كيف تغلبت تقنية المعلومات الفلسطينية على جنازير الدبابات؟

قطاع المعلوماتية يتطور بصورة كبيرة تخرج عن نطاق التوقعات المعتادة في الكثير من الدول النامية وحتى المتطورة

TT

ما من شك بأن الأحداث السياسية والميدانية التي واكبت العامين المنصرمين من عمر الانتفاضة قد أثرت على مناح شتى من مقومات الحياة الفلسطينية، لا سيما أن اقتصادها الوطني قد شهد كما شهدت كل تفاصيل الحياة، انحسارا واضحا في آفاق التطور والازدهار. فقد انخفض دخل الفرد الفلسطيني بمعدل ثلاثين في المائة، أي بقيمة تقل عن معدل الدخل في نهاية الثمانينات، بينما يعيش أكثر من نصف الشعب الفلسطيني تحت خط الفقر بدخل يومي يقل عن دولارين، وطالت البطالة ما يزيد عن ثلاثين في المائة من العمال الذين دأبوا على العمل داخل وخارج مناطق السلطة الوطنية.

لهذا وامام هذه الصورة القاتمة فإن ازدهار قطاع من القطاعات لا بد وأن يكون أقرب ما يكون إلى المستحيل. لكن المستحيل قد أصبح واقعا رغم تدفق الدبابات على المدن والقرى الفلسطينية، واجتياح المحتل الصهيوني لمساحات الحرية المتاحة للشعب، إذ تطور قطاع المعلوماتية بصورة كبيرة تخرج عن نطاق التوقعات المعتادة في الكثير من الدول النامية وحتى المتطورة.

ولمحاولة فهم الأسباب التي أدت لهذه القفزة النوعية، يمكن تقسيم عوامل التطور إلى اتجاهين أولهما خارجي والآخر داخلي. فعلى الصعيد الخارجي شكلت ولادة الانترنت وتطورها عالميا و نموها بمعدلات مرتفعة، حافزا لانضمام فلسطين إلى التوجه العالمي، للاطلاع على التقنية الجديدة والاستفادة منها. وقد شجعت الخدمات المتنوعة التي طورت الانترنت إلى تعزيز هذا الحافز. فلم تعد الانترنت تقتصر على تبادل البريد الالكتروني وإقامة المواقع الالكترونية، وإنما تعدته إلى توفير الإتصال الآني المرئي والمسموع وخدمات المحادثة الحية، والمجموعات الإخبارية والخدمات المرتبطة بالهواتف الجوالة. وقد رافق هذا التطور انتقال بعض الشركات الصغيرة والكبيرة ومؤسسات القطاعات الفلسطينية المختلفة إلى تطويع الانترنت لعصرنة عملها وتسخير الثورة المعلوماتية لما يتناسب وتعاملاتها.

أما داخليا فقد أدت انطلاقة الانتفاضة وحرص الشعب الفلسطيني على إسماع صوته وأخباره للعالم الخارجي، إلى تزايد حجم المهتمين بالانترنت لتبادل البريد الالكتروني وإقامة المواقع المتخصصة واستقاء المعلومات المتنوعة. وقد سهل تطور الشبكة الداخلية للاتصال وسهولة الحصول على خطوط هاتفية ذلك الهدف. كما ساهم تأسيس العديد من شركات مزودي خدمة الانترنت، وتنامي روح التنافس بينها إلى تشجيع الاهتمام الداخلي بشبكة الانترنت. وأمام سعي الكثيرين إلى البحث عن مصادر دخل بديلة شكل افتتاح مقاهي الانترنت في الضفة الغربية وقطاع غزة مصدرا جديدا للدخل، بينما استفاد الكثيرون من تهاوي تعرفة الساعة الواحدة للانترنت بمعدلات تنافسية ملحوظة. وقد شجع هذا انتشار تللك المقاهي ارتفاع حجم الإقبال عليها تلك وضعف قدرة الشباب على شراء أجهزة الكومبيوتر الشخصية، لا سيما في خضم تردي الأوضاع الاقتصادية جراء الوضع السياسي القائم. وبذلك وصل عدد مقاهي الانترنت إلى ما يقارب الثلاثمائة مقهى، موزعة بين الضفة وغزة تتركز في معظمها في المدن، بينما يندر وجودها في المناطق النائية.

