«الشرق الأوسط» تزور مناطق الإيدز في قلب أفريقيا.. وأوغندا تقود الكفاح ضد الفيروس أفريقياً وعالمياً

باحثون وعلماء قرروا تقديم خدمة للبشرية فتأسس «معهد الأمراض السارية» في كمبالا القلعة الأولى لمكافحة الوباء

TT

الايدز، كما يقول الخبراء، هو لعنة العصر. إنه أحد الامراض القليلة التي لم يجد له له الاطباء حتى الان علاجا. وهو ايضا مرض ما زال يحير العديدين رغم النجاحات المحدودة في فتح مغاليقه والتعرف على أسراره. بعضهم أصابه فيروس «إتش آي في» ولم يصب بالمرض طيلة حياته، والبعض الاخر أصابه الفيروس فظهر عليه المرض في فترات لاحقة، والبعض الثالث أصابه الفيروس فتفشى المرض فورا. وهو في كل الحالات فيروس ينتقل من شخص الى آخر عن طريق الدم والسوائل المخاطية والعلاقات الجنسية على انواعها.

«الشرق الاوسط» زارت مناطق الايدز في شرق أفريقيا، في اوغندا بالذات، التي تتزعم العالم في التصدي له، بدعوة من شركة «فايزر» كبرى شركات الادوية، التي تتبنى بدورها برنامجا واسعا من المساعدات المادية للمصابين وتأمين الادوية والعقاقير اللازمة لهم، وتدريب الاخصائيين على العناية بهم ومواساة أهاليهم وعائلاتهم. الايدز بات مشكلة عالمية لم تعد تنجو منه منطقة أو بلد، إذ تشير آخر التقديرات الى ان نحو 35 الى 45 مليون إنسان مصابون بالمرض أو بالفيروس المسبب له على نطاق العالم كله، أكثر من 70 في المائة منهم، اي نحو 29 مليونا يعيشون في مناطق جنوب شبه الصحراء الافريقية الكبرى. لكن البعض يشكك حتى في هذه الارقام لعدم توفر إحصاءات دقيقة. لكن الطامة الكبرى ليست في عدد المصابين وحجم الارقام بل لكونه يأخذ في البلاد الفقيرة التي يقل فيها الوعي الصحي والثقافي والاجتماعي منحى خطيرا يؤثر بشكل سلبي في النسيج الاجتماعي والبناء الاسري والتركيب الاقتصادي فضلا عن اللحمة الوطنية. فعندما تفقد الاسرة معيلها الوحيد يعني ذلك تشرد بقية أفراد الاسرة لانقطاع مورد رزقها لتصبح بعد ذلك عالة على الدولة. ثم إن إصابة البالغ بالمرض يعني إقعاده جزئيا أو كليا عن العمل مما يؤثر على قوى الدولة العاملة وإنتاجها القومي.

في الواقع يظهر المرض في أبشع صوره في منطقة شرق وجنوب أفريقيا حيث دور الايتام لرعاية الاطفال الذين فقدوا آبائهم وأمهاتهم وأحبائهم بالمرض المذكور، أو فقدوا أحد الابوين فقط فتزوج الآخر من زوج، أو زوجة ترفض رعاية أطفال الاخر من الشريك القديم مما يعني تشردهم في الشوارع وهيامهم على وجوههم مشكلين معضلة جديدة تضاف الى سلسلة المعضلات الاخرى التي يشكلها المرض بالنسبة الى السلطات الرسمية، وحتى دور الايتام ذات القدرات المحدودة. والملاحظ ان هذه المراكز تفتقر الى أبسط الاشياء الاساسية التي تؤمن أقل مستوى ممكن من العيش الكريم، فضلا عن أن عددها قليل جدا بالنسبة الى الطلب الكبير عليها والتي تحتاج دائما الى الدعم المالي المستمر. ولا يقف الامر عند هذا الحد. إذ تواجه السلطات الصحية يوميا سيلا متدفقا من المصابين الذين يشكل المرض لهم مشكلة من نوع آخر تماما. فإضافة الى خطورة المرض، فإن الاصابة به تعني الاصابة بشتى الامراض الاخرى بسبب تدني مناعة الجسم وإنعدامها تماما حال تفاقم الايدز واشتداد وطأته. إذ يختلط الحابل بالنابل عندما تبدأ الأمراض الاخرى مثل السل والتهاب السحايا الدماغية (مننجايتس) والفطريات الخطيرة، والتهاب الكبد الوبائي في غزو جسم ضحية الايدز مما يشوش على الاطباء المعالجين الذين يقفون عاجزين حائرين أمام أي نوع من الامراض التي ينبغي التصدي لها أولا وتجعلهم يتخبطون هنا وهناك على غير هدى وقد اختلطت الامور عليهم تماما.

