تجربة كونية أميركية لاختبار صحة نظرية أنشتاين النسبية

تحديد دقة إنحراف شعاع الضوء لدى مروره قرب الشمس سيقرر مصير نظريات الفيزياء المعاصرة

TT

يزمع علماء اميركيون اجراء تجربة كونية، بمساعدة قمرين صناعيين صغيرين ومحطة الفضاء الدولية، لإثبات نظرية النسبية لالبرت أنشتاين او دحضها! ويقول علماء الفيزياء انه عاجلا ام آجلا سيأتي اليوم الذي سيزاح فيه أنشتاين عن عرش النظريات الفيزيائية كما ازيح اسحق نيوتن من قبله، بعد ان تلبد افق علم الفيزياء بملامح مخاض جديد تتنافس فيه عدة نظريات تحاول تبوء المكانة الاولى.

وهنا في عالم الفيزياء تطرح نظريات محيرة، منها ان الكون يمتد في 11 بعدا ! ونظرية اخرى عن «الثوابت» الفيزيائية (مثل ثابت الجاذبية) التي تتغير في المكان والزمن، الا انها تظل مضبوطة فعلا في قيمتها، في البعد الخامس فقط! وعن الخيوط او «الأوتار» التي تشد الكون والطبيعة، وعن نسيج المكان والزمن الذي لا يبدو ناعما ومتواصلا، كما تخيله وآمن به انشتاين، بل هو في الحقيقة مقسم الى جسيمات متناهية في الصغر لا تنقسم! وسوف تثبت الاختبارات أيا من هذه النظريات أجدر بالثقة من سواها. وقد طور علماء مختبر الدفع النفاث التابع لوكالة الطيران والفضاء الاميركية (ناسا) في باسادينا تجربة لاختبار أدق لتنبؤات النظرية النسبية لأنشتاين. وسوف يوظفون كل الكون كمختبر عملاق لهذه التجربة الفريدة، وهم يطمحون بذلك الى الاقتراب خطوة اخرى نحو عتبة الثورة الجديدة في علم الفيزياء.

* انقسام علمي

* ورغم ان الانقسامات العلمية في معسكرات علماء الفيزياء غير بادية للعيان فانها في الحقيقة ساهمت في اعاقة فهم العلماء المتعمق للكون. ويعتمد العلماء حاليا نظريتين لتفسير طبيعة وسلوك الكون والزمن والمادة والطاقة: الأولى «نسبية انشتاين» (التي تفسر عالم الاجرام الكبيرة جدا) والثانية «النموذج القياسي» لميكانيك الكمّ (التي تفسر عالم الاجسام المتناهية في الصغر، عالم الذرة).

خذ نظم التحديد الشامل للمواقع في أي بقعة جغرافية مثلا، انها تعتمد على النظرية الاولى، ولولا تلك النظرية لما كان بالإمكان تنفيذها. اما الكومبيوترات والانترنت والاتصالات فكلها تعتمد على ميكانيك الكمّ.

الا ان هاتين النظريتين ليستا سوى لغتين مختلفتين، ولا يعرف أحد كيف يمكن الترجمة من احداها الى الاخرى، وبالعكس. مثلا النسبية تفسر لنا، بتوحيدها للمكان والزمن في اربعة أبعاد، الجاذبية والحركة في نسيج الكون الفعلي الذي يسمى المكان ـ زمان «او الزمكان»، وهو نسيج أعوج ملتو وملتف (مثل السُداة) بفعل الطاقة التي يحتويها (والكتلة هي احد اشكال الطاقة، ولذلك فانها تولد الجاذبية بلفّها للمكان ـ الزمان).

أما ميكانيك الكمّ فانها، من ناحية اخرى، تفترض ان المكان والزمان يشكلان «مسرحا» مسطحا غير قابل للتغير تظهر على سطحه سلالات من الجسيمات. وتتحرك هذه الجسيمات الى الامام او الى الخلف مع الزمن (وهو الشيء الذي لا تسمح به النظرية النسبية). كما ان التفاعل او التأثير المتبادل بين هذه الجسيمات يفسر القوى الاساسية للطبيعة... عدا قوة الجاذبية.

وقد ظلت المجابهة بين هاتين النظريتين محتدمة على مدى عقود من السنين، وافترض الكثير من العلماء ان العلم سيتوصل بشكل ما الى نظرية موحدة لفهم الواقع. وان تم التوصل الى «نظرية لكل الاشياء» عندها يمكن فهم ميلاد الكون وتطوره ومستقبله.

