البلوتووث المظلومة بين جريمة «الاعتداء» ومشروع تجريم التقنية

استعراض لهذه التقنية اللاسلكية الفريدة وطريقة استخدامها وكشف كيف تتم إساءة استغلالها حتى في أوروبا

TT

كنت أعد العدة لكتابة مقالة أشيد فيها بتلك التقنية الجميلة الحديثة نسبيا، التي بعكس تقنيات أخرى للاتصال اللاسلكي، لاقت انتشارا وتقبلا من عامة الناس بشكل سريع، وأعني بها تقنية «بلوتووث». فكصحافي، كانت سماعة الهاتف الجوال المزودة بهذه التقنية، سببا في جعل المقابلات الصحافية التي أجريها من خلال الهاتف أكثر متعة وإنتاجية وبخاصة أثناء تلك المكالمات التي لا يقل طولها عن ساعة كاملة. فبدلا من استخدام سماعة الهاتف العادية التي تعطل إحدى يداي لأن الأخرى أكتب بها، أو تجعلني أثني رقبتي لأمسك بها على كتفي، عندما أضطر لاستخدام يدي لقلب صفحة على سبيل المثال، أعطتني سماعة «بلوتووث» القدرة على حرية الحركة بشكل قد لا يصدقه البعض، إذ حصل أنني وأثناء مكالمة طويلة جدا كنت أتابع فيها سبق صحافي من خلال مؤتمر هاتفي، شعرت بالجوع فأخذت طبق الطعام لأسخنه في غرفة أخرى، ثم عدت إلى مكتبي وتناولته، في الوقت نفسه الذي كنت أتابع فيه المكالمة، ولحسن حظي لم أكن أنا المتصل، وإلا لكنت قد تعرضت لمساءلة القسم المالي في الجريدة. ولكن هذا الاستخدام البريء والطريف لهذه التقنية، لم يمنع عديمي الضمير والأخلاق من تطبيقها بصور سيئة، تصل إلى حد البشاعة. كما حدث أخيرا في جريمة اغتصاب فتاة في السعودية وتصويرها واستخدام هذه التقنية لتوزيع فيلم هذه الجريمة، وهي القضية التي اختارت بعض وسائل الإعلام ومنتديات الإنترنت العربية تسميتها بقضية «فتاة البلوتووث»، بل إن صحفا كويتية نشرت خبر مشروع سيعرض على مجلس الأمة الكويتي، حيث حملت المقالات العنوان «مشروع تجريم البلوتووث». ولكن هل التقنية هي المسؤولة عن هذه الجريمة لتلصق بها؟

توجهت بهذا السؤال أولا إلى المهندس خالد صالح العسعوسي، رئيس مجلس إدارة الجمعية الكويتية لتقنية المعلومات، الذي قال «أسيء استخدام مصطلح «بلوتووث» في الآونة الأخيرة، ليستدل به على أمور متعلقة بالفضائح الجنسية أو بأعراض وصور الفتيات والنساء. والواقع أن هناك الكثير من الطرق قد يلجأ لها ضعاف ومرضى النفوس في تبادل المعلومات سواء كانت صورا أو لقطات الأفلام». وأضاف العسعوسي «لقد ظلم البلوتوث لما لاستخداماته المفيدة والكثيرة علي مستوى الحياة العامة، وفي اعتقادي أن القانون يجب أن يسمى بتجريم الاستخدام السيئ لطرق نقل المعلومات، سواء كانت باستخدام البريد الإلكتروني أو الإنفراد أو النقل اللاسلكي أو غيرها من طرق. كما أن ذلك يجبرنا لتشخيص أين تقف خصوصية المعلومة المتعلقة بالأفراد وإمكانية مراقبة هذه الآلية». ولكن ملاحظة استعجال البعض وبخاصة في وسائل الإعلام في العالم العربي بشكل عام، بالإضافة إلى بعض السياسين، إلى استخدام كلمات مثل «تجريم» مع تقنية كتقنية «بلوتووث» تثير الاستغراب، وهو الأمر الذي دفعني لسؤال رئيس مجلس إدارة الجمعية الكويتية لتقنية المعلومات، فيما إذا تمت استشارتهم بشأن مشروع القانون الجديد سواء لصياغته أو لآلية تطبيقه، خاصة وأن هذا المشروع سيعرض على مجلس الأمة (البرلمان) الكويتي الشهر المقبل أجاب «أما بخصوص استشارة الجمعية في صياغة أو إقرار هذا القانون، فإنه وللأسف لم يتم، رغم أننا جهة اختصاص في هذا النوع من التقنية». ومع أنه لا خلاف على أن صياغة القوانين مهمة جدا للحفاظ على حياة المجتمع، إلا أن عدم سؤال أهل الاختصاص، قد يتسبب بوضع قوانين قد تتسبب بخسائر في مجالات أخرى، بدلا من أن تكتفي بتجنب الخسائر التي صيغت من أجلها.

