أجواء المدن الساخنة تخلق مناخها الحار

العلماء الأميركيون يدرسون أثر «الجزيرة الحرارية» داخل المناطق المأهولة وسبل تقليلها

TT

مدينة أتلانتا كبيرة جدا، وحارة، لدرجة أنها تصنع طقسها الخاص بها. ويملك العلماء الصور لإثبات ذلك. إذ عثر روبرت بورنستين الاستاذ في علم الأرصاد في جامعة سان خوزيه في كاليفورنيا على انماط في الرياح لدى تحليله بيانات جوية جمعت خلال الألعاب الأولمبية لسنة 1996، ورأى بورنستين ان السطوح والأرصفة الماصة للحرارة تسخن الهواء، وكان الهواء الساخن يرتفع ساحبا الهواء من جميع الاتجاهات للمدينة. وخمن الباحث ماذا سيحدث بعد ذلك: كلما ارتفع الهواء الساخن برد وتكثف في غيوم ومطر.

ودعمت آراءه صور من الأقمار الصناعية بينتها عدة حالات، ثارت فيها العواصف الرعدية فوق أتلانتا دون سابق انذار وأمطرت على المدينة عادة في الجهتين الجنوبية الشرقية والشمالية الشرقية. ويقول بورنستين مشيرا لصور الأقمار الصناعية: «لقد وثقنا كل الخطوات في هذه العملية. ولن تروا أي غيوم أخرى سواء مع اتجاه الريح أو عكسه».

مدن تولد الحرارة ولا تعتبر فكرة توليد المدن لحرارتها وبالتالي لمناخها فكرة جديدة. إذ درس بورنستين عواصف رعدية مشابهة فوق مدينة نيويورك قبل عقدين وفقا لصور التقطها رادار ومن المحتمل أن مدناً أخرى ولدت عواصفها الخاصة بها أيضا.

ولكن في السنوات الأخيرة تمكن العلماء باستخدامهم لمجسات متقدمة جدا التقاط صورة أكثر تفصيلا حول كيفية تغيير النشاط البشري للطقس. ففي السنوات التي مضت قام علماء من مركز مارشال للطيران الفضائي التابع لـوكالة «ناسا» الفضائية في مدينة هنتسفيل في ولاية آلاباما، بارسال طائرات للتحليق فوق مدن مثل سالت ليك، وساكرامنتو، وباتون روج، ولوس أنجليس ،وأتلانتا، وحصلوا على خرائط حرارية مفصلة. وظهرت المتنزهات باردة لأن النباتات مليئة بالماء والشجر الذي يوفر الظل بينما كانت مواقف السيارات المغطاة بالإسفلت ساخنة.

وظهر أيضا أن المباني الجديدة هي الأكثر سخونة. إذ في مدينة سالت ليك ظهرت بناية سكوت ماثيسون وهي ذات سقف داكن اللون كبقعة بيضاء على صورة الأشعة تحت الحمراء مبينة حرارة السقف في حدود 170 درجة فهرنهايت (77 مئوية تقريبا). ومقابل هذه البناية عبر الشارع ظهرت بناية المجلس والتي بنيت قبل قرن بلون أحمر، لأنها كانت أبرد.

وفي عصر مكيفات الهواء يركز البناءون على المتانة والتكلفة، اكثر من القدرة على امتصاص الحرارة أو عكسها. ويقول ديل كواتروتشي الباحث الاقدم في مركز مارشال ورئيس مساعد في بحث جزيرة الحرارة او «الجزيرة الحرارية» لـ«ناسا»: «نحن لا نفكر في جعل الأشياء باردة لأن كل شيء مكيف هوائيا».

ويتزايد أثر «الجزيرة الحرارية» مع توسع المدن. فعلى سبيل المثال تغطي الحرارة المتولدة عن مدينة أتلانتا حولي 17 ميلا مربعا. ويقول كواتروتشي: «انه تغير عقلي شبه حضاري. لقد بدأنا بتغطية كل شيء بالقار وقطع الأشجار».

