علماء الوراثة يتقفون آثار هجرة الإنسان الأول

سلسلة أخطاء في الحامض النووي تحدد أنساب الشعوب وسلالاتها وجينات الأجناس تغير سماتها وفق الظروف

TT

يتيح علم الوراثة الحديث للعلماء التعرف على مسار رحلات الإنسان الأول، منذ ايام تنقله من مسقط رأسه في شمال شرق أفريقيا وانتشاره حول العالم. وتظهر المزيد من تفاصيل الابحاث عن هذه الرحلات كل سنة، ويعرض الكثير منها في مؤتمر سنوي لعلماء الوراثة والآثار في مختبر كولد سبرنغز هاربور في نيويورك.

يمكن لعلماء الوراثة أن يتقفوا حركات الهجرة هذه، بفضل وجود سلسلة من الأخطاء في الحامض النووي «دي ان ايه»، التي تتراكم في مناطق معينة داخل الحامض، اذ وبعد أن تنفصل مجموعات لشعب فان اولئك الذين يرحلون شرقا سيتجمعون في مجموعة لها سمات مختلفة من الأخطاء (في الحامض النووي) من اولئك الذين رحلوا غربا.

* أنساب الإنسان

* ويمكن لعلماء الوراثة أن يرسموا شجرة العائلة لأنساب مختلفة ضمن نسب الإنسان كله، وفقا لأنماط الأخطاء المختلفة، بل وحتى يمكنهم أن يحددوا تواريخ تقديرية تبين نقطة الانفصال. وفي مؤتمر هذه السنة بين الدكتور بيتر أندرهيل من جامعة ستانفورد كيف يمكن للعلماء أن يصلوا بين المعلومات المتوافرة في الأرشيف الوراثي، مع أحداث تاريخية. وكانت دولة الأناضول وهو اسم تركيا القديم ممرا للجيوش والشعوب المتنقلة بين أوروبا وآسيا. وكان الدكتور أندرهيل والذي أعاد تركيب شجرة الكروموزوم «واي» Y يحلل نسب هذا الكروموزوم المختلفة في سكان تركيا، واكتشف نسبا واحدا قد يكون أسلافه الذين نقلوا الثورة الزراعية من الأناضول إلى أوروبا خلال العصر الحجري الحديث قبل حوالي 3 إلى 8 آلاف سنة. ويقول إن الأنساب الأناضولية الأخرى قد تكون ناتجة عن الحضارة الحتية في العصر البرونزي.

ومن الغريب أن الأتراك السلجوقيين والذين انتزعوا الأناضول من يد البيزنطيين في القرن الحادي عشر لم يتركوا إلا أثرا وراثيا طفيفا. ومع أن هؤلاء الغزاة فرضوا لغتهم وحضارتهم على منطقة شاسعة فلا يمكن لجيش مكون من 40 ألف فرد أن يحدث فرقا وراثيا كبيرا على شعب وصل عدده لأثني عشر مليون نسمة في عصر الرومان.

وكما يتقفى الكروموزوم Y حركات الرجال، يقوم عنصر آخر هو الحامض النووي «دي ان ايه» للمتقدرات mitochondrial DNA يورث من خلال بويضة النساء فقط، بتقفي أثر رحلات النساء. وقام الدكتور دوغلاس والاس من جامعة كاليفورنيا بتحديد وتسمية أنساب هذا العنصر. ولم يعثر الا على ثلاثة خطوط للأنساب A وC وD من العشرين نسبا، في شمال سيبيريا. ونظرا لكون سيبيريا سهلا شاسعا دون عوائق إلا البرد القارص، تساءل الدكتور والاس لماذا لم تصل بقية الأنساب الى هذه الاصقاع في الشمال الشرقي من الكرة الارضية.

ويعتقد الباحث الآن أن الثلاثة أنساب هذه تحمل جينا معدلا للطاقة يزيد مقاومة الجسد للبرد. وهذا يفسر لماذا وجدت هذه الأنساب الثلاثة لدى سكان اميركا القدماء الاصليين، لان أسلافهم المتأقلمين للحياة في شمال سيبيريا اكتشفوا جسرا بريا عبر منطقة بيرنغ نحو الاسكا قبل أن تغمره المياه في نهاية العصر الثلجي الأخير.

* الهجرة من أفريقيا

* وتفترض معظم الأدلة المتوفرة وجود حركة هجرة واحدة للإنسان الحديث من أفريقيا، إذ رحلت مجموعة صغيرة قبل حوالي 40 أو 50 ألف سنة، وسكنت آسيا أولا ثم أوروبا. ولكن يعتقد بعض علماء الوراثة أنه كانت هناك هجرات قبل ذلك لأناس رحلوا بالقوارب على طول السواحل لآسيا الجنوبية ووصلوا أستراليا. وسكان أستراليا وبابوا غينيا الجديدة الاصليون داكنو البشرة ويختلفون قليلا عن معظم الآسيويين والأوربيين الآخرين.

ولفحص فكرة طريق سفر جنوبية، قام الدكتور جيمس ويلسون من جامعة لندن بمقارنة الحامض النووي لقبائل السكان الأصليين الناطقين بلغة الدرافيديان في جنوب الهند مع سكان الجبال في بابوا غينيا، ليرى إن كان الشعبان من نفس الأصل. وبين أول عامل مورث درسه أن هناك قرابة، ولكن بعد دراسات أكثر تبين أنه لا توجد أية قرابة بينهم.

ومع أن الانتقاء الطبيعي هو الدافع المعروف للتطور فان التنقل يعتبر جزءا مهما في الشعوب القليلة العدد مثل تلك الشعوب الاولى التي رحلت من أفريقيا. وللآن يصعب تحديد الجينات التي شكلها الانتقاء، إذ ان معظم الأمثلة المعروفة المدروسة هي أشكال من الجينات التي تتصف بسمات مقاومة للملاريا. وباستخدام فحوص جديدة يكتشف العلماء عددا من الجينات التي تغيرت تحت الضغط الانتقائي، مما يفترض أن الانتقال لم يكن العامل الوحيد الذي شكل طبيعة السكان الأوائل.

* رصد الجينات

* ووصف الدكتور ديفيد رايخ من معهد وايتهيد في ماستشوستس طريقة مبتكرة للتعرف على الجينات المتغيرة وذلك بفحص الحامض النووي غير المتغير والذي يحمله التغير الحميد معه بين الأجيال. كما وصف الدكتور مارك ستونكنج من معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري في ألمانيا، طريقة أخرى. وتقوم طريقته على مبدأ أن الجينات المتغيرة بين الأجناس تعرضت للضغط الانتقائي نظرا للنظم الغذائية المختلفة والطفيليات والأمراض والمناخ الذي يواجهه كل جنس.

وبواسطة هذه الطريقة وجد الدكتور ستونكنج جينا له ثلاثة أشكال متغيرة: أحدها مهيمن لدى الأوروبيين وآخر لدى الأفارقة والثالث لدى الآسيويين. وهذا الجين المعروف باسم «ف13ب» يكون جزءا من العامل XIII في البروتينيات المخثرة للدم. ولا يعرف لماذا يمتلك هذا الجين ثلاثة أشكال مختلفة في الأجناس الرئيسية الثلاثة بالعالم.

وناقش الدكتور بنجامين سالزبري طريقة أخرى أصبحت ممكنة بفضل برنامج تسلسل الحامض النووي. ودرس الجينات التي تظهر أشكالها بدرجات متفاوتة لدى الأجناس، بتحليله لحوالي أربعة آلاف جين لدى ممثلين من 82 شعبا. ويقول الدكتور سالزبري انه وجد الكثير من هذه الجينات بما فيها تلك التي لا توجد لدى الأفارقة والأوروبيين، ولكنها توجد بنسبة 88 بالمائة في الآسيويين. ولم يفصح عن الجين لأسباب تجارية.

وتعتبر الجينات التي تخضع لضغط انتقائي كثير مثيرة للاهتمام لأن تلك التي تنتقى لمقاومة المرض قد تحدد أهدافا جديدة لتطوير الأدوية. وقد تبين جينات منتقاة أخرى ماهية الإنسان. واكتشف علماء الوراثة واللغويون السنة الماضية جينا بشريا يعرف باسم FOXP2 والذي يختلف في مكانين رئيسيين من الجين المقابل له لدى الشمبانزي. ويبدو أن هذا الجين يدعم النطق في اللغات المنطوقة بسرعة ولذلك فهو مهم جدا لأنه يوجد بشكل واحد فقط لدى كل البشر. وظهر هذا المورث لأن عددا من أعضاء عائلة بريطانية كبيرة يحملون شكلا معطلا من هذا المورث يواجهون صعوبات في النطق.

ويدعم اكتشاف هذا المورث والذي يبدو انه ظهر خلال آخر مائة ألف عام، فكرة الدكتور ريتشارد كلين وهو عالم آثار في جامعة ستانفورد، لاحظ الظهور المفاجئ في سجلات أثرية تعود لحوالي خمسين ألف سنة، لنشاطات حضارية مثل الفن والتجارة البعيدة المسافة والأدوات الدقيقة.

وظهر الإنسان الحديث قبل حوالي 130 ألف عام. ولا يبدو الإنسان الذي عاش قبل 50 ألف عام مختلفا كثيرا عن سابقه. ولذلك يعتقد الدكتور كلاين أن بعض التغيرات العصبية والادراكية مثل تطور اللغة حصلت في أفريقيا آنذاك وقبل الهجرة نحو بقية العالم. وهو يلاحظ أن علماء الآثار يفضلون دراسة الحضارة وليس الجينات، لتعليل نتائجهم. ولا يمكن التحديد بشكل دقيق متى ظهر المورث FOXP2 لأنه عام جدا. ولكن إذا وجدت جينات لغوية أخرى فقد تفيد كثيرا في تحديد زمن ظهور اللغة.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»