نظم متطورة للتصوير الجوي والفضائي والمجهري تساعد على فهم الظواهر المحيطة بالإنسان

صور جوية لتغيرات الطقس لتأمين رحلات الطيران وتلسكوبات فضائية ومجاهر لدراسة الذرة

TT

ظهرت السماء صافية بشكل مخادع في يوم شتاء في شهر ديسمبر (كانون الاول) عام 1992 بينما كانت طائرة من نوع «دي.سي 8» تطير فوق جبال الروكي، عندما وقعت في منخفض جوي شديد مما أدى لفقدان الطائرة لمحرك، ولقطعة طولها 6 أمتار من الجناح، قبل ان يستطيع الطيار ان يهبط اضطراريا وبأمان. والسبب هو اضطراب جوي شديد وخفي. وهذا الاضطراب هو موجات هوائية شديد ومدمرة تحدث مرارا في الظروف الجوية الصافية مسببة الرعب في قلوب ركاب وأطقم الطائرات على حد سواء.

وما يزال سبب هذه الاضطرابات لغزا، ولكن العلماء في المركز الوطني للبحوث الجوية يبنون نماذج محاكاة على الكومبيوتر باستخدام أجهزة وبرامج معقدة ومتقدمة جدا، حتى يرسموا صورة مرئية لهذا الاضطراب الخفي ليستطيعوا فهم هذه الظاهرة. ويقول دون ميدلتون رئيس قسم التصوير والتكنولوجيا في المركز الوطني للبحوث الجوية: «علينا أولا فهم اضطرابات الجو الصافي من خلال الدراسة ثم محاكاته، ولربما بعد فترة من الزمن سنستطيع معرفة أين سيظهر وكيف نتنبأ به».

* محاكاة مرئية ويقوم الدكتور ميدلتون وزملاؤه باستخدام المحاكاة اضافة الى معلومات حقيقية لدراسة حرائق الغابات أيضا ولرسم صورة لقلب الإعصار أيضا، حتى يستطيعوا التنبؤ بمكان ضربة هذه العاصفة الجبارة، ومن ثم إنقاذ الأرواح وحماية الممتلكات.

ويقول ميدلتون: «نحن نحاول ان نرى ما لا يمكن رؤيته بشكل مباشر». ويعتبر رؤية مشكلة ما ولو من خلال عمليات المحاكاة مساعدة جمة في حلها. وكما يدرس العلماء هذه الظواهر ويتعلمون المزيد عنها، تزيد المعلومات التي يجمعونها من دقة نماذج المحاكاة.

وقد يكون رسم أشياء لا يستطيع المرء رؤيتها في العادة شيئا مستحيلا، ولكن هذا بالفعل ما قام به ميدلتون مع 400 من زملائه العلماء من أنحاء الولايات المتحدة واستعرضوه في مؤتمر «الصورة والمعنى» في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا. وامتدت جهودهم لشتى النطاقات العلمية، من تصوير الأحداث بالفضا، الى التنبؤ بأنماط الطقس، ومن دراسة الذرات على أسطح المعادن وحتى دراسة الحدود ما بين الموجات المختلفة في ألوان قوس قزح. ويقول ميدلتون ان التصوير طريقة سهلة لنقل المعلومات من العلم الى المجتمع بالإضافة الى مشاركة المعلومات مع العلماء الآخرين. ويقول: «إن حاسة الرؤية عندنا تمكننا من استيعاب المعلومات بسرعة».

وهناك شيء يزداد وضوحا قليلا فقليلا وهو ان تكنولوجيا التصوير تؤثر في كيفية إجراء العلم دراساته وبالعكس يؤثر العلم على تقدم تكنولوجيا التصوير. ويقول كيث نول وهو عالم فضائيات في مشروع تراث «هابل» وفي معهد علوم التلسكوب الفضائي، ان مجاله أيضا يتقدم بوساطة تكنولوجيا التصوير. ويضيف: «إننا في بداية ثورة في التصوير الفضائي وفي مجال التصوير بشكل عام. اذ كان علم الفلك مبدئيا معتمدا على الملاحظات البصرية والرسومات، فان ظهور التلسكوب الأول في عام 1600 غير كل هذا. وأتت الثورة الثانية في عام 1800 مع التصوير». ويعتقد نول ان الثورة الثالثة ستأتي على يد التكنولوجيا الرقمية.

* تصوير فلكي ويقول نول: «إن المجسات الصلبة الرقمية وبرامج التصوير تشعل عصرا ذهبيا في التصوير الفلكي. فنحن لا نعتمد على الضوء المرئي لعين الإنسان فقط وإنما يمكننا الآن التصوير بالأشعة تحت الحمراء لنستطيع رؤية تفصيل أكثر. ويمكننا التعويض عن التشويش الجوي باستخدام أدوات رقمية حتى نكشف أشياء لم تظهر لنا من قبل».

