«مجموعة خفية» في البنتاغون تقف وراء أحدث الابتكارات الثورية في العالم

اختراع الإنترنت وتقنيات التخفي أعظم منجزات وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة

TT

* برامج ابحاث بـ2.7 مليار دولار بينها بناء وصلة لنقل أفكار الجنود وتجسيدها في أفعال تنفذها الآلة وبرامج لتطويرات في الكومبيوتر وأسلحة فضاء ووسائل مكافحة الإرهاب وطائرات آلية ونظم الدفاع البيولوجي

* أساليب العمل الجذرية أهم سمات الوكالة، وأذكى العقول فيها «تداعب حافات الفشل لانتهاز فرصة الوصول إلى القمة»

* مشاريع خيالية لم يكتب لها النجاح مثل برنامج للجواسيس القادرين على التخاطر الذهني، وتطوير فيلة روبوتية، وآخرها نظام انترنتي لاسواق الاسهم يمكنه التنبؤ بالاغتيالات والتفجيرات المحتملة واجتذاب المستثمرين للمضاربة

خلال نصف القرن الماضي كانت مجموعة غامضة من البنتاغون (وزارة الدفاع الاميركية) تعرف باسم وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة (داربا) DARPA وراء بعض أكثر الابتكارات ثورية في العالم، مثل الإنترنت ونظام التحديد الشامل للمواقع الجغرافية وتقنيات التخفي وفأرة الكومبيوتر.

ويعتبر هذا سجل نجاح مثير للعجب، يناقضه فقط أن هذه الوكالة أنتجت بعض أسخف الأفكار التي جاءت بها الحكومة. وخلال السنوات التي مضت تم إنفاق ملايين الدولارات من أموال دافعي الضرائب، على شتى المشاريع مثل برامج للجواسيس القادرين على التخاطر الذهني، وفيلة غابات روبوتية، ونظام «فيوتشر ماب» FutureMAP وهو نظام انترنتي لاسواق الاسهم يمكنه التنبؤ بالاغتيالات والتفجيرات المحتملة واجتذاب المستثمرين للمضاربة بالأسهم!

* أفكار خلاقة

* ولا يعتبر هذا الانتقاد غريبا على «داربا». ويقول مدير الوكالة السابق تشارلز هيرفيلد انه عندما تفشل الوكالة في شيء فهي تفشل بشكل ذريع. ولكن هذه هي حياة من يعيش على حافة التكنولوجيا. وقد ابتعدت «داربا» عن الأساليب التقليدية وتبنت النظرة الجذرية كعقيدة لها، وهي تبحث عن الأفكار الخيالية والمثيرة، ثم تتخلص من القيود البيروقراطية لكي تتقدم بها. ولكونها مؤسسة عسكرية تعنى بمهمة تطوير البحوث المتقدمة، فقد طلبت من أذكى العقول أن «تداعب حافات الفشل من أجل انتهاز فرصة الوصول الى القمة».

وعزى مايكل ديرتوزوس المدير السابق والمتوفى، لكلية علوم الكومبيوتر في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا نصف الابتكارات الرئيسية في الكومبيوتر بما فيها إنجازات في الدوائر الدقيقة وأنظمة إدارة المعلومات، الى الوكالة. ولكن ثمن النجاح كان سجلا مذهلا من السخافة العلمية. والآن وفي عصر ازدياد خطر الإرهاب العشوائي، أصبح بعض مؤيديها المخلصين يشعرون بالخوف حول بعض المشاريع مثل «فيوتشر ماب». وصرح البعض أن هذا المشروع مشؤوم بالفعل وأن أهداف «داربا» أصبحت شيئا يختلف معه العديد من الأميركيين. وأنشئت الوكالة في شهر فبراير (شباط) في عام 1958 بعد أربعة أشهر من إطلاق القمر الصناعي الروسي «سبوتنيك»، الذي أخاف أميركا من التخلف علميا.

وكان سبب إنشائها، جعل البحث الأساسي عنصرا رئيسا في الأمن القومي. وتم تعيين روي جونسون أول مدير لها. ووجه جونسون الوكالة للبحث عن خبراء في الفيزياء وتكنولوجيا المعلومات وعلم المواد وغيره من المجالات، ثم أغرقهم بالتمويل والحرية. ومبدئيا ركزت الوكالة على علم الصواريخ واستكشاف الفضاء والدفاع من الصواريخ، واكتشاف التجارب النووية. وثم وسعت الوكالة نطاقها.

واعتمدت «داربا» على موظفي البرامج الذين تم اختيارهم من المجالات الصناعية والأكاديمية، وقاموا باختيار المشاريع وفقا لإحساسهم بالمستقبل. وكان ليكلايدر وهو مهندس صوت وخبير كومبيوتر سابق، أحد المديرين الأسطوريين. الذي قام مدير الوكالة في حينه عام 1962 بتوظيفه، بعد قراءة مقالته بعنوان «تكافل الإنسان والكومبيوتر». وكانت المقالة رؤية ذات بصيرة حول التفاعل الواقعي للكومبيوتر.

وكان ليكلايدر يكره البيروقراطية وقام بتحرير علمائه ليتحركوا بأسرع ما يمكن في التقدم بحلمه، وهو «الشبكة الكونية». وهذه الفكرة الجنونية كانت ستصبح الإنترنت بعد سنوات من التمويل من «داربا».

