداء الآلي المعروف باسم «بيجر». فعندما يرن الهاتف الجوال، يكون لدى الموظف ثوان فقط كي يستجمع أفكاره ويعرف من المتصل قبل أن يجيب. وتكون النتيجة هي الشعور بالضغط الناجم عن كونه تحت الطلب على مدار الساعة.

وكذلك يمكن أن يواجه مستعملو الهاتف الجوال مشكلات صعبة في التركيز على المحادثة; فعلى الهاتف العادي عادة مما يكون المتحدثون في بيئة عادية مألوفة وبالتالي أقل انصرافا عن المكالمة بسبب المحيط، ما يتيح لهم التركيز بسهولة. لكن، بالهاتف الجوال، يمكن لكل من المتصل ومتلقي المكالمة تضييع تفاصيل مهمة بسهولة بسبب انشغالهم بالطريق أو بشراء شيء من محل تجاري أو حتى بتحديق أحدهم فيه وهو يتكلم! وقد أتاحت الهواتف الجوالة التي تتمتع بإمكانات البريد الإلكتروني المزيد من «سوء التواصل»! ويقول زي: «هناك العديد من الرؤساء الذين يلاقون صعوبة في كتابة مذكرة، وهذا سيزيد الطين بلة». وفي أماكن العمل، أوجدت الهواتف الجوالة كذلك مشاكل أخرى غير متوقعة بين زملاء العمل، خصوصا في أماكن العمل ذات المكاتب المتقاربة، فلا يكفي بعضَ الموظفين هاتف المكتب، فتجدهم يحتاجون خطا شخصيا خاصا. وهكذا بدأت الهواتف الجوالة بالزحف إلى مواقع العمل، وما من شك في أنه ليست كل المكالمات تخص العمل ولا هي حتى ذات طابع شخصي مشروع.

وتقول كارول بيج من بوسطن، وهي مستشارة العلاقات العامة ومؤسسة موقعCellManners.com : «أحد الأسباب الرئيسة التي تزعج الناس هي أنه عندما يتكلم أحدهم عبر هاتف جوال فكأن كل شخص حوله يختفي من الوجود، وذلك مهين جدا، فلا أعتقد أن الناس يريدون الإنصات باهتمام إلى المحادثات الشخصية الفارغة». وكما حدث في بعض المدن والولايات الاميركية من منع استعمال الهاتف الجوال في السيارات والمطاعم، بدأ البعض يتحدث عن قيود مشابهة في أماكن العمل. فمع الرنات المزعجة والمحادثات التي تتم بصوت عالٍ، وحقيقة وجود هاتف المكتب المتاح للجميع، قد لا يمر وقت طويل قبل أن ينضم مستعملو الهاتف الجوال إلى المدخنين ليلتقوا سوية خارج المكتب! وتشير بيج، التي يروج موقعها على الويب لأدب العلاقة بين مستعملي الهاتف الجوال ومَن حولهم من الناس، إلى أن منع الهواتف الجوالة في العمل ليس ضروريا، إذ يجب على الموظفين ضبط هواتفهم على وضعية «الهزاز» وأن يأخذوا المكالمات الشخصية بعيدا عن مكاتبهم إذا كانوا واقعين ضمن المدى السمعي للآخرين.

وحسبما يقول علماء الاجتماع، فإن الهواتف الجوالة تعيد تشكيل عاداتنا وسلوكياتنا الاجتماعية; فالهواتف النقالة، اعتماداً على استخداماتها، يمكن أن تحول دون العزلة أو أن تشكل عازلا بين الناس. فمثلا، يتعشى أحدهم وحده في ركن من أركان مطعم ما، وأثناء الطعام يتصل بصديقه، فهو هنا يجلس وحيدا لكن ليس وحده تماما. في حين نجد في ركن آخر من المكان نفسه مكالمة عبر هاتف جوال تقاطع محادثة بين اثنين يتناولان العشاء معا، تاركة أحد طرفي الجلسة يتعشى «وحده».! ومن السهل رؤية آلية مشابهة في الحفلات; فمن ناحية، يمكن للهاتف الجوال المساعدة في جعل حفل ما أكثر مرحا عبر نقل «المشهد البهيج» إلى أناس ليسوا في الحفلة. لكن وفي المقابل، يمكن للهاتف الجوال أن يعوق المتحدثين به في الحفلات عن التقدم نحو الضيوف الآخرين والتحدث إليهم والتعرف على المزيد منهم وتكوين العلاقات الجديدة، يجعل المرء في عزلة عن محيطه. ويعلق زي على هذا الأمر بقوله: «تقلل الهواتف الجوالة من تطوير علاقات جديدة، فهي تجعل المتحدث يستثني من هو أمامه كي يتحدث مع آخر في مكان بعيد».

ويقول إدوارد تينر، مؤلف كتاب Why Things Bite Back Technology and the Revenge of Unintended Consequences (لماذا تنتقم الأشياء: التقنية وانتقام النتائج غير المتوقعة): «أعتقد أن الناس أصبحوا معتمدين أكثر على التواصل الدائم مع الآخرين، فإذا لم يكن الاتصال بك متاحا على الدوام سيبدأ الناس بالقلق عليك».

إذن، إلى أين تسير بنا الهواتف الجوالة؟ وماذا سيكون عليه الحال في المستقبل؟ يقول بيترسن، رئيس معهد آرلنغتون: «خلال السنوات الخمس المقبلة، نجد أن أكثر الأفكار المطروحة» للتقارب «هي تحويل الهاتف الجوال إلى جهاز شامل; فإضافة إلى إمكانات الهاتف سيتمتع هذا الجهاز بإمكانات البريد الإلكتروني والفيديو والكومبيوتر، وقد يتطلب الأمر خمس سنوات أخرى بعد ذلك ليكون سعر هذا الجهاز الشامل معقولا بما يكفي لتحقيق انتشاره». ويضيف بيترسن، الذي كان عضوا في مجلس الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي الأسبق ريغان: «الهواتف الجوالة وما سيأتي بعدها هي ما يقود العولمة، وأعتقد أن ما نراه هو ثورة حيوية تجتاح الجنس البشري; إننا نبني نظاما عصبيا عالميا». على كل حال، إذا حدث ذلك، فربما لن نضطر للمعاناة من صراخ المتحدثين في الهواتف الجوالة!

* لوس أنجليس تايمز -

خاص بـ«الشرق الأوسط»