وفي زيارة الى مستشفى مولاغو في العاصمة الاوغندية كمبالا وهو الاول في البلاد التابع لجامعة ماكاريري، والمستشفى الثاني المكتظ بالمرضى في منطقة جنجا الذي يستوعب 500 سرير، شاهدت «الشرق الاوسط» كيف أن عائلات برمتها تلتف على الارض حول سرير معيلها الوحيد المريض وهو يتلوى من الالم. ولدى سؤال المسؤولين هناك عن عدد المصابين بالايدز الذين يجري استقبالهم يوميا لعلاجهم في كل من المستشفيين تبين أنه يراوح بين 500 وألف مصاب.

* معهد الامراض السارية

* هناك برنامجان للعلاج واحد شبه مجاني تؤمنه الهيئات الطبية في البلاد والاخر مقدم من شركة فايزر. ويبدو أن مساهمة الاخيرة قد قلصت نسبة المرض في البلاد من 12.9 في المائة الى نحو 5 في المائة رغم عدم توفر إحصاءات دقيقة. وحيال هذا الوضع المأساوي افتتح قبل أسابيع في العاصمة الأوغندية كمبالا برعاية رئيس جمهوريتها يويري موسيفيني واحد من أكبر مراكز التدريب الخاصة بمكافحة فيروس الايدز «إتش أي في» المسبب لمرض الايدز. إذ سيقوم «معهد الامراض السارية»، الذي سيتبع مستشفى مولاغو، التابع بدوره لجامعة ماكريري، والذي مولت شركة فايزر 60 في المائة من تشييده بكلفة 14 مليون دولار سددتها كدفعة أولية بتدريب نحو 200 طبيب سنويا.

ومن شأن هؤلاء المتدربين تدريب عشرات الاطباء الاخرين في مختلف أنحاء القارة الافريقية التي تعاني من ندرة الموارد والذين بدورهم سيدربون غيرهم، وهكذا دواليك، مما يعني تجهيز الاف الاطباء والخبراء في السنوات المقبلة في محاولة جذرية للسيطرة على المرض على حد قول الدكتور هانك ماكنيل رئيس شركة فايزر.

وسيعالج المعهد ايضا نحو 300 من المصابين بالفيروس اللعين يوميا عن طريق أحدث العقاقير المضادة للفيروسات وكوكتيلاتها المختلفة التي خرجت بها شركات الادوية، وعلى رأسها شركة فايزر التي هي أكبرها على الاطلاق. كما سيجري علاوة على ذلك أبحاثا مكثفة في محاولة للعثور على علاج نهائي وحاسم للوباء الذي اتخذ في السنوات الاخيرة نمطا مختلفا.