واستنادا إلى بعض الأرقام التقديرية فإن حجم الأرقام الهاتفية المتصلة بشبكة الانترنت يبلغ 58000 رقم هاتفي، مما يعكس اتصال 75400 مستخدم بالانترنت، بينما يبلغ عدد مستخدمي الانترنت المتصلين بهذه الخدمة عبر وسائل أخرى (كالخطوط المؤجرة والرقمية وغيرها) ما يقارب 125000 مستفيد. ويعكس مجموع هذه الأرقام اعتماد ما يتجاوز 7% من الفلسطينين في الضفة وغزة على شبكة الانترنت، أي بنسبة تتجاوز بأضعاف الأرقام التي سبقت إنطلاق الانتفاضة الفلسطينية الحالية. إضافة إلى تفوق تلك النسبة على النسب المقابلة لها في بعض الدول العربية وغيرها من دول العالم.

ويضاف إلى هذا الاهتمام الوطني مجموعة من العوامل الإضافية التي عززت انتشار الانترنت. إذ شكل دخول شركات تقنية المعلومات الفلسطينية في اتحاد مستقل عرف باتحاد شركات أنظمة المعلومات الفلسطينية، عاملا مهما في تطوير عمل تلك الشركات والحفاظ على تمثيلها المحلي والدولي، وتسويقها لمنتجاتها وتوفيرها لأحدث التقنيات وسعيها لتطوير ذاتها رغم الوضع السياسي والاقتصادي المتردي. وقد عكس انطلاق بعض البرامج التي نظمها الاتحاد و تأمينه لحضور الشركات الوطنية في المعارض والملتقيات الوطنية نجاحا متميزا لهذا الاتحاد، يضاف إلى سلسلة نجاحاته في مضمار تشجيع القطاع الخاص وحمايته ودعم المعلوماتية الفلسطينية. وما قبول الاتحاد للتحدي الذي ألقي على عاتقه لافتتاح مكتب لفلسطين في مدينة دبي للانترنت وترجمة ذلك إلى حقائق ملموسة إلا دليلا واضحا على نجاح العزيمة والإرادة في وجه قسوة الاحتلال ومحاولاته الدؤوبة لاغتيال إبداعات الفلسطينيين. وبهذا أصبحت شركات التقنية الفلسطينية على موعد متجدد لإثبات نفسها أمام رديفاتها من الشركات الدولية المرموقة. ويشكل مشروع استيعاب الخريجين الجدد باختصاصات تقنية المعلومات المختلفة لتدريبهم في الشركات الوطنية الفلسطينية، نموذجا جديدا وفرصة متميزة لإمكانية الاستيعاب الدائم لهؤلاء الخريجين عند إثباتهم لقدراتهم، ودعما مهما لتلك الشركات، ونهوضا نوعيا بالقدرات البشرية المحلية، في تحد متميز للارتفاع الملحوظ لمعدلات البطالة. وتعبر مذكرة التفاهم التي وقعت في الآونة الأخيرة بين شركة الاتصالات الفلسطينية واتحاد شركات أنظمة المعلومات، عن نضج وطني متميز وقدرة كبيرة على تحقيق التناغم الوطني بين الشركات الوطنية، والجمع بين المصلحة التجارية وحماية الجمهور المستفيد بشكل متجانس ومنطقي يستحق التقدير.

