هل فقدت الشطرنج لذة «إِعمال العقل»؟ الكومبيوتر يسيطر بإحكام على الأحجار والمعركة وحتى اللاعبين!

برامج المحاكاة «الشطرنجية» تساعد اللاعبين في السر والعلن وتخطف قلوب عشاق الفوز... والتقليديون يتحفّظون!!

TT

قبل أن يواجه غاري كاسباروف، لاعب الشطرنج الأبرز في العالم، برنامج كومبيوتر قويا في مباراة من ست لعبات جرت في نادي نيويورك الرياضي قبل مدة ويخسر، كان لاعبو الشطرنج قد قالوا إن الكومبيوتر حقق في الأصل نصرا كبيرا تمثل في «تغيير» طريقة لعب البشر ضد بعضهم البعض.

وبات من الملحوظ أن انتصارات الكومبيوترات المتكررة على لاعبي الشطرنج الكبار لم تعد تشكل مفاجأة كبيرة، بل كان مما توقعه البعض سرعة اتكال الناس على الكومبيوتر في الإعداد لمعارك الشطرنج التي يخوضونها، إذ أصبح اللاعبون من كل المستويات يتجهون بوقع متزايد إلى الكومبيوتر لتخطيط حركاتهم ووضع خططهم للعب، في حين تزداد خشية البعض من أن تنحسر السيادة الإنسانية على اللعبة، التي اعتبرت لقرون علامة بارزة على الذكاء، بشكل لا يرجى معه أن تعود إلى سابق عهدها.

وفي حديث له إلى مجلة «تشيس بايز» (ChessBase)، يقول اللاعب العالمي المصنف ثامنا، إفغيني باري: «إننا لم نعد نعمل في الشطرنج، فنحن نكتفي بالنظر إلى الكومبيوتر الغبي لنتابع أحدث الألعاب ونوجد بعض التحسينات الصغيرة، وبهذا فقدنا فهمنا للعبة». وعندما انتُزع تاج الشطرنج من على رأس كاسباروف واعتلى عرشها كومبيوتر «آي بي إم» IBM الضخم المسمّى «ديب بلو» Deep Blue في العام 1997، كانت الشطرنج لا تزال تُمارس بكثرة كما كان حالها لقرون طويلة. لكن، ومنذ ذلك الحين، بدأ التقدم الحاصل في أجهزة الكومبيوتر، والذي أتاح لكومبيوتر عادي أن ينافس أجهزة الكومبيوتر الخارقة الأولى بوساطة برنامج صغير، بإغواء جيل من اللاعبين للاعتماد على العون التقني في اللعب.

وتباع نسخة من «ديب جونير» Deep Junior، وهو برنامج الشطرنج الذي هزم كاسباروف في الآونة الأخيرة، لقاء 50 دولارا، ومثله برامج بأسماء أخرى مثل «فريتز» Fritz و«شريدر» Shredder. ويستخدم اللاعبون هذه البرامج لتحليل قوة أية حركة وإيجاد نوع من المحاكاة لحركات الخصم التجاوبية الممكنة. وبعد أن اعتمدوا في السابق على المجلدات السميكة التي تشرح الألعاب وعلى أوراق الملحوظات لبيان استراتيجياتهم المفضلة، يستعمل لاعبو الشطرنج هذه الأيام برامج الكومبيوتر للبحث في قواعد بيانات الإنترنت التي تحدث باستمرار، والمتضمنة أكثر من مليونين من أشهر الألعاب في تاريخ اللعبة. فقد أصبح استدعاء اللاعبين للألعاب التي خاضها الخصوم الذين سيواجهونهم في البطولات، وتوجيه تلك الألعاب إلى برامج الكومبيوتر بغرض تحليلها لمعرفة نقاط الضعف والقوة، من الممارسات الاعتيادية لدى اللاعبين.

وعلاوة على ذلك، وفي الوقت الذي تعيد فيه الإنترنت لنوادي الشطرنج مكانتها كأكبر منتديات الألعاب، يقدّر خبراء الشطرنج أنه يتم مساعدة اللاعبين «البشريين» بشكل سري من قبل الكومبيوترات وذلك ـ على الأقل ـ في نصف الألعاب التي تمارس على الإنترنت والتي يصل عددها إلى مئات الآلاف يوميا. ويقول فريدريك فريديل، رئيس شركة «تشيس بايز» يفعل الكثير من الناس ما يطلبه منهم «فريز» دون تفكير، في حين أن المعرفة تؤدي دائما إلى الإبداع. قد طورت «تشيس بيز» موخرا برامج لأجهزتها الخادمة لمحاولة منع اللاعبين الذين يدخلون إلى تلك الأجهزة بحثا عن الألعاب من الاستعانة بالكومبيوتر. وكنتيجة للوصول السهل إلى المعلومات على الإنترنت يصبح اللاعبون مهرة في الشطرنج في سن مبكرة جدا. لكن منتقدي اللعب بمساعدة الكومبيوتر يقولون إن هؤلاء اللاعبين «يُستنفَدون» بسرعة لأن اللعبة أصبحت أكثر صعوبة بكثير.