والمعلوم أن هذه الشركة التي توظف نحو 120 الف موظف حول العالم، والتي يصل مدخولها السنوي (دورة رأس المال) الى نحو 50 مليار دولار، تنفق منها نحو تسعة مليارات على التطوير والابحاث. وللدلالة على أهمية مساهمة فايزر في الكفاح ضد الايدز وفيروسه يكفي أن نقول إنها اشتهرت في تطويرها عقار الـ«فياغرا» لعلاج الضعف الجنسي لدى الرجال الذي تجني منه سنويا ملياري دولار، كذلك دواء «زولفت» لعلاج الانهيار العصبي الذي تجني منه ثلاثة مليارات، و«نورفازيور أملور» لعلاج ضغط الدم العالي الذي تجني منه 4 مليارات دولار، وليبتور (اسمه العلمي «أتروفاستاتن») لعلاج الكوليسترول العالي في الدم الذي تجني منه عشرة مليارات فقط. من هنا قرر بعض مسؤوليها، مع بعض «الحالمين» الاخرين من الاساتذة الاطباء والباحثين البارزين في مأدبة عشاء متواضعة أن يفعلوا شيئا للبشرية حيال هذا المرض وفيروسه المستفحل في القارة السوداء وسائر أنحاء العالم، الى جانب توفير الادوية الغالية الثمن. فتقرر اختيار أوغندا لتكون نقطة الانطلاق في هذا الكفاح المرير عن طريق محاولة توفير الارصدة اللازمة بسخاء، والمساعدة في تشييد المراكز المتخصصة وعمليات تدريب الطواقم اللازمة والاشراف على أبحاثها المركزة.

ولكن لماذا أوغندا بالذات؟

يبدو ان أوغندا كانت السباقة الى الاعتراف بوجود هذا المرض والاعلان عنه والتوقف عن تجاهله وإنكار وجوده.

في هذا الصدد يقول الدكتور كاجاوا لورنس الجراح المستشار في وزارة الصحة الاوغندية والمدير التنفيذي لمجمع مستشفى مولاغو التابع لجامعة مكاريري الذي سيشرف على أعمال المعهد الجديد للامراض السارية لـ«الشرق الاوسط» معلقا: «إذا هاجمك عدو شرس مرة ومرتين وثلاثا، وكنت في كل مرة تخشى مواجهته وتولي هاربا، فما عليك في المرة الرابعة سوى أن تقف له وتجابهه وجها لوجه لأن الهرب المستمر سيزيد المشكلة تعقيدا ولن يحسمها. ثم هناك مشكلة المصارحة والاعلان عن عدد المصابين بالمرض وعدم إخفاء ذلك خجلا، كما تفعل بعض الدول، الذي يزيد من تفاقم المشكلة وأبعادها جميعها، لذا قررنا هنا في أوغندا ان نكون البادئين الى المجابهة والمصارحة بدلا من الانكار والفرار المستمرين».

وفعلا أثمرت عملية المجابهة هذه وأدت الى قيام تحالفات ومؤسسات مثل «أكاديميك اليانس فاونديشن» التي تأسست العام الماضي ومقرها العاصمة واشنطن التي أخذت على عاتقها التصدي للداء أفريقيا وعالميا.

وتتألف هذه المؤسسة من تحالف أو شراكة بين مجموعة عالمية من الاساتذة الجامعيين وهيئات وشركات كبيرة للادوية وغير الادوية كمؤسسة «بيل وميليندا غيتس» الخيرية مثلا لتوحيد الجهود في مكافحة الايدز وتحسين مستوى تدريب الاطباء والممرضين والممرضات وفنيي المختبرات وتشجيع الابحاث. وقد بادرت فايزر الى منح هذا التحالف هبات سخية لكي تنطلق في عملها. وكانت البداية التركيز على تعزيز جامعة مكاريري الشهيرة في كامبالا التي تعد واحدة من أفضل الجامعات في شرق افريقيا ومناطق جنوب الصحراء الكبرى لاسيما في ما يتعلق بالامراض الاستوائية والمستوطنة.

إضافة الى ذلك كله انضم شركاء آخرون الى جانب شركة فايزر الى لعبة مكافحة الايدز والتحصن ضده عن طريق الدعم المادي والفني والمعنوي وتأمين الرعاية الصحية ونشر التوعية الضرورية بين جميع طبقات الشعب، منها مؤسسة الزوجين غيتس و«أكاديميك اليانس فاونديشن» اللتان جئنا على ذكرهما قبل قليل، ومؤسسة «بانجيا»، و«غلوبال إيدز فاونديشن» التي هي عبارة عن شركة عالمية أخذت على عاتقها مهمة تشييد معهد الامراض السارية والاشراف عليه إداريا وماليا. ثم هناك جمعية الامراض السارية في الولايات المتحدة التي بادرت الى إطلاق برامج التدريب في المعهد الاوغندي الجديد للامراض السارية والتأكد من مستواه العلمي والطبي وعمليات التطبيب والمكافحة التي يقوم بها الاطباء الوافدين عليه، فضلا عن الاشراف على عمليات الابحاث التي ستجري بين جدرانه.

علاوة على ذلك فإن الخدمات المختبرية التي تجري فيه ستتم عن طريق الشراكة مع جامعة جونز هوبكنز في الولايات المتحدة، الى جانب جامعة مكاريري طبعا التابع لها.

* برنامج ديفلوكان

* ونظرا لكون الايدز واحدا من أكثر الامراض الخطيرة في عالمنا اليوم والذي له تأثيره الخطير على النسيج الاجتماعي للبلدان التي تشكو منه بكثرة بعدما تمكن من تحطيم عائلات بأكملها وحولها الى مجموعات من الايتام المشردين والعاطلين عن العمل مما أثر على الاقتصاد القومي وزعزع استقرارها السياسي وأخر نموها الطبيعي وقصر من أعمار أبنائها، فقد بادر يرنامج شراكة «دفلوكان» الذي أطلقته فايزر الى العمل على تحسين حياة ضحايا المرض وتوفير العقاقير والرعاية الصحية لهم ومواساتهم ومواساة عائلاتهم على نطاق العالم كله ولا سيما مناطق جنوب الصحراء الافريقية الكبرى التي تستحوذ على معظم جهود هذا البرنامج.

البرنامج يرمي في الدرجة الاولى الى تحسين حياة المرضى الذين لا تتوفر لهم سبل العلاج وتحسين حياتهم العامة. وهو في هذا النطاق استطاع ابتكار مجموعة (كوكتيل) من الادوية في أقراص بدلا من ان تكون على هيئة سائل يجري حقنه عبر الوريد الذي كان يشكل معضلة في السابق بالنسبة الى السكان المحليين، سواء على صعيد التوجه الى المراكز الطبية المختصة لتناول الحقنة، أو ضرورة تخزينه في البرادات والمجمدات خوفا من فساده. بيد أن الاقراص الجافة حلت المشكلة.

وراعى البرنامج بشكل خاص المرضى الذين لا يستطيعون معالجة أنفسهم من مرضين يصاحبان عادة الاصابة بالايدز، وهما التهاب السحايا من نوع «كريبتوكوكال مننجايتس» و«ايسو فاييغيل كانديوسيس» الذي هو نوع من الفطريات الخطيرة التي تؤدي الى الوفاة في نهاية المطاف.

وأضافت «فايزر» الى البرنامج عامل آخر مهم وهو تولي تدريب الطواقم الطبية المحلية على تشخيص هذين المرضين الخطيرين بمعزل عن الايدز المصاحب لهما، وبالتالي وصف العلاج المناسب لهما حسب ما تقتضيه الضرورة.

والمعلوم أن «فايزر» تبيع هذه العقاقير الخاصة بالايدز بما قيمته المليار دولار سنويا لكنها توفره مجانا الى أكثر من الف عيادة في أفريقيا والعالم الثالث.

بيد ان ما تشكو منه فايزر هو الفساد المتفشي في بعض الاقطار الافريقية. ففي أحدها قامت الشرطة بإغلاق 14 صيدلية لانها كانت تبيع في السوق السوداء أدوية مسروقة بأسعار خيالية لعلاج الايدز قدمتها «فايزر» في الاصل مجانا.

وأكد الدكتور هانك ماكنيل رئيس «فايزر» استعداد شركته للاستمرار في تقديم الدواء مجانا لمستحقيه من ضحايا الايدز أو فيروسه طوال ما هم قيد العلاج والحياة عبر برنامج «ديفلوكان»، والى الحكومات والمستشفيات والعيادات، من دون أي قيود، أو ثمن، أو حتى فترة محددة من الزمن.