* كيف تستخدم التقنية ومن المسؤول؟

* أهم ميزات تقنية «بلوتووث» أنها تتيح للأجهزة الإلكترونية المختلفة التي زودت بها، أن تتصل فيما بينها بسرعة ومن دون الحاجة لاتصال سلكي مباشر، وبسرعة عالية نسبيا، طالما كانت هذه الأجهزة في مجال عشرة أمتار من بعضها البعض. وبسبب هذه الميزات تنتشر الآن في العالم المئات من الحلول والأجهزة التي تستفيد منها، وفي مجالات مختلفة، كتحقيق الاتصال بين الكومبيوتر وملحقاته، مثل لوحة المفاتيح والماوس والطابعة، أو توفير الاتصال اللاسلكي بالإنترنت للكومبيوتر المحمول أو الكفي من خلال هاتف أو مودم لاسلكي، وحتى التطبيقات الطبية، كمجس نبضات القلب الذي يمكن أن يرسل البيانات من المريض إلى جهاز المراقبة مباشرة. وهذا طبعا عدا عن تطبيقات في مجال الأجهزة المكتبية وأجهزة التسلية والألعاب، وحتى في السيارات.

إلا أن أكثر هذه التطبيقات انتشارا بين الجماهير، فكانت تلك التي توفرت مع الهاتف الجوال، كاستخدامه مع السماعات، أو مع الكومبيوتر كما ذكرت أعلاه، أو لتبادل الصور والنصوص والنغمات وأفلام الفيديو بين أصحاب الهواتف. وفي جميع الأحوال فإن استخدام هذه التقنية يتم بمعرفة ووعي مستخدمها. فإذا أردت أن تستخدم هاتفك الجوال لاستقبال أي شيء بواسطة «بلوتووث»، فإن عليك أولا أن تعد الهاتف لذلك بنفسك، بأن تضعه في طور «بلوتووث». وفي هذه الحالة ستكتب اسما يعرف أصحاب الأجهزة الأخرى عليه إن هم أرادوا الاتصال بك. كما يمكنك هنا أن تختار أن تكون «مرئيا» للآخرين أم لا. وأعني أنه وعلى الرغم من أن هاتفك سيكون جاهزا للاتصال من خلال «بلوتووث»، إلا أنه لا يمكن لأحد آخر أن يعرف بوجوده أو أنه متوفر للتواصل معه إلا إذا أنت أعددته ليظهر كذلك من خلال خاصية Visibility التي تتيح الخيارين Show phone أو Hide Phone. وعندما ترغب في إرسال صورة أو فيلم فيديو على سبيل المثال من هاتفك، فستستخدم أمر الإرسال Send، فإذا اخترت في هذه الحالة أن يتم ذلك من خلال «بلوتووث»، فسيبدأ هاتفك في البحث في محيطه عن أي جهاز اختار صاحبه له أن يظهر. وبعد انتهاء عملية البحث ستظهر على الشاشة قائمة بأسماء الأجهزة المتوفرة، ولو كنت جالسا في مطعم على سبيل المثال فمن المحتمل أن تحصل على قائمة كبيرة.

في الخطوة التالية ستختار اسم الهاتف الذي تريد أن ترسل له تلك الصورة، ثم ستضغط على زر Send. هنا سيسمع صاحب ذلك الهاتف إشارة صوتية، وستظهر على شاشته رسالة تقول له إن الهاتف ذو الاسم الفلاني أرسل ملف صورة اسمها كذا، ويسأله إن كان موافقا على عملية النقل أم لا، فإذا وافق فستنتقل الصورة إلى جهازه وستخزن فيه فورا. ويمكنه بعد ذلك أن يكرر العملية بنفسه ويرسلها إلى آخرين، وهكذا، وفي خلال دقائق قليلة ستنتشر تلك الصورة إلى عشرات الأجهزة، تماما كالعدوى الفيروسية، إلا أنه وفي هذه الحالة يتم نقل العدوى مع سبق الإصرار والترصد وبمعرفة جميع الأطراف وبموافقتهم وإرادتهم.

* سرية بالغة

* الملاحظ هنا أنه وبسبب إمكانية أن يعطي كل شخص أي اسم لهاتفه مهما كان، مع إمكانية تغييره وقتما يشاء، وكذلك الحال مع أسماء الملفات المنقولة التي يمكن اختيار أسماء لها قد لا تمت بأية صلة لمحتوياتها الحقيقية، فقد يكون من المستحيل تحديد من المرسل ومن المستقبل، وفي أية جهة من المطعم يجلس، وهل هو رجل أم امرأة. الأمر الآخر الذي يزيد من عامل «السرية» في هذا النوع من الاتصالات، هو أنها لا تتم من خلال شبكة الاتصالات الهاتفية الجوالة التي تحمل المكالمة من هاتف إلى آخر، بل هي تتم من الجهاز المرسل إلى الجهاز المستقبل مباشرة من دون واسطة، مما يعني عدم القدرة على تتبعها كتتبع المكالمات نفسها. وبالتالي وفي حالة حصول جريمة مرتبطة بهذا النوع من التراسل، فقد تواجه المحقق الجنائي عدة مشاكل عند محاولى تحديد مصدر الصورة. الأولى هي عدم قدرته على تحديد من هو المرسل الأول للصورة، لأنها لا تحمل اسمه أو توقيعه. ثم لو فرضنا أن الشرطة وصلت إلى المطعم في تلك اللحظة وصادرت الأجهزة قبل أن يغادر أصحابها، فستحتاج إلى مدة طويلة للبحث في جميع الأجهزة، لأن الصورة قد تكون قد خزنت في أكثر من جهاز. هذا عدا عن احتمال أن يكون من أرسلها أو شارك في تمريرها إلى غيره قد حذفها من جهازه أصلا، وفي هذه الحالة فالعملية ستكون أصعب، لأن الخبرة المطلوبة في هذه الحالة لاسترجاع الصورة تحتاج إلى متخصص وأدوات قد لا تتوفر.

