الجوال وأنصاف الحقائق

وليد الأصفر

TT

كشفت دراسة حديثة أجراها فريق متخصص في إحدى الجامعات البريطانية، عن السر وراء انزعاج الناس من مستخدمي الهواتف الجوالة في بعض الأماكن العامة، وبالذات تلك التي يضطر الناس فيها للبقاء في أماكن مغلقة لفترات زمنية طويلة، كغرف الانتظار أو في القطارات وغيرها. فبعد أن كانت التكهنات تدور حول أن الانزعاج يعود إلى الأصوات المرتفعة لمستخدمي هذه الهواتف الصغيرة أو نغمات الهاتف المملة أو المثيرة للأعصاب التي تخرج منها، ظهر أن الانزعاج يعود في الحقيقة إلى أنهم لا يسمعون سوى مساهمة المتكلم فقط في الحوار الدائر بينه وبين الطرف الآخر، الذي لا يستطيعون التأكد تماما مما يقوله، وبالتالي لا يسمعون سوى نصف الحكاية، وكلما طال زمن المكالمة زاد فضولهم وزاد في الوقت نفسه إحباطهم بسبب ذلك. ولا «يعاني» كل الناس بالطبع من هذه الحالة، فمعظمهم يتقبل الأمر على مضض، في حين قد يفقد البعض أعصابه لينفجر في صاحب أو صاحبة الهاتف، ومنهم من يتسلى بمحاولة استنتاج ما يقول المتحدث أو المتحدثة على الطرف الآخر. ولكن هناك قلة يعتمد وجودها على حظ مستخدم الجوال، تعطي لنفسها الحق في أخذ ما يتسنى لهم سماعه من كلمات أو عبارات، ليعيدوا صياغتها حسب أهوائهم، وليحيكوا القصص حولها بناء على نياتهم. فإذا كنت تجلسين أمام جارتك التي تبغضك من دون أن تشعري بها، فستلاحظين خلال ساعات من عودتك إلى منزلك، كيف ستتغير كلمات ونظرات بقية جاراتك تجاهك، وربما قد تشعرين بجفاء غير مبرر في التعامل من جهة زوجك. وإذا كنت محظوظة فلن يطول الزمن لتكتشفي أن عبارات الحب والحنان التي كنت تبثينها من خلال هاتفك إلى أخيك الصغير، والتي اختلطت بضجيج الجمهور حولك، قد تحولت بسبب جارتك اللدودة إلى عبارات «أكيد» أنها كانت موجهة إلى عاشق مجهول. أما إذا كنت في مكالمتك تتذمر من سوء الأحوال، واستمع إليك مبغض أو مصاب بمرض الوشاية، فسيكون من السهل تأويل كلماتك بفضل جهود «فاعلي الخير» إلى عديد من الأمور، أقلها أنك تكره مديرك في العمل وتتآمر عليه لتأخذ مكانه، وأسوأها ما أتركه لمخيلاتكم، وخبرتكم في الحياة. أما ما ستواجه به من الظلم والعدوان، الذي كان بسبب تأويل حديثك لصديقك حول الديون التي تراكمت عليك بسبب إسراف زوجتك، فقد يعرضك لأمور لم تحسب لها حسابا. الغريب في الأمر أن كل التقدم التقني والاختراعات الحديثة تتحرك بسرعة مذهلة، في حين بقي الإنسان كما هو، بل أنه صار يستخدم هذه التقنيات لخدمة أهوائه ومصالحه وطريقة تفكيره. وهذا أمر لا يمكن أن يكون له علاج ما بقيت السموات والأرض، لأنه يأتي وكأنه جزء من برمجة تفكير البشر. تذكرت هنا المقولة المأثورة كما أظن عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، التي يقول فيها «إنه إذا جاءك شخص يشتكي من أن فلانا قد قلع له عينه، فانتظر ولا تحكم له، فلعله قد قلع عيني الرجل الآخر». نحن هنا نتكلم عن عبارة قيلت قبل حوالي ألف وأربعمائة سنة وما زالت صحيحة حتى الآن! ولا أظن بالطبع أن الفاروق كان أول من لاحظ الأثر الخطير لاجتزاء المعلومات أو فصلها عن السياق الذي ذكرت فيه، على حياة الناس، إذ لا أستغرب أن يجد علماء الآثار عبارة شبيهة محفورة على أحد أحجار معابد الفراعنة، أو ربما مرسومة على أحد كهوف من يوصف بإنسان العصر الحجري، أي قبل اختراع الهاتف الجوال :) وعلى كل حال ومع تألم الواحد منا بسبب عدم قدرته على فهم الدوافع الحقيقية لاستخدام شخص أجزاء من المعلومات لظلم أخيه، لا بد أن نتناسى هذا الألم لأنه يهون عندما نرى كيف يتجرأ بعض البشر لاجتزاء كلمات من كلام الله عز وجل في القرآن الكريم وتوظيفه لمصالحهم لتبريرهم قتل الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال من دون أي ذنب اقترفوه.

[email protected]