ويتوقع فريق «ناسا» أن يوجه كاميراته تحت الحمراء على هيوستن كجزء من نشاط تقوم السلطات الفيدرالية في تكساس لمراقبة الضباب الدخاني هناك. إذ تزيد الحرارة من سرعة التفاعلات الكيميائية لتوليد الأوزون وهو المكون الرئيسي للضباب الدخاني. ويقول الدكتور كواتروتشي: «أحد الأشياء المثيرة للاهتمام في هيوستن هو حجمها الكبير بالنسبة للمباني. إذ تغطي حوالي 572 ميلا مربعا. وستكون هذه أكبر مدينة نقوم بدراستها للآن». وبخلاف مدن أخرى لا يوجد في هيوستن قوانين تحدد نوع المناطق، ولذا فالمباني الصناعية والتجارية والسكنية كلها مختلطة مع بعضها البعض. وبمقارنة البيانات من مدن مختلفة يريد علماء ناسا أن يفهموا بشكل أفضل كيف يختلف أثر التسخين بين المدن المختلفة. وسجل اثر «الجزيرة الحرارية» لأول مرة قبل مائتي عام لوك هاورد، هاوي علم أرصاد في إنجلترا. وفي 1807 قام بمقارنة الحرارة في عدة مواقع في لندن مع تلك التي قاسها في مواقع خارج المدينة. وقال هاورد في كتابه: «المناخ في لندن في 1818» انه «تحت ظروف مختلفة وفي مواقع مختلفة باستخدام أدوات مختلفة وفي مواضع مختلفة تبين أن الطقس في لندن ادفأ دائما من الريف بمعدل فارق بالحرارة حوالي 1.579 درجة فهرنهايت».

أما اليوم فمعدل فارق الحرارة في المدن الكبيرة قد يمتد من 5 إلى 10 درجات فهرنهايت عن المناطق المجاورة. وبالإضافة لازعاج السكان فان الحرارة تزيد الحاجة للتبريد الهوائي، الذي بدوره يساهم في حدوث مشاكل أخرى لجودة الهواء. وتستهلك هذه المكيفات الكهرباء التي تؤدي الى انتاج معامل الطاقة للمزيد من المكونات الكيميائية لتوليد الأوزون. ويمكن إزالة هذه الآثار، إذ استنتج علماء في مختبر لورنس بيركلي في بيركلي في عام 1998 انه يمكن لسكان مدينة نيويورك أن يخفضوا من كلفة التكييف الهوائي صيفا بحوالي 22 مليون دولار باستبدال أسطح عاكسة بأسطحهم الداكنة اللون. ويمكن لحرارة الصيف الخارجية أن تقل بحوالي درجتين.

ولكن هذه الأسطح العاكسة ستزيد من تكاليف التدفئة في الشتاء بحوالي ست ملايين دولار. ويقول ستيفن كونوباكي، زميل باحث في لورنس بيركلي وعضو في مجموعة بحوث «الجزيرة الحرارية»، «في الشتاء ستريد السطح أن يكون ساخنا». وسيكون التوفير الصافي حوالي 16 مليون دولار بالسنة. اما الدكتور حيدر طه الباحث في مركز لورنس بيركلي فيقول: «تتزايد المنافع، إذ وفقا لبرنامج محاكاة وضع على الكومبيوتر فان انخفاضاً في الحرارة بدرجتين سيخفض مستويات الأوزون ما بين 5 و10 في المائة وأحيانا بحوالي 20 في المائة. إذ يمكنك إبطاء تكون الضباب الدخاني».

ويعمل علماء لورنس بيركلي الآن على إنتاج إسفلت وألواح أسطح بألوان باهتة ومختلفة يمكنها عكس الأشعة تحت الحمراء بفعالية.

ومن أسباب هيمنة الأسطح السوداء على المباني بالمدن هو رخص سعرها. ويقول كونوباكي: «لقد تطورت بعض العادات السيئة في الولايات المتحدة». ولكن الانخفاض في تكاليف الكهرباء قد يغطي الفرق المبدئي في السعر. ويستعين كونوباكي بمبنى طبي في كاليفورنيا كان له سطح أسود يعكس حوالي 24 في المائة من أشعة الشمس. وبحلول 1997 عندما حان الوقت لتغيير السطح أقنع علