استراتيجية عربية لمكافحة الأمراض المزمنة والوقاية منها

أمراض القلب والسرطان والسكري تشكل أحد التحديات الكبرى أمام تعزيز الصحة والتنمية البشرية

TT

تشكل الزيادة السريعة في معدلات الاصابة بالأمراض غير السارية مثل أمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان والسكري أحد التحديات الكبرى في طريق تعزيز الصحة والتنمية البشرية بصورة عامة في العالم، كما تهدد هذه الأمراض حياة الملايين من الناس وصحتهم وانتاجيتهم، إذ تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية الى ان هذه الأمراض ساهمت في عام 1999 وحده في وفاة ما يقارب من 32 مليون من البشر، وذلك يشكل حوالي 60% من اجمالي الوفيات في العالم.

وفي مقياس آخر تعتمده منظمة الصحة العالمية لقياس حجم المشاكل الصحية، هو العبء المرضي، تقدّر المنظمة ان هذه الأمراض شكّلت في العام نفسه اكثر من 40% من عبء المرض في العالم. وانطلاقاً من هذه الاتجاهات فانه من المتوقع ان تسبب هذه الأمراض، بحلول عام 2020، حالي 70% من الوفيات و60% من عبء المرض.

وخلافاً لما كان يشاع سابقاً من ان هذه الأمراض تصيب المجتمعات العالية الدخل بشكل اكبر فان المعطيات المتوافرة تؤكد بأن البلدان المنخفضة او المتوسطة الدخل تعاني بشدة من هذه الأمراض إذ تحدث اكثر من 70% من مجموعات الوفيات الناجمة عن الأمراض غير السارية في البلدان النامية وتقع نسبة 85% من عبء المرض الذي تمثله على البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل.

* الإصابات في العالم العربي

* وفي العالم العربي وصل حجم الاصابة والمعاناة من هذه الأمراض الى مرحلة متقدمة بحيث أضحت هذه الأمراض تشكل الأسباب الرئيسية للوفاة والمرض والاعاقة في معظم هذه البلدان، فالأمراض القلبية الوعائية لوحدها مسؤولة حالياً عن اكثر من ثلث اجمالي الوفيات. كذلك تشير الدراسات الوبائية التي أجرتها الأقطار العربية بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، الى ارتفاع معدلات الاصابة بالسكري بحيث تشكل اليوم اكثر من ضعف انتشار هذا المرض في المجتمعات الغربية والأوروبية، إذ تؤكد هذه الدراسات ان السكري يصيب حوالي 10% من السكان البالغين في سلطنة عُمان وتونس وأكثر من ذلك في الأردن ولبنان والمملكة العربية السعودية. كذلك هو الحال بالنسبة لارتفاع ضغط الدم إذ يصيب اكثر من 25% من السكان البالغين في بعض البلدان العربية.

وتزداد حدة المشكلة وخطورتها في العالم العربي بسبب ان اكثر من نصف الاصابات بارتفاع ضغط الدم والسكري غير مشخصة نظراً لأن عدم تشخيص هذا العدد الهائل من المصابين لا يتيح معالجة الاصابة ويفوّت على المصابين والمجتمع فرص الوقاية من المضاعفات المهلكة لهذه الأمراض.

وتعود الأسباب التي تؤدي الى تفشي هذه الأمراض في الوطن العربي الى عدة عوامل أهمها الانجازات التي تمت في السيطرة على الأمراض السارية وأمراض الأطفال والتغيرات الديموغرافية وزيادة العمر المأمول، والتغيرات المستمرة في أنماط الحياة التي تصاحب التنمية الاقتصادية، والتحضر والتحولات في الأنماط الغذائية، وعوامل متعلقة بالعولمة أدت الى تسويق انماط حياتية لها تأثير ضار بصحة الانسان. وتنتشر ظاهرة التدخين بشكل متسارع بالغ الخطورة في المجتمعات العربية، ويشكل المدخنون اكثر من 40% من الرجال في الكثير من البلدان، ويزداد استهلاك التبغ واستيراده وتصنيعه محلياً بشكل مطرد. كذلك تشير المعطيات الى زيادة مستمرة في استهلاك السكريات والدهنيات والزيوت بشكل كبير خلال العقود القليلة الماضية. وقد أدى ذلك بطبيعة الحال الى انتشار السمنة وخاصة بين الاناث إذ تصل نسبة زيادة الوزن الى اكثر من 50% بين النساء في عدد كبير من البلدان.

* التحدي المطروح والفرص المتاحة

* ان تفشي الأمراض المزمنة ووصولها مستويات وبائية بالغة الخطورة، يفرض على المجتمعات العربية بذل الجهود من أجل وضع حد لانتشار هذه الأمراض والتقليل من فداحة المشاكل الصحية، والموت المبكر التي تسببها، خاصة ان هناك حالياً كماً هائلا من المعارف والخبرات في مجال مكافحة هذه الأمراض والفرص الهائلة المتاحة لمكافحتها على الصعيدين الاقليمي والوعائية والدولي.

