«إيميل» أم هاشم

وليد الاصفر

TT

قررت أم هاشم أن تعمل شيئا لتخفف من جفاف الوضع الذي تعيش فيه. فابنها هاشم ابتعثته المؤسسة التي يعمل بها إلى الخارج في بعثة دراسية تستمر لأربع سنوات، ولم يبق معها في المنزل سوى قاسم الذي لا يعيبه شيء سوى أنه في الثانية عشرة. وقاسم يعيش في عالمه الخاص، فهو في ذلك العمر الذي يجعله يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يثبت أنه أصبح رجلا، بل ورجل البيت كله، وهو أيضا العمر ذاته الذي يجعله متأكدا من أنه الأكثر فهما وعقلا، وبالتالي الأكثر نفورا من كلمة «غباء» (يقولها بصوت خافت) من هم أكبر سنا. وأظن أن هذا يكفي لاعطائكم فكرة عن معاناة أم هاشم اليومية، فعدا عن أن هاشم لا يحب كتابة الرسائل بالقلم والورقة وهو من جيل الكومبيوتر والبريد الإلكتروني، وفرق التوقيت لا يتيح له إجراء مكالمات هاتفية معها في وقت مناسب، فإن قاسم له حالتان إما خارج المنزل مع أصحابه المراهقين، وإما حابسا نفسه في غرفته مع كومبيوتره الذي هو بالنسبة لها أشبه بالطلاسم. وهو الأمر الذي كثيرا ما ينتقدها عليه بالاضافة إلى اتهامه لها بأنها تحب أخاه الأكبر أكثر منه لأنها لا تفتأ تذكره. وهي لا تستطيع أن تفهمه أنها تموت بالتراب الذي يمشي عليه هذا الصغير الشقي، لكنها في الوقت نفسه لها ذلك النوع من القلوب التي تحب من أبنائها الغائب حتى يعود والمريض حتى يصح.

«أريد حلا»، قالتها لجارتها أم علي التي اصطحبت معها هذه المرة ابنتها الصبية عائشة، التي تعمل مدربة كومبيوتر في احد معاهد المدينة بعد أن أنهت دراستها. هذه المرة كانت عائشة هي المبادرة في الرد قائلة «لماذا يا خالتي لا تراسلين هاشم بواسطة البريد الإلكتروني طالما أنه لا يحب الكتابة على الورق؟»، ثم خفضت رأسها لتتجنب ابتسامة أم هاشم التي جاءت استجابة تلقائية للمعة التقطتها في عيني الفتاة عندما ذكرت اسم ابنها. إذ أنها طالما دعت الله أن يهدي ابنها ليعود ولو لإجازة قصيره تزوجه فيها بنت الحلال وتطمئن عليه في الغربة الغربية، ولم يكن في بالها سوى عائشة الجميلة ذات الحجاب والطباع الهادئة.

«أضحكتني يا بنتي، أبعدما شاب أرسلوه للكتاب. وياليتها كتاب عادية بل هي إلكترونية». إلا أن ذلك لم يحبط عائشة، فخبرتها في تدريب العشرات من جميع الفئات والأعمار، جعلتها واثقة مما تقول «صدقيني أنك ستحبين ذلك، وسأدربك عليه أنا بنفسي».

ترددت أم هاشم قليلا ثم وافقت بذكائها الفطري، ليس لأنها لم تعد تخاف الكومبيوتر، بل لأنها قد تكون فرصتها للتواصل مع هاشم أكثر، وفرصة أمثل للتقرب ممن تتمنى أن تكون عروسا له. و«لكن أين سأتدرب؟». «ما رأيك بجهاز قاسم؟ فأنا أعطي دوراتي في المعهد في المساء وأكون متفرغة في الصباح عندما يكون هو في مدرسته». «لا وألف لا. كله إلا هذا. ماذا تريدين أن يصنع بي لو عرف أن أحدا لمس كومبيوتره من غير إذنه، وحتى لو حاولت استئذانه، هل سأسلم من لسانه اللاذع عندما يعرف أن أمه التي «يا دوب» تستطيع القراءة والكتابة ستستخدم كومبيوتر؟!».

إلا أن عائشة لم تستلم وطمأنتها أن ما لديها من خبرة باستخدام الكومبيوتر، وتدريبها للعديد من الشباب في مثل عمر قاسم، يجعلها تستطيع أن تستخدم كومبيوتره وتخفي «آثار الجريمة» وكأن شيئا لم يكن. اقتنعت أم هاشم في النهاية، وبدأت في دورتها الخاصة مع عائشة لمدة أسبوعين فقط، وفي اليوم الخامس عشر خفق قلبها بشدة وهي تنقر بالماوس لارسال أول رساله موجهة لهاشم منها بواسطة البريد الإلكتروني. لم تستطع الانتظار إلى صباح اليوم التالي لتقرأ رده المتوقع، فرجت عائشة أن تدبر لها أي جهاز في أي مكان في البلد يمكن أن تستخدمه في المساء، عندما يكون الوقت مناسبا لهاشم في البلد الذي يعيش فيه أن يفتح بريده. وبعد عدة زيارات لأحد المقاهي الإلكترونية، لم تتمكن من أن تحبس دموعها عندما قرأت أجمل رسالة مقتضبة رأتها في حياتها «... من هذا؟ هل أنت فعلا أمي؟ لولا كلامك الذي أعرف حلاوته تماما وعنوانك [email protected]، لما صدقت عيني. أخبريني كيف تم لك ذلك؟». لم تستطع أن ترد على ابنها مباشرة، وتركت أم هاشم المقهى وهي تحتضن النسخة الورقية من جواب ابنها التي أحبت أن تحتفظ بها تحت وسادتها، وهي تكاد تطير من الفرح، وتقبل وتحتضن في الوقت نفسه حبيبتها عائشة التي رأتها هدية من الله، تتمنى أن تكتمل فرحتها لتراها في بيتها على الدوام أما لأحفادها.

عندما فتحت باب منزلها ظنت وكأنها فتحته على إعصار، إذ سمعت قاسما يصيح «أميييييي! من كان يعمل على كومبيوتري اليوووووم؟». لم تجبه بالرد الذكي الذي زودته به عائشة، بل ابتسمت له وفاجأته بقبلة على رأسه وهي تشم الورقة التي ما زالت في يدها.

[email protected]