* تجربة ليزرية

* ولذلك فكر سلافا توريشيف الباحث في مختبر الدفع النفاث وفريقه بتوظيف محطة الفضاء الدولية وقمرين صناعيين صغيرين يدوران حول الجانب الأبعد من الشمس لاختبار النظرية النسبية بدقة لم يسبق لها مثيل. وتعتبر طريقته حساسة جدا بحيث يمكنها الكشف عن عيوب نظرية انشتاين، وبذلك يمكن للعلماء تحديد النظرية الحقيقية التي تعبر اكثر من غيرها عن الواقع.

واطلق على التجربة اسم «اختبار النسبية بالقياس الفلكي الليزري» Laser Astrometric Test Of Relativity (LATOR). وستحدد كيف يمكن للشمس ان تجعل شعاعا من الليزر يطلق من قمر صناعي صغير، يحيد عن مساره. وتقود الجاذبية الى اعوجاج في مسار الضوء لأنها تلف المكان الذي يمر عبره الضوء. ولفهم ظاهرة التفاف المكان ـ الزمان بسبب الجاذبية، يمكننا تصور المكان وكأنه سطح مستو من المطاط يتمدد تحت ثقل جسم مثل الشمس. وهذا المنخفض المتشكل في السطح سيقود الى حيود مسار أي شيء (حتى ولم يكن يمتلك كتلة مثل الضوء) يمر بالقرب من الشمس.

وفي الحقيقة فان قياس حيود الضوء الصادر عن النجوم بسبب الشمس، الذي نفذه السير أرثر إدنغتون خلال الكسوف الشمسي عام 1919، كان اول اختبار لنظرية النسبية العامة لأنشتاين. وفي المقاييس الكونية تعتبر جاذبية الشمس ضئيلة، اذ ان مسار الضوء العابر قرب حافة الشمس سيحيد في حدود زاوية قدرها 1.75 أركثانية (أركثانية تساوي 1 من 3600 من الدرجة). وفي حدود قياساته اظهر إدنغتون ان ضياء النجمة انحرف بمثل هذه الزاوية.

وأدى ذلك الاكتشاف الى قلب عرش اسحق نيوتن والفيزياء الكلاسيكية! وفي تجربة «لاتور» LATOR المقبلة سيقيس العلماء انحرافا اقل بمليار مرة من الانحراف الذي سجله إدنغتون, واقل بـ 30 الف مرة من الرقم القياسي الحالي الذي تم عندما التقط العلماء اشارات ارسلتها السفينة الفضائية «كاسيني» اثناء رحلتها نحو كوكب زحل.

ونقل موقع «ناسا» العلمي الانترنتي عن كليفورد ويل، البروفسيور في الفيزياء بجامعة واشنطن، ان «التجربة ستمثل تقدما مهما في الفيزياء الاساسية.. اذ ينبغي اجراء اختبارات أدق للنظرية النسبية، لأن ادنى تغير او حيود عن هذه النظرية يعني ان هناك فيزياء جديدة لا نزال لا نعرفها»!

* مختبر كوني

* وسوف تنفذ التجربة بواسطة قمرين عرض كل منهما يبلغ نحو متر واحد سيطلقان للدوران حول الشمس في مدار يبعد نفس المسافة التي تبعد بها الارض عن الشمس تقريبا. الا ان القمرين سيدوران بسرعة تقل عن سرعة دوران الارض حول الشمس، وبذلك سيكونان بعد 17 شهرا من اطلاقهما متقابلين مع الارض، أي عند الطرف الآخر من الشمس. ورغم ان المسافة التي تفصل بين كل قمر وآخر تبلغ 5 ملايين كلم فان الزاوية بينهما تظهر من الارض صغيرة لا تزيد عن درجة واحدة. وسيشكل القمران مع الارض مثلثا تنطلق حزم لأشعة الليزر على طول اضلاعه. وسوف تمر احدى حزم اشعة الليزر قرب الشمس.

وتهدف طريقة توريشيف الى قياس الزاوية بين القمرين بالاعتماد على جهاز لقياس تداخل الموجات يركب على متن محطة الفضاء الدولية. ويقوم مقياس التداخل بالتقاط حزم الاشعة من القمرين ودراسة تداخلهما، وهو يستطيع تحديد الزاوية بين القمرين اللذين يرسلان الحزمتين بدقة تصل الى جزء من 10 مليارات جزء من الأركثانية ( او 0.01 ميكروأركثانية). وبذلك يمكن قياس تأثير جاذبية الشمس على شعاع الليزر المار قربها بدقة متناهية. ويشير توريشيف الى ان توظيف محطة الفضاء الدولية يوفر عدة مزايا، منها انها تحلق في الفضاء ولذلك تقلل من التشوهات الناجمة عن الغلاف الجوي، اضافة الى سعة حجم المحطة الذي يتيح وضع عدسات اجهزة القياس في موقعين متباعدين لزيادة دقة القياس. ويعتقد ان توفر التقنيات والمعدات سيتيح تنفيذ التجربة خلال الاعوام الخمسة المقبلة.