وكانت الوكالة تباشر بالمشاريع وفقا لحاجة الدولة وليس القوات العسكرية فقط. ومن تكنولوجيات الوكالة الدوائر المدمجة الضخمة المقياس، وبرامج التصميم الصوري، التي صممت أصلا لإدارة أدوات التحكم التي يتوجب على طياري الطائرات النفاثة الحديثة أن يتعاملوا معها، بعد اتخاذ قرار خلال زمن لا يتعدى جزءا من الثانية.

* مشاريع جديدة

* ولكن العمل ساعد على توليد نشاط مجال الكومبيوتر نحو الاطراف، حيث تشكلت شركات مثل «سيليكون غرافيكس» و«صن مايكروسيستمز». وهذه السنة ستنفق برامج الوكالة المائة والستون حوالي 2.7 مليار دولار على أكثر من مائتي مشروع في الكومبيوتر وأسلحة الفضاء ومكافحة الإرهاب والطائرات الآلية والدفاع البيولوجي بالإضافة للبرامج السرية.

وتقوم «داربا» بتحريك الباحثين في البرامج بعد فترة أربع سنوات، لتشجيع التفكير، حيث أن الشخص يكون مستعدا على الدخول في مخاطرات في مكان لن يعمل فيه لمدة طويلة. وأحد المشاريع بقيمة 12 مليون دولار، هو بناء وصلة بين الدماغ والآلة، حيث تحول أفكار الجنود لأفعال تقوم بها الآلة. وللآن استطاعت «داربا» أن تجعل قردا يحرك ذراعا آلية بمجرد التفكير. وتشجع الوكالة أيضا سباق الروبوتات من لوس أنجليس إلى لاس فيغاس لتشجيع البحوث الروبوتية. وأول آلية برية دون سائق مستقلة تستطيع أن تقطع مسافة الثلاثمائة ميل عبر الصحراء، ستفوز بجائزة مليون دولار.

ولكن فشل «داربا» كان باهظ الثمن إذ تفشل ما بين 85 و90 بالمائة من مشاريعها مع أنها أحيانا تولد تكنولوجيا بالصدفة. وخلال السبعينات درست الوكالة التخاطر الذهني وتحريك الأجسام بقوة العقل. ودرست هذه الأساليب لترى إن كان هناك شخص يستطيع أن يستطلع حول العالم بحثا عن ثغرات عسكرية. ولكن الوكالة أدركت أنه لا يمكن الاستعانة بعلم النفس التخاطري عند الطلب، وبالتالي شطبت المشروع.

ومن أشهر المشاريع الفاشلة كان البرنامج الذي دام عقدا والمسمى «أجايل» والذي أنفق فيه 264 مليون دولار على نطاق واسع من البحث العلمي والاجتماعي والأنثروبولوجي خلال حرب فيتنام. وحاول أحد المشاريع أن يصنع فيلا آليا يتحرك على أرجل آلية ويستطيع التحرك في الأدغال الكثيفة. ولما اكتشف مدير «داربا» آنذاك ماهية المشروع شطبه بسرعة لسخافته.

واليوم تشرع الوكالة في تحول جديد باحثة عن أدوات جديدة لمكافحة الإرهابيين والذين يصعب تمييزهم عن المدنيين العاديين. وفي هذه المعركة تصبح المعلومات أقوى سلاح، إذ يجب تجميعها بكميات هائلة عن البريء والمذنب على حد سواء.

ومن برامجها الرائدة ما يسمى بـ«الوعي التام بالمعلومات» والذي أداره الأدميرال المتقاعد جون بويندكستر مستشار الأمن القومي السابق للرئيس الاسبق ريغان. ويسعى نظام الوعي التام بالمعلومات للكشف عن الإرهابيين بوصل «النقاط» في المعلومات الإلكترونية مثل رخصة القيادة وشراء تذاكر السفر والكيميائيات وتقارير المخابرات والسجلات العامة. ويبحث النظام عن أنماط للنشاط الإرهابي في سجلات المواطنين الأجانب والأميركيين على حد سواء.

وغضب مؤيدو الخصوصية عندما سمعوا عن المشروع ضاغطين على الكونغرس لتقييد نطاقه. وأدى البحث عن المزيد من المعلومات والجودة الأحسن، لولادة مشروع فيوتشر ماب. واشتمل هذا المشروع على نظام متاجرة مثل تلك المستخدمة في التخمين على ثمن السلع مثل اللحوم أو البترول أو المراهنة على احتمال عمليات إرهابية أو اغتيالات. وكان ملك الأردن هدفا نظريا (للاغتيال) على موقع «داربا» في الإنترنت.

وبينما صرح بعض خبراء المال أنه قد يكون للنظام قيمة تنبؤية فان مشاكل «فيوتشر ماب» فاقت محاسنه، إذ يمكن للإرهابيين أن يخربوا النظام بالمراهنة على خداع، أو لدى تنفيذ عمليات مخططة، وإغناء أنفسهم. والآن يتخوف مدير «داربا» من ان يضغط الكونغرس للحصول على سيطرة أكثر على الوكالة، وهي الحركة التي ستقتل روحها الإبداعية.

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»