ويقول أكثر اللاعبين احترافا إنهم يضطرون لدراسة الألف لعبة ذات المستوى المتقدم التي يتم لعبها كل إسبوع في أنحاء العالم والتي يتم شرحها ووضعها على الإنترنت فورا. إلا أن وجود الكثير من المعلومات التي تشد الانتباه، يضعف القدرة على التركيز لتطوير أسلوب أو استراتيجية شخصية، على حد قولهم. ويقول موريس آشلي، المعلق على مباراة كاسباروف مع «ديب جونير» وأحد لاعبي الإنترنت الكبار، إن الناس لا يقومون بالتجارب كثيرا وخاصة في بداية اللعبة، وتلك برأيه تمثل خسارة لهم. وحتى كاسباروف يدفع الآن لفريق من لاعبي الشطرنج الكبار ليقوموا بمسح الإنترنت يوميا بحثا عن أحدث حركات اللعب التي تتم في أي مكان في العالم. وتُمضي «هيئة الخبراء» ساعات طويلة في العمل سريعا على إجراء عمليات المحاكاة الكومبيوترية لآلاف الحركات التي يحفظها كاسباروف عن ظهر قلب قبل البطولات.

ويعتبر بعض المولعين بالشطرنج أن الزيادة في «خلط» الذكاء الإنساني بتقنيات الكومبيوتر تطور طبيعي للعبة التي ظلت لمدة طويلة موضع تقدير باعتبارها ساحة لعب مفتوحة للعقل. ويقول العديد من اللاعبين إن توفر معلومات اللعب على الإنترنت يطبق "الديموقراطية" في اللعبة، كما يؤكدون على أن الكومبيوترات شجعت الناس على تجربة استراتيجيات أكثر جرأة تُكسب برامجها المزيد من التأييد. كما يمكن تحدي بعض مبادئ اللعب التي يعتبرها اللاعبون «مقدسة»، مثل فوائد العمل على رقعة الشطرنج نفسها، ومواجهتها بعمليات المحاكاة الكومبيوترية بسهولة أكبر مما لو تمّت على الرقعة أو بالعقل المجرد.

ويقول جون واتسون، مؤلف العديد من الكتب حول استراتيجيات الشطرنج الحديثة: «بسبب الكومبيوترات، ينتشر اللعب بشكل أوسع، ويرافق ذلك بروز عدد مدهش من الأفكار الجديدة، فالكومبيوترات تساعد أكثر على الانفتاح تجاه اللعبة». وفي المقابل يشير آخرون إلى أن الشطرنج لم تعد أكثر من مجرد رقعة ذات خانات مربعة تنتهي الألعاب عليها في الغالب بالتعادل. ويشتكي هؤلاء من أن اللاعبين أصبحوا تابعين لبرامجهم ومسحورين بإمكاناتها التي لا تُعد ولا تحصى وغير آبهين بتقديم استراتيجياتهم الجديدة الخاصة بهم. وبدوره يعلق جويل بنجامين، محترف الشطرنج الذي عمل مع «آي بي إم» على مشروع «ديب بلو» يقوله: «في الماضي، لم تكن تحاول أن تثخن ذاكرتك بكل تلك المواد، أما الآن فتعرف أكثر لكنك كذلك تنسي أكثر». وقد قارن بنجامين اعتماد لاعبي الشطرنج على أجهزة الكومبيوتر بتخزين الأرقام على الهاتف أو الكومبيوتر الكفي. ويشير إلى أنه من الشائع رؤية لاعب قد بدأ يفقد السيطرة على وضعية ما لأنه «حفظ» سلسلة حركات هذه الوضعية دون أن «يفهم» منطقها.

ومن ناحية أخرى يذكر مؤرخو التقنية أن تأثيرات الكومبيوتر على الشطرنج عكست طابعا كلاسيكيا ورد قديما في رواية وضعها جورج أورويل بعنوان «ذي رود تو ويغان بيير» The Road to Wigan Pier، تمثل تحقيقا حول شروط العمل في إنجلترا في بداية القرن الماضي. ويورد ديفيد غيليرنتر، الذي يعمل في قسم علوم الكومبيوتر بجامعة «ييل» Yale University مقتطفات مما جاء في الكتاب: تدخل الآلات وتلوث المنظر الطبيعي الروحاني، ليس بشكل متعمّد، ولكن لأنها لا تستطيع مساعدته.. هذا زمن الآلة، ولا أحد يستعمل المضخة إذا كان بمقدوره فتح الحنفية، لكن لا تظننّ أن ذلك لن يكون مكلفا».

ويقول بيرلنير، الذي ساعد عمله في مجال شطرنج الكومبيوتر على الوصول إلى «ديب بلو» وسلالته، إن الناس الأذكياء الراغبين في لعبة رقعية تمتاز بالتحدي ربما يحاولون لعب «غو» (Go)، اللعبة الآسيوية الشعبية التي تُلعب بحجارة سوداء وبيضاء، فترتيبات حركات اللعب المحتملة أعظم عددا بكثير من تلك التي تتم في الشطرنج، فهي تصل إلى رقم فلكي هو عشرة مرفوعة للقوة40! ولأن طبيعة «غو» تجعل من الصعب كثيرا على الكومبيوتر حساب طريقه إلى الفوز بها، لم يقترب أي كومبيوتر من التغلب على الإنسان في «غو»، كما لا يحلم أي لاعب «غو» بالاعتماد على الكومبيوتر لمساعدته في اللعب، وذلك لحد الآن على الأقل.

ويدافع كاسباروف عن فكرة «الشطرنج المتقدمة» التي يتنافس فيها البشر مستعينين ببرامج كومبيوتر مجازة أثناء اللعبة، علما بأنه قد شارك من قبل في لعبة كهذه. على أن مستقبل الشطرنج، كما يراه كاسباروف وآخرون، لا يتمثل في المنافسة بين الإنسان والآلة وإنما في اتحادهما.

* خدمة أخبار نيويورك تايمز - خاص بـ«الشرق الأوسط»