ويعد إنشاء جمعية الانترنت في فلسطين بعضوية دولية، وبتمثيل متوازن لمجتمع الانترنت الفلسطيني إنجازا وطنيا تفخر به فلسطين، لا سيما وأن هذه الجمعية التي تنهي الآن تفاصيل إنشائها وتسجيلها، قد أنشأت تحت فوهات سلاح المحتل، لتجمع جل المهتمين الفلسطينين بالانترنت محليا ودوليا بأجندة واعدة، تهدف إلى تطوير الانترنت وطنيا ورفع حجم المستخدمين لها، إضافة إلى المساهمة وبكل قوة في صياغة القوانين المنظمة للانترنت، ومشاركة في كل اللجان والهيئات المرتبطة بالمعلوماتية لضمان النهوض بذلك القطاع وسط رؤية متجانسة وعصرية تضمن لفلسطين موقعا عالميا متميزا. أما قرب الإعلان عن توسيع حجم الاستفادة من عنوان فلسطين الالكتروني وحل الإشكاليات الخاصة بذلك بإجماع جل الأطراف المهتمة، فيشكل نصرا للنهج العام بتغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الذاتية، وحفاظا نوعيا على ما يخدم فلسطين ويفضي إلى إنجاز ما يتناسب وموقعها المستقبلي الذي تستحق. وفي خضم الثناء على دور الجميع في تعزيز المعلوماتية الفلسطينية، فإن دور الوزارات الوطنية يستحق التقدير، لا سيما وزارة التجارة والصناعة ودورها المتميز في دعم المعلوماتية وإنشائها للهيئة العامة للاستثمار، التي أبدت منذ انطلاقها اهتماما كبيرا بتقنية المعلومات. كما أن لوزارة التخطيط والتعاون الدولي دورا إيجابيا، لا بد وأن تسعى بعد طول غياب إلى تطويره والنهوض به. وهذا الثناء لا يستتثني طبعا وزارة الاتصالات الفلسطينية والتي دعمت بحرص قطاع المعلوماتية مع حاجتها للنهوض بدورها الرقابي الوطني على هذا القطاع دعما للجميع في جو عادل ومتوازن.

ويضاف إلى الإنجازات الآنفة الذكر مجموعة مشروعات القطاع غير الحكومي التي ساهمت في توظيف الأموال لدعم تقنية المعلومات، مفرزة مجموعة من المشروعات المتميزة كمشروع تقنية المعلومات للشباب في قرى شمال الضفة الغربية، ومشروع تدريب الخريجين الجدد، ومشروع أكاديميات سيسكو لشبكات الكومبيوتر، ومشروع إقامة مراكز التميز لتقنية المعلومات، ومشروع نادي إنتل للتدريب، ومشروع أطفال المستقبل للنهوض بالقدرات الخاصة بالأطفال في مجال الكومبيوتر، ومشروع توفير المنح للمتقدمين لامتحانات شهادات الكومبيوتر الدولية ومشروع أكاديميات مايكروسوفت، وغيرها من مشروعات الدعم الذي تحظى به تقنية المعلومات.

وقد شكل تزايد المواقع الفلسطينية الإخبارية والتاريخية والثقافية على شبكة الانترنت دليلا على تطويع فلسطين للمعلوماتية لإيصال صوتها إلى العالم الخارجي، حتى بدأت تلك المواقع تزعج بعض الإسرائيليين فشهدت الانترنت حربا معلوماتية وتنافسا منقطع النظير لوأد تلك المواقع وتعطيلها. ومن الواضح بأن قدرة الانترنت على إيصال الصوت والصورة بكميات هائلة وبتكاليف بسيطة بالمقارنة مع تكاليف الإتصال التقليدية، قد شكلت عاملا مهما للاعتماد عليها كوسيلة مثلى لنقل الخبر مما زاد من حجم الإقبال المحلي عليها.

وبدخول الكومبيوتر والانترنت بهذه الصورة الملحوظة، بدأت المهمة الأجدى بضرورة إدخال الكومبيوتر والانترنت إلى كل مناحي الحياة دونما حدود. فقد آن الآوان لعدم اقتصار النشاط على إقامة مراكز كومبيوتر هنا وهناك، بل وإدخال الكومبيوتر والمعلوماتية بقوة إلى القطاعات الصناعية والزراعية والثقافية والتعليمية، عملا بما قامت به جامعة بير زيت على سبيل المثال لا الحصر في إيجاد خدمة التعلم عن بعد من خلال برنامج «رتاج» الذي ضمن لطلاب الجامعة استمرار تعليمهم عبر الانترنت، لا سيما في حالات الإغلاق والاجتياحات التي أصبحت جزءا من حياة الفلسطينيين اليومية. لقد قطعت فلسطين تحت فوهات البنادق وفي أجواء مفعمة بالتحدي أشواطا كبيرة في تطوير المعلوماتية محليا بتسخيرها لمحاولات طمس الوجود وقتل الإرادة لخلق عنصري الإصرار على العطاء والمثابرة في الأداء بتجربة نوعية تستحق المباركة والتقدير.