وترتبط اربعة من أشهر الأمراض غير السارية: الأمراض القلبية الوعائية والسرطان وداء السكري والأمراض النفسية الانسدادية المزمنة في ما بينها بعوامل اختطار (اي احتمال وقوع الخطر) مشتركة يمكن الوقاية منها، وهي مرتبطة بنمط الحياة المتبع. وهذه العوامل هي التدخين واتباع نظام غذائي غير صحي والخمول البدني. وينبغي تبعاً لذلك ان تقوم السلطت الصحية بالتركيز على مراقبة عوامل الاختطار هذه بصورة متكاملة خاصة ان هناك ما يشير الى عدم توافر معطيات دقيقة ومعتمدة وغياب نظم ترصد فعّالة لهذه العوامل والأمراض التي تسببها في الكثير من الأقطار.

اما التدخل لكافحة عوامل الاختطار فينبغي ان يكون على صعيد الأسرة والمجتمع والادارات الحكومية المختلفة، لأن العوامل المسببة للأمراض غير السارية تضرب بجذورها في الاطار الاجتماعي والثقافي للمجتمع.

ان الخبرات العالمية المتوافرة تشير بكل وضوح الى امكانية دحر هذه الأمراض عن طريق مكافحة العوامل المسببة لها وجذورها البيئية والاقتصادية والاجتماعية المحددة لسلوك السكان.

ويتبين من الخبرات المتركمة في مكافحة هذه الأمراض عالمياً ان نجاح البرامج الوقائية يقتضي اتخاذ قرارات سياسية داعمة وسن تشريعات مناسبة تمكن الأفراد والمجتمع من اتباع انماط حياتية صحية، ويقتضي ايضاً مشاركة المجتمعات المحلية وادخال اصلاحات على الرعاية الصحية والتعاون مع المنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص.

وكثيراً ما تؤثر القرارات المتخذة خارج القطاع الصحي تأثيراً كبيراً في مدى انتشار الأنماط الحياتية السلبية التي تساعد على انتشار الأمراض غير السارية، لذلك فان تحقيق مكاسب صحية في مجال الوقاية من الأمراض المزمنة يتطلب التأثير في السياسات التي تؤثر على الصحة والتي تتخذ من قبل قطاعات أخرى كالتجارة والزراعة والتنمية والبلديات والسياسات الضريبية والتغذية، وهذه المكاسب تفوق ما يمكن تحقيقه بمجرد ادخال تغييرات على السياسة الصحية.

ورغم ان الوقاية من الأمراض غير السارية عن طريق مكافحة عوامل الاختطار، هي اكثر الاستراتيجيات جدوى في الكثير من البلدان، غير ان التركيز على هذه الاستراتيجية الوقائية فقط لن يحقق نتائج المكافحة كاملة. فهناك الملايين من المصابين بهذه الأمراض ينبغي معالجتهم لتحسين نوعية حياتهم ودرء أخطار المضاعفات والتعوق والوفاة المبكرة. لذلك تتطب مكافحة الأمراض غير السارية بذل جهود كبيرة في سبيل تعزيز خدمات الرعاية الصحية المقدمة للمصابين وتوفير المتطلبات الأساسية لهذه الرعاية وخاصة على مستوى الرعاية الصحية الأولية واعتماد التدخلات العالية المردود مع اعطاء الأولوية للأمراض القلبية الوعائية والسرطان والسكري والأمراض النفسية المزمنة.

* تقييم صحي

* وهنا ينبغي ان تقوم الأنظمة الصحية بتقييم مدى امكانياتها للاستجابة لمتطلبات الرعاية الصحية للمصابين بهذه الأمراض، إذ غالباً ما تكون هذه الأنظمة مصممة لتقديم الرعاية الصحية للحالات المستعجلة والحادة وتفتقر لمتطلبات الرعاية طويلة المدى. كذلك لا تعطي الأنظمة الصحية في بعض البلدان اهتماماً كافياً لدور المصاب في الرعاية وخاصة في ما يتعلق بالسلوك الصحي والالتزام بالعلاج ومراقبة السيطرة على الاصابة. وتعاني بعض الأنظمة الصحية ايضاً من عدم توافر الموارد البشرية والمالية اللازمة للتصدي لهذه المشاكل الصحية الكبيرة.

ان مكافحة الأمراض غير السارية تعتمد الى حد كبير على توافر الارادة السياسية لرسم استراتيجيات وطنية في الدول العربية وتقتضي توفير الموارد الأساسية لتنفيذها. وينبغي للاستراتيجيات الوطنية ان تعمل على:

1 ـ اقامة قواعد المعلومات الأساسية بما في ذلك تقييم ورصد الوفيات التي تُعزى للأمراض غير السارية، ومستوى التعرض لعوامل الاختطار مثل التدخين والانماط الغذائية غير الصحية والسمنة والخمول البدني ومحدداتها بين السكان، واستنباط آلية لانشاء نظام فعال للترصد والمراقبة.

2 ـ انشاء برامج لتعزيز الصحة وبناء القدرات على المستوى الوطني والاقليمي لوضع وتنفيذ برامج الوقاية المتكاملة.

3 ـ التصدي للقضايا المطروحة خارج القطاع الصحي والتي تترك أثراً كبيراً على انتشار الأمراض غير السارية، وتقييم اثر التنمية الاجتماعية والاقتصادية على عبء هذه الأمراض، ووضع آليات مبتكرة للمساعدة على تنسيق الأجهزة الحكومية التي تؤثر على الصحة.

4 ـ ضمان ان تتصدى اصلاحات القطاع الصحي للتحديات في مجال الرعاية الصحية للمصابين ووضع تدابير رعاية صحية عالية المردود.

* مدير قسم الأمراض غير السارية في منظمة الصحة العالمية في جنيف =