التفاعل مع الأجهزة الإلكترونية باللمس.. آفاق باهرة

شاشات افتراضية متعددة التفاعل وأجهزة لقيادة أوركسترا رقمية وتقنيات للتلامس من خلف الشاشات

TT

سادت أدوات التفاعل التي تعتمد على النوافذ والأيقونات والقوائم لأكثر من 15 عاما، وقدّمت الكثير في مسيرة مستخدمي التقنيات، خصوصا الفأرة ولوحة المفاتيح والشاشة. ولكنّ نهاية فترة هيمنة هذه الأدوات اقتربت، حيث تطوّر شركات عدّة تقنيات تعتمد على التقاط إشارات وحركات من المستخدمين، أو تقنيات أخرى تعمل بلمس الشاشة. وقادت شركات «آبل» و«مايكروسوفت» هذه النزعة بطرح هاتف «آي فون» و«سطح مايكروسوفت»، بالإضافة إلى محاولات مهمة من شركات «آي بي إم» و«ميرل» MERL و«جاز ميوتانت» JazzMutant، بالإضافة إلى شركة «ميتسوبيشي» التي طرحت «طاولة اللمسة الماسيّة» DiamondTouch Table التي تعمل باللمس وتستطيع التعرّف الى إشارات المستخدم أثناء مراقبته، بالإضافة إلى تفاعلها مع أكثر من مستخدم في الوقت نفسه، وتمييز تفاعل كلّ مستخدم عن الآخر. وتمهّد هذه الأجهزة الطريق نحو حقبة جديدة مليئة بالتفاعل البديهيّ الطبيعيّ بين الإنسان والآلات.

وعلى الرغم من أنّ غالبيّة المستخدمين لم يسمعوا بمصطلح اللمس المتعدّد Multitouch قبل ظهور هاتف «آي فون»، إلا أنّ هذه التقنية موجودة منذ عام 1984 في مختبرات جامعة «تورنتو»، وتطوّرت بشكل كبير في عام 1992 ولكنّها لم تنتشر إلا بعد مرور 23 عاما على طرحها، وبشكل يشابه انتشار الفأرة التي اختُرعت في عام 1965، ولكنّها لم تننشر بشكل تجاريّ إلا بعد مرور 30 عاما على طرحها. ويُدرك الكثير من المستخدمين أنّه يوجد أمر مثير في اللمس المتعدد للأجهزة، ولكنّهم لا يعرفون مدى الأثر الذي يمكن أن تُحدثه هذه التقنية في حياتهم، وخصوصا أنّهم قضوا جزءا كبيرا من أوقاتهم باستخدام أدوات تفاعل أحاديّة، مثل الشاشة التي تعرض الصور، والفأرة، ولوحة المفاتيح التي تُرسل المعلومات فقط. أمّا الآن، فإنّ عين المستخدم ترى الرسومات المعروضة على الشاشة، وتستطيع الرسومات رؤية أصابع المستخدم ومتابعتها وفهم الإشارات التي ترسلها.

* تفاعل سلس

* ويُعتبر التفاعل باللمس عنصرا واحدا في مجال أبحاث ما وراء طرق التفاعل التقليديّة، والتي تجمّع عدة تقنيات لإيجاد بيئة تفاعل أكثر سلاسة للمستخدمين، وبالتالي إيجاد تطبيقات جديدة إبداعيّة تعتمد عليها. ومن هذه التقنيات «الواقع الإفتراضيّ» Virtual Reality و«الحساب المدرك للسياق» Context-aware Computing و«تفاعل الملامسة» Tangible Interaction (يتعرّف الجهاز الى العناصر التي توضع عليه فور ملامستها له)، وحتى «التفاعل الإدراكيّ والشعوريّ» Perceptual/Affective Computing. ويعتمد التطوّر نحو تفاعل أكثر واقعيّة على 4 عناصر هي الفيزياء البسيطة، وإدراك الأجسام، وإدراك البيئة والإدراك الاجتماعيّ. الفيزياء البسيطة تسمح للجهاز بمحاكاة القوانين الفيزيائيّة البسيطة، مثل تغيير وضعيّة عرض الصورة عند تغيير زاوية ميلان الجهاز، وكأنّ الصورة الموجودة في داخله لها وزن يؤثر عليها عند تغيير زاوية ميلان الجهاز، أو مثل تحريك الإصبع ببطء أو بسرعة للانتقال من صفحة أو صورة إلى أخرى بنفس السرعة. أمّا بالنسبة لإدراك الأجسام، فإنّ التقنيات الجديدة ستستطيع التفاعل مع المستخدم بطرق مختلفة، مثل التفاعل بإصبع واحد أو أكثر، أو بيد واحدة أو أكثر، أو حتى الإيماء بالإصبع او العين من بُعد. ويسمح إدراك البيئة للأجهزة بتقدير بُعد المستخدم عن جسم ما وتغيير عمليّة التفاعل وفقا لذلك. ويبقى الإدراك الإجتماعيّ الذي يسمح لمجموعة من المستخدمين بالتفاعل مع الأجهزة في وقت واحد، والتأثير في العناصر الموجودة (أو عدم التأثير إن أراد المستخدم) في آن واحد.

* شاشات لمس «وهمية»

* وتطوّر شركة «آي بي إم» حاليّا تقنية قد تقود التفاعل إلى مستقبل باهر. وأطلقت الشركة اسم «شاشات في كلّ مكان» Everywhere Displays على هذه التقنية، والتي تعلق فيها أجهزة بثّ للصور Projector في جزء (أو عدّة أجزاء) من غرفة عاديّة، وتعرض صورا لشاشات لمس وهميّة على أيّ سطح، مثل الطاولة أو الجدار أو الأرض أو حتى الكتب والستائر والمكتبات. وتراقب كاميرات خاصّة المستخدم وهو يتفاعل مع الشاشات الإفتراضيّة، وتعلم أين ضغط على الشاشة الإفتراضيّة. وتُرسل هذه الكاميرات المعلومات إلى كومبيوتر للتحليل، ومن ثمّ تبثّ صورة جديدة لمحاكاة عمليّة التفاعل المستمرّة.

واللافت للنظر في هذه التقنية هو عدم وجود قطع إلكترونيّة أو ميكانيكيّة أو نظارات مكلفة، وعدم وجود أيّ أسلاك، الأمر الذي يسمح بتغيير مكانها وحجمها وفق ما يريد المستخدم. ويمكن استخدام هذه التقنية في المتاجر أو الأكشاك لعرض معلومات عن سلع معيّنة حسب اختيار المستخدم (مثل عرض السعر والكميّات المتوفرة في المستودع، وعرض صورة يمكن للمستخدم تحريكها في الهواء لمشاهدة المنتج من جميع الزوايا الممكنة، أو عرض صورة لمنتج كبير لا يتسع على الأرفف، مثل سرير أو مرتبة، وذلك حتى يستطيع معرفة الحجم الحقيقيّ للمنتج قبل شرائه، أي أنّه يمكن معاينة أثاث المنزل أو الشركة بشكل كامل في متجر لا تزيد مساحته على 5 أمتار مربعة). وتطوّر الشركة نفسها نظاما للأسواق يعرض للمشتري شاشة وهميّة تسأله سؤالا ما، مثل «هل تريد أغذية مليئة بالألياف؟» أو «يوجد تخفيض في قسم الأطفال. هل تريد الذهاب إلى هناك؟»، وإن أجاب المستخدم بـ «نعم» عن طريق ملامسة اصبعه للشاشة الإفتراضيّة المرتفعة، أو برجله إن كانت الشاشة الوهميّة على الأرض، فإنّ أجهزة بثّ معلقة على السقف ستعرض خطوات وهميّة أمام المستخدم تأخذه إلى القسم المطلوب. ويمكن جعل المنتجات الموجودة على الأرفف تفاعليّة، حيث ينقر المستخدم عليها، لتظهر صورة جديدة تعرض معلومات عن المنتج. هذا وطوّرت الشركة نظاما خاصّا للمكاتب المستقبليّة اسمه «بلو سبيس» BlueSpace، يُصدر تنبيهات بصريّة صامتة على الجدران والمكاتب عند الطلب، الأمر الذي يزيد من أداء وإنتاجيّة الموظفين.

* تطبيقات مميزة

* وأخذ بروفيسور الموسيقى في جامعة «فيرجينيا تيك» «إيفيكا آيكو باكفيك» Ivica Ico Bukvic تقنية التفاعل باللمس إلى مستوى فنيّ رائع، حيث استخدم سطح التحكم المسمّى بـ «ليمور» Lemur الذي طوّرته شركة «جاز ميوتانت» الفرنسيّة، وألّف وأدى مقطوعات موسيقيّة بشكل فوريّ، وذلك عن طريق تحريك يديه وأصابعه لمحاكاة قيادة فرقة موسيقيّة كاملة يتكوّن أفرادها من نبضات موسيقيّة إلكترونيّة تصدر من أحد الكومبيوترات. وتُسمّى هذه العمليّة بـ «فن الوسائط المتعدّدة التفاعليّ» Interactive Multimedia Art، والذي يحتوي على عناصر الرسومات وعروض الفيديو والموسيقى المسجلة فوريّا، بالإضافة إلى عناصر تسمح للفنان والجمهور والكومبيوتر بالعمل بتناغم تامّ مع بعضهم بعضا. ويمكن للمستخدم التفاعل بشكل فنيّ مع هذه الأجهزة عن طريق التلاعب بعشرات العوامل المتغيّرة بالإيماء فقط، حيث يمكن تغيير شدة الإضاءة وزاوية التصوير ودرجة الصوت ومزج أصوات الآلات الموسيقيّة، والكثير غيرها من العناصر، وباستخدام 10 أصابع فقط. ويمكن تخزين هذه المتغيّرات للإستخدام في أوقات لاحقة، وإنشاء مكتبة متغيّرات ضخمة ومشاركة الآخرين بها. وتفيد هذه التقنية الموسيقيين والرسامين لأنّها تعطي دقة كبيرة بسبب استخدام الأيدي عوضا عن الفأرة أو القلم الضوئيّ، وبالتالي إيجاد مرونة وراحة كبيرة في التعامل مع الأجهزة والبرمجيّات.

* تفاعل متعدد

* أمّا جهاز «طاولة اللمسة الماسيّة»، فإنّه يُُعتبر التقنية الوحيدة (لغاية الآن) التي تستطيع التفاعل مع مجموعة من المستخدمين في آن واحد والتمييز بينهم، ليُصبح كلّ مستخدم جزءا من النظام. ويعود السرّ في ذلك إلى وضع هوائيّات صغيرة تحت السطح الذي تلامسه المجموعة، تُرسل موجات راديو صغيرة غير ضارّة إلى أصابع المستخدمين. وعندما يلامس المستخدم السطح، فإنّ هذه الإشارات تتصل بإصبع المستخدم وتنتقل إلى الكرسيّ الذي يجلس عليه، والذي هو متصل بدوره بمستقبلات خاصّة لهذه الإشارات (يجب إعداد الكراسي مسبقا لتحتوي على المستقبلات المذكورة).

وباعت الشركة الكثير من الأجهزة لمختبرات الجامعات والشركات منذ عام 2006، وهي متوفرة بقطر 32 أو 42 بوصة ويمكن تغيير مواصفاتها ومقاساتها حسب احتياجات الأفراد والشركات. هذا وتطوّر الشركة المصنّعة للجهاز برمجيّات وتطبيقات جديدة، مثل «التصاميم بمساعدة الكومبيوتر» Computer Aided Design CAD و«نظم المعلومات الجغرافيّة» Geographic Information System GIS، وتقدّم أدوات تسمح للشركات الأخرى ببرمجة برامجها الخاصّة لاستخدام هذه التقنية.

ويمكن البحث عن عبارة «جدران اللمس المتعدّد» Multitouch Wall في موقع «يو توب» YouTube لمشاهدة نماذج أوّليّة عديدة تطوّرها شركات مختلفة وتعرضها في مؤتمرات متخصّصة. ويمكن شراء أحد هذه الأجهزة المسمّى بـ «جدار الوسائط التفاعليّ»Interactive Media Wall الذي طوّرته شركة «بيرسبيكتف بيكسل» Perspective Pixel والذي يبلغ قطره 102 بوصة (2.6 متر)، لقاء 100 ألف دولار أميركيّ.

* اللمس والصوت

* ومن المتوقع أن يصبح الصوت أحد اجزاء معادلة التفاعل مع الأجهزة، حيث يمكن للمستخدم أن يتفاعل باللمس ويتخاطب معها، مثل الضغط على أحد الملفات بإصبع المستخدم وإعطاء أمر صوتيّ للجهاز هو «احذف» أو «انسخ إلى الهاتف الجوّال الخاصّ بي». ونظرا لأنّ الإنسان يقدّم سيلا من الإيماءات المختلفة أثناء التخاطب مع غيره، مثل تحريك العيون والحواجب والأيدي والأرجل، فإنّ تكامل هذه الحركات في التقنيات المقبلة سيجعل من عمليّة التفاعل مع الأجهزة أمرا أكثر واقعيّة وسهولة من السابق.

وكمثال على ذلك، فإنّه يمكن للمستخدم «الإمساك» بملف ما من على شاشة كومبيوتره و«رميه» نحو الجدار، لتعمل الكاميرات وتعرضه هناك. ويمكن بعد ذلك لمجموعة من المستخدمين التفاعل مع الملف (مثل إجراء تغييرات في شكل تصميم مبنى ما أو تعديل الحسابات أو حتى تفعيل خصائص لعناصر من النظام)، ومن ثمّ «سحب» الملف نحو هاتف أو كومبيوتر جوّال لحفظه هناك وإرساله عبر الشبكات اللاسلكيّة إلى جهة مختصّة (مثل الإدارة أو العميل) لمعاينة التعديلات.

