أبحاث علمية حول المخاطر الصحية للمجالات الكهرومغناطيسية

دراسات عقدين من الزمن لم تتوصل إلى نتائج مؤكدة حول دور خطوط نقل الطاقة الكهربائية في الإصابة بالسرطان

TT

بعد أكثر من عقدين من الأبحاث على تأثيرات المجال الكهرومغناطيسي المتولد عن خطوط الجهد العالي لنقل الطاقة الكهربائية، لم يتوصل العلماء بعدُ إلى نتائج حاسمة تشير إلى مخاطرها الصحية الأكيدة.

وكانت أولى الأبحاث قد انطلقت عام 1979 في الولايات المتحدة وافترضت، لأول مرة، أن خطوط الجهد العالي تحمل مخاطر صحية كبيرة تقود إلى حدوث السرطان. لكن الدراسات الميدانية اللاحقة للإصابات المرتبطة بقرب مواقع سكن المصابين مع مواقع خطوط الطاقة، لم تثبت ذلك بشكل قاطع. أما الدراسات المختبرية فأشارت إلى أن المجالات المغناطيسية يمكنها التأثير في الأنسجة الحية للجسم البشري، إذ أن شدة هذه المجالات يجب أن تكون أعلى من شدة المجالات المتولدة عن خطوط نقل الطاقة الكهربائية.

وقد نشر الدكتور مايكل كرامبتون، رئيس اللجنة العلمية الاستشارية لمؤسسات الأبحاث البيولوجية للمجالات الكهرومغناطيسية البريطانية، مقالاً موسعاً حول نتائج الدراسات والأبحاث العلمية في العدد الأخير من الدورية التي تصدرها جمعية تقدم العلوم البريطانية.

دراسات ميدانية تشكل الطاقة الكهربائية عصب الحياة الحديثة، لكن العلماء بدأوا منذ السبعينات في دراسة مخاطر المجالات الكهرومغناطيسية على صحة الإنسان، وانصبت جهودهم على تأثيرات المجال المغناطيسي بالدرجة الرئيسية. وأنفقت حتى الآن مبالغ تقدر بـ 550 مليون دولار على مثل هذه الأبحاث.

وفي ما عدا انعدام وجود دلائل مثبتة تشير إلى التأثيرات الصحية السيئة للمجالات الكهرومغناطيسية المتولدة من خطوط نقل الطاقة، توجد إشكالية كبرى في فهم آلية تأثير المجالات في الأنسجة الحية، خصوصاً أن شدة المجالات التي يتعرض لها الأفراد أقل بكثير من شدة المجال المغناطيسي للكرة الأرضية التي يحيا عليها مليارات الناس.

لكن ذلك لا يعني عدم وجود آلية تأثير المجالات في الأنسجة، بل يعني أن العلم لم يتمكن حتى الآن من التوصل إلى معرفتها بعمق.

عام 1979، أجرى العلماء الأميركيون دراسة ميدانية لحالات الأطفال الساكنين في شوارع ضواحي مدينة دينفر في ولاية كولورادو. طرحوا استنتاجاً حول ازدياد حالات الإصابة بالسرطان إلى الضعف لدى الأطفال الذين يسكنون في مواقع أقرب لخطوط الجهد العالي لنقل الطاقة الكهربائية. واعتبر التعرض للمجالات المغناطيسية المتولدة عن هذه الخطوط السبب الرئيسي لهذه الإصابات، واستبعد المجال الكهربائي الذي لا يتمكن من اختراق جدران المنازل بقوة مثل المجال المغناطيسي.

وقادت هذه النتائج غير المتوقعة إلى إجراء أبحاث ميدانية جديدة في مختلف بقاع أميركا والعالم بهدف رصد الحالات السرطانية لدى الأطفال والبالغين الساكنين بالقرب من خطوط نقل الطاقة الكهربائية. وأظهرت النتائج تناقضات كبيرة، إذ لم يتم التوصل إلى نتائج قاطعة مثل تلك النتائج التي قدمت أثناء دراسة ضواحي دينفر، كما لم تقدم أي دلائل على أن المجال المغناطيسي يمكن أن يقود إلى حدوث السرطان. لكن الشكوك ظلت تحوم في الأجواء، وتفترض بعض الأبحاث الجديدة مثلا أن يكون المجال الكهربائي مسؤولاً عن توليد أيونات في الأجواء، أو تركيز الملوثات الجوية التي تقود إلى حدوث السرطان.