وعادة لا تكون الصور المأخوذة في الفضاء جميلة ولكنها تبدو كما وصفها نول ككتلة بجانب أخرى. ولكن بعض هذه الصور أسرت مخيلة الإنسان وزرعت البذور لجيل مستقبلي من علماء الفلك. وتكون معظم الصور التي يأخذها تلسكوب هابل خلابة وجميلة وتظهر على غلاف المجلات وحتى على الطوابع البريدية. وتم إطلاق تلسكوب هابل في مهمة ستدوم عشرين عاما في التسعينات. ولكنه واجه بعض المشاكل في بداية هذه المهمة عندما عجزت المرآة الرئيسية ان تركز. ولكن حالما تم تصليحها قربت الإنسان للفضاء مبينة صورا رائعة لمذنب شوماكر ـ ليفي وهو يتحطم في كوكب زحل ومصورة صورة رائعة وخلابة ومفصلة لسديم الحلقة.

ولتلسكوب هابل وظيفة هامة أخرى هي منح العلماء نظرة مختلفة للكون. فقبل ظهوره كانت الدراسات الفضائية تحدث من نقطة واحدة وهي سطح الأرض. ويقول نول ان صور الفضاء هذه تجعل الإنسان يشعر براحة أكثر مع البيئات غير الاعتيادية، فالانفجارات الشمسية الشديدة وإحمرار سطح المريخ كانت تعتبر أشياء غريبة حتى عقود قليلة، أما الآن فهي تعتبر صورا عادية. ويقول نول: «من المهم ان يفهم الإنسان الكون الذي يعيش فيه. ففي الماضي كانت المعلومات تحفظ مع هؤلاء الذين حصلوا على الصور. أما الآن فهذه المعلومات موجودة لاستخدام الجميع وأصبح أسهل الآن ان نحصل على صور من خارج العالم عن قبل خمسين عاما».

* تلسكوبات ومجاهر وباقتراب انتهاء مهمة تلسكوب هابل في عام 2010، يقوم العلماء بتصميم تلسكوب فضائي متقدم جدا وأكبر حجما يمكنه تصوير الأشعة تحت الحمراء. وتبرق النجوم بأشعة تحت الحمراء ولذلك ستكون أكثر وضوحا وحتى خلال الغبار الفضائي وبوجود عوائق تحجز الضوء المرئي.

وحتى على مستوى مايكروسكوبي، فتمكن تكنولوجيا التصوير والتي تتضمن تكبير وصبغ أجسام بحجم الذرة، من النظر في احتمالية استخدام مواد جديدة في المنتجات الميكرإليكترونية والمكونات.

على سبيل المثال تستخدم شركة «آي.بي.إم »مجهرا يسمى بالميكروسكوب الماسح النفقي لدراسة شكل سطح ما مثل المعدن ودراسة حركات الإلكترونات. ويقول دون إيجلير وهو باحث زميل في مختبرات «آي.بي.إم »ان هذه الصور تبلغ المستهلكين وإدارة «آي.بي.إم» والطلبة عما تقوم به «آي.بي.إم» لتصغير حجم المنتجات. ويقول: «إن المكونات التي تقوم بعمليات احتسابية تصغر حجما وباستخدام هذا المجهر يمكننا دراسة الأجسام على مستوى ذري وتجميع المعلومات عن خواصها المفيدة». وقام علماء «آي.بي.إم» باختراع هذا المجهر الذي يعتبر الأداة الرئيسية في دراسة تركيب الأسطح. ويقول إيجلير انه يمكن استخدام هذه التكنولوجيا في صناعات أخرى بما فيها التكنولوجيا الحيوية والكيماويات.

ويمكن لهذا المجهر ان يصور التركيب الذري بحجم عُشر المليون من قطر شعرة إنسان. ويعمل المجهر بتقريب رأس إبرة للجسم موضوع التصوير، ويقوم رأس الإبرة بتكوين صلة كيماوية، وتقوم برامج متقدمة بتحويل هذه المعلومات الى صورة. ويمكن وضع جسم المجهر في كف اليد ولكن يجب استخدامه في غرفة مليئة بالمعدات بما فيها كومبيوتر موصول بشبكة حتى يمكن وضع المعلومات والصور على الإنترنت. ويقول إيجلير ان صور أسطح المواد تبين للعلماء كيفية تفاعل الإلكترونات، ويقوم هو وزملائه بتحريك الإلكترونات حتى يحصلوا على الخواص المطلوبة للاستخدام مستقبلا في الكومبيوترات والمعدات الإلكترونية. ولكن معدات التصوير هذه ليست للعلماء فقط، يقول إيجلير: «إنه هام جدا للعلماء الآن ان يشركوا الجمهور العام في إثارة الاكتشاف. فللصور أثرا قوي جدا». فبينما يرفع التصوير حدود ما يمكننا رؤيته ويهدف الى توفير معلومات أكثر، فإن العلماء والفنانين معا يتساءلون ما هو المدى الذي يجب ان تصله الصور المحسنة؟ وتقول فيليس فرانكيل وهي فنانة مقيمة في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا انها أحيانا تحسن صورة حتى تستطيع تفهيم القصد. وتضيف: «ما دمت أعلمت الجمهور أن الصورة محسنة فالأمر حسن».

وقد تساعد الجوانب الفنية في جذب الجيل المقبل من العلماء، حيث يقول ميدلتون: «التصوير أعطانا القدرة على توليد الاهتمام بعلومنا. هل يمكنك ان تتصور جمهورا يحتفي بحماس بالعلم؟ يمكن للصور ان تثير الجمهور».

* خدمة «سي.إس. مونيتور» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط» =