ولهذا، وإلى أن تتطور التقنية بحيث لا تغادر أية صورة أي هاتف إلا بعد أن توسم بمعلومات تتعلق بهذا الهاتف وترافقها أين أرسلت، فإن الحصول على دليل مادي قد يكون مستحيلا، إلا إذا اعترف الجاني بنفسه، أو احتوت الصورة على معلومات تفيد قطعا بارتباطها بالجاني، كما حدث في فيلم الفيديو سيء الذكر الذي ارتبط بجريمة «فتاة البلوتووث».

وبالمناسبة فهناك من أطلق عليها اسم «فتاة الباندا»، والسر وراء هذه التسمية يعود إلى أن السعوديين يحبون إطلاق أسماء مشتقة من شكل الهاتف الجوال بمجرد نزوله إلى السوق، لدرجة ينسى معها الناس اسمه الأصلي، ولكون هاتف نوكيا 6600 الذي يتميز بقدرته على التقاط أفلام الفيديو وتخزينها وإرسالها منتشر كثيرا في السعودية، ولأن جسمه وألوانه الأبيض والأسود تشبه دب الباندا المعروف، أصبح الاسم الشعبي لهذا الهاتف هو «الباندا».

* هل الحل هو تجريم «بلوتووث»؟

* على الرغم من الهجوم الشديد والبالغ الغرابة، الذي شنه كثيرون على هذه التقنية، لدرجة المطالبة بمنعها من دخول الأسواق السعودية وغيرها من الدول، إلا أنه وعلى ما يبدو فإن الإنترنت وليست «بلوتووث» هي التي ساهمت بشكل أكبر في توزيع هذا الفيلم، حيث وصلت من خلال منتديات الحوار والبريد الإلكتروني إلى الآلاف من الذين ربما لا يملكون في هواتفهم «بلوتووث» أصلا.

ولكن هل منع الهواتف المزودة بتقنية «بلوتووث» من دخول البلاد أو محاولة «تنظيم استخدام بلوتووث» سيوقف مثل هكذا جرائم؟ لأنه لو صح ذلك فسيكون من الواجب منع استخدام الإنترنت نفسها لأنها أكثر انتشارا، بالإضافة إلى منع غيرها من الأدوات الحديثة التي يستخدمها خيار الناس قبل شرارهم، هذا عدا عن صعوبة تطبيق «تنظيم استخدام» مثل هذه تقنية، كما يطالب البعض.

الحل الصحيح ليس بمنع الأجهزة والتقنيات، بل بوضع قوانين تجرم وتعاقب من يستخدم هذه التقنيات لتعمد الإساءة والتشهير أو الابتزاز والتهديد والمساس بالأعراض والتحريض على الفسق والفجور، كما ينص مشروع القانون الكويتي، ولكن بشرط مراعاة التنسيق مع جهات الاختصاص لتحديد كيف يمكن تحديد الجاني بصورة قاطعة. كما يمكن إعطاء الحق القانوني إلى صاحب أي مبنى أو جهة في منع إدخال الأجهزة الهاتفية التي تحمل آلات تصوير. وللعلم فإن هذه ليست بدعة من البدع، إذ بدأت العديد من الشركات في الدول المتقدمة بمنع إدخال هذه الهواتف ليس إلى أمكان تغيير الملابس في الأندية الرياضية فحسب، بل وأيضا إلى مباني الشركات التي تخشى على أسرارها من التسرب إلى المنافسين، وهذا طبعا عدا عن الجهات الأمنية وذات الطبيعة الحساسة. ولهذا فإذا رأى صاحب حفل زفاف على سبيل المثال في بلادنا، أن يفتش مدعويه قبل دخولهم إلى قاعة الحفل ليتأكد من عدم حملهم لآلات تصوير جوالة، فيجب على القانون والجهات الأمنية توفير الدعم الكافي له.

أما محاولة منع التقنية مهما كانت فلن يحقق شيئا، لأن استعمالاتها في تطوير حياة البشر هي الأخرى بالغة الأهمية ويجب عدم التنازل عنها.