* مشاكل وتحديات

* ونظرا لأنّ معظم تقنيات اللمس الحاليّة تعتمد على لمس المستخدم للسطح من الأمام، فإنّ هذه العمليّة تعيق رؤيته للمنطقة التي يلمسها، الأمر الذي قد يؤدي إلى ملامسة المستخدم لمنطقة مجاورة عن طريق الخطأ. ولكن يمكن تجاوز هذه المشكلة باستخدام طرق إبداعيّة مختلفة، مثل تعاون شركات «مايكروسوفت» و«ميرل» لتطوير نظام أوّليّ محمول اسمه «اللمس الواضح» LucidTouch يحتوي على شاشة شبه شفافة تسمح للمستخدم بالتفاعل مع الجهاز باللمس من الأمام أو الخلف، وعرض صورة ليد المستخدم أثناء تحريكها من الخلف ليعلم المستخدم مكان يده. وتستطيع هذه التقنية التفاعل مع 10 أصابع في آن واحد، الامر الذي يفسح آفاقا كبيرة أمام هذه التقنية. ولن تعيق أصابع المستخدم رؤيته للشاشة، وسيضغط على الأماكن الصحيحة في كلّ مرّة يستخدم فيها هذه التقنية، وخصوصا عند الحاجة إلى استخدام أكثر من اصبع في وقت واحد، أو في حال استخدام شاشة صغيرة (وبالتالي الضغط على مساحات صغيرة، مثل الأحرف او الأرقام). ومن المتوقع أن تُطرح تطبيقات مثيرة في عالم الفنون والأعمال وحتى الألعاب الإلكترونيّة، تستفيد من خصائص هذه التقنيات بطرق مختلفة. ويمكن اعتبار أنّ هذه التقنية هي امتداد لتقنيات اللمس وإدراك إيماءات الأصابع، حيث انها تستطيع التعرّف على حركة الأصابع وتحديد مواقعها وتحليلها وفهمها بسرعة، مثل فهم أنّ تحريك اصبع واحد على الشاشة يعني تحريك المؤشر، وملامسة الشاشة بإصبع تعني النقر، وملامسة وتحريك اصبعين في آن واحد تعني النزول أو الصعود أو تحريك ما يُعرض على الشاشة إلى اليمين أو اليسار.

وكما أنّ التحدي الاكبر في جميع التقنيات هو الكلفة الماديّة، فإنّ هذا العامل حدّ من انتشار تقنيات اللمس بشكل كبير، إلى وقت قريب. أمّا الآن، فإنّ تكاليف صناعة هذه التقنيات انخفضت بشكل ملحوظ، نظرا لأنّ الذاكرة والمعالجات السريعة المطلوبة لتحليل الكمّ الهائل من المعلومات أصبحت بمتناول الجميع، بالإضافة إلى انخفاض كلفة صناعة الكاميرات وأجهزة العرض والشاشات، وتصغير أحجام هذه المكوّنات التقنية بشكل كبير. وتجدر الإشارة إلى أنّ شركة «مايكروسوفت» تسوّق لأسطحها التفاعليّة التي يبلغ قطر شاشاتها 30 بوصة بشكل مكثّف، وتتوقع أن تدخل هذه الأجهزة إلى المنازل بأسعار تجاريّة خلال 3 إلى 5 سنوات المقبلة (الكلفة تراوحت بين 5 و10 آلاف دولار أميركيّ للجهاز الواحد عند بداية طرحه في الأسواق).

ويرى بيل غيتس، المدير التنفيذيّ لشركة «مايكروسوفت» بأنّ الوقت قد حان لتوديع لوحة المفاتيح والفأرة كوسيلة للتفاعل مع الكومبيوترات، ذلك أنّ المستقبل القريب يقدّم للمستخدمين أجهزة تتفاعل باللمس والأوامر الصوتيّة، مثل الهواتف الجوّالة وكومبيوترات الأسطح والتلفزيونات والأجهزة الإلكترونيّة الموجودة في السيّارات والمطاعم والفنادق وغيرها. هذا وتنوي الشركة تطوير أجهزة تحتوي على كاميرات وأجهزة خاصّة تُصوّر المحيط وتتعرّف عليه. والمثير في جميع التقنيات المذكورة هو أنّها تسمح للمستخدم بالتفاعل مع الآلات وكأنّه يتفاعل مع أجسام في العالم الحقيقيّ، وهي تسهل على المستخدمين التفاعل، نظرا لأنّهم ليسوا مضطرين إلى تذكر الأوامر التقنيّة اللازمة لأداء العمل المطلوب. ومثلما استطاعت تقنيات النوافذ والأيقونات والقوائم استبدال طرق التفاعل القديمة التي كانت تعتمد على إدخال أوامر تقنية معقدة في شاشة سوداء Command Line، فإنّ التقنيات المقبلة ستسهل على المستخدمين التعامل مع الأجهزة الإلكترونيّة بشكل كبير جدّا، ليُصبح التفاعل باستخدام الفأرة ولوحة المفاتيح أمرا شبه مستحيل لمن اعتاد على تلك التقنيات الحديثة.