ومع ذلك، فإن اهتمام علماء دراسات العدوى، وفي هذه الحالة دراسة انتشار أمراض السرطان، ركزوا اهتمامهم على تأثير المجالات المغناطيسية، خلال العقد الأخير. وتعتبر الدراسات التي نفذها معهد السرطان القومي الأميركي عام 1997 ووكالة كولومبيا البريطانية للسرطان عام 1999، ولجنة التنسيق البريطانية لأبحاث السرطان في 1999، أكبر وأهم الدراسات الميدانية في هذا المجال.

وأشارت هذه الدراسات الى انعدام أي تأثير محسوس أو مخاطر ملموسة ناتجة عن المجالات المتولدة عن خطوط الطاقة الكهربائية. وفي الدراسة البريطانية بحثت 2226 حالة لسرطان الأطفال (منها 1073 حالة لوكيميا (ابيضاض الدم)، شخصت خلال أربع سنوات، وأورد العلماء الاستنتاج التالي «لم تستطع الدراسة تقديم أي دلائل على أن التعرض للمجالات المغناطيسية المرتبطة بخطوط تجهيز الطاقة الكهربائية في بريطانيا، يزيد من مخاطر الإصابة باللوكيميا لدى الأطفال أو بسرطان الجهاز العصبي المركزي أو أي نوع من أنواع السرطان لدى الأطفال».

وتعتمد الدراسات الميدانية اعتماداً كبيراً على تحليلات إحصائية في العادة، خصوصاً إن كانت تتعامل مع مستويات واطئة من احتمالات المخاطر، ومع مرض نادر مثل لوكيميا الأطفال (يتعرض طفل من كل ألف طفل إلى هذا المرض في بريطانيا سنوياً). ولا تستطيع هذه الدراسات سوى تحديد ارتباط المرض بعامل يشتبه بأنه السبب في حدوثه، ولا يقدم ذلك الارتباط دليلاً على السبب أو النتيجة. وكي يتم إثبات السبب الحقيقي ينبغي إجراء أبحاث تجريبية على الحيوانات للتعرف على تأثير المجالات في الأنسجة الحية، وأبحاث أخرى لفهم آلية حدوث المرض.

أبحاث مختبرية وقد أجرى العديد من الأبحاث المختبرية بهدف العثور على دلائل حول التأثير البيولوجي للمجالات المغناطيسية. ونفذت الأبحاث على نظم حية عديدة منها حيوانات او لأجنة، وسجلت ملاحظات حول تأثيرها في الإنسان. كما درست التأثيرات في الخلايا الحية داخل الأوعية الزجاجية أي قناني الاختبار.

وأشارت غالبية الأبحاث إلى نتائج مؤكدة تثبت تأثير المجال المغناطيسي في النسيج الحي، إلا أن تأثير المجال المغناطيسي بشدة تقل عن 100 ميكروتسلا (تسلا: وحدة شدة المجال المغناطيسي)، لم تحدد بوضوح بل قدمت نتائج متناقضة. ولم تكن الأبحاث بمستويات رفيعة بحيث يمكنها ان تغطي النتائج الدامغة لأبحاث أخرى أجريت للتأكد من نتائجها.

ويقول الدكتور كرامبتون: «إن إعادة تنفيذ التجارب، هي إحدى الممارسات المهمة في مؤسسة الأبحاث البيولوجية للمجالات الكهرومغناطيسية البريطانية. وقد أعيدت اختبارات للتأكد من نتائج تجربة أعلن عنها، قيل فيها إن مجالاً مغناطيسياً بشدة بضع وحدات ميكروتسلا، أدى إلى التأثير في خلايا لمفاوية بشرية تم إكثارها في المختبرات، وقاد إلى تغيير عمل بعض المورثات التي تلعب دورها في حدوث السرطان. كما أعيدت اختبارات تجربة أخرى أكدت نتائجها أن مجالاً مغناطيسياً بشدة 100 ميكروتسلا، يمكنها التأثير في إنزيم (خميرة) تلعب دوراً مهماً في تكاثر النشاط».

ولم يتمكن علماء المؤسسة بالاعتماد على أحدث المعدات المختبرية وبمشاركة بعض الباحثين الذين أجروا التجارب الأولى، من تكرار نتائج التجربتين، كما لم يتمكن باحثون خارج المؤسسة من التوصل إلى النتائج نفسها بعد تكرار الاختبارات.

ويقول كرامبتون: «إن نتائج الأبحاث في هذا الميدان يجب أن تقابل بالحذر، خصوصاً أن المجلات العلمية والصحف الشعبية تحاول نشرها أكثر من نشر الأبحاث الأخرى التي تشير إلى عدم وجود مخاطر صحية للمجالات المغناطيسية ضعيفة الشدة على صحة الإنسان».

آلية التأثير حاول العلماء تفسير تأثير المجالات المغناطيسية في النظم البيولوجية، والتعرف على فوائدها وأضرارها. وفي حالة المجالات الشديدة (بشدة آلاف ميكروتسلا) تبدو آلية التأثير واضحة وهي كما يلي: التيارات الكهربائية المستحثة في داخل الأنسجة الحية يمكنها التأثير في أغشية الخلايا بشكل كاف للتشويش على عمل العصب أو العضلة، مما يؤدي إلى حدوث صدمة كهربائية، أما في المجالات الأضعف فتستخدم من قبل أنصار العلاج بالمجال المغناطيسي لحفز عملية نمو العظام وإصلاح الأنسجة. لكن آلية التأثير لا تزال عصية على العلماء، ويمكن أن تكمن في احتمالات تأثير المجال في أغشية الخلايا أيضاً.

ولم يتمكن العلماء حتى الآن من تفسير تأثير المجال في مستويات حركة الأيونات في الخلايا أو على نشاط الأنزيمات (الخمائر) التي أعلنت عنها بعض الأبحاث، التي درست تأثير المجالات المغناطيسية بشدة بضع مئات من الميكروتسلا داخل المختبرات. ولا توجد من تفسيرات لآلية تأثير المجال المغناطيسي في الأنسجة الحية، سوى تفسيرين يتحملان المناقشة. ويعتمد كلا هذين التفسيرين على تفاعل المجالات المغناطيسية مع «الكيانات» المغناطيسية التي يمكن أن تكون موجودة داخل الأنسجة الحية، وهي المغانيط البيولوجية، أو دور المجال في نشاط الجذور الحرة.

وتكون الكيانات المغناطيسية داخل الأنسجة على شكل أوكسيد الحديد ذي الخصائص المغناطيسية. وتركب الكثير من النظم الحية اجزاء صغيرة من المعدن تتأثر بالمجال المغناطيسي مثلما تتأثر به إبرة البوصلة المغناطيسية. وتساعد هذه المواد بعض البكتيريا على تحديد اتجاهها، كما يشك العلماء في مساعدتها للكثير من الحيوانات. لكن هذه المواد لا تتأثر بالمجالات ضعيفة الشدة. لذلك، كما يبدو، فإنها لا تمثل تفسيراً لتأثير المجالات المغناطيسية الضعيفة المتولدة عن خطوط نقل الطاقة.

أما الجذور الحرة، وهي أجزاء انشقت من جزيئات بسبب تأثيرات كيميائية أو أسباب أخرى. ولا تدوم حياة هذه الجذور إلا لفترة يسيرة تكون فيها نشيطة كيميائياً تحاول توحيد نفسها مع الجزيئات الأخرى. ويمكن أن تتأثر الجذور الحرة في بعض الظروف بالمجال المغناطيسي، من الناحية النظرية.

ويعرف عن الجذور الحرة أنها تلعب دوراً ضاراً بالجسم البشري، وقد تؤدي إلى أضرار تقود إلى حدوث السرطان، لكن الجسم الحي يحاربها بقوة للتخلص منها. ولا تزال مسألة تأثير المجال المغناطيسي ودوره في نشاط هذه الجذور الحرة موضع مناقشات متناقضة مثيرة للجدل.

مواقع إنترنت

* موقع لجنة التنسيق البريطانية لأبحاث السرطان (UKCCCR):

http://www.ukcccr.icnet.uk

* موقع اختبارات السرطان للمعهد القومي للسرطان في الولايات المتحدة:

http://caucertrials.nci.nih.gov

* موقع جمعية تقدم العلوم البريطانية:

http://www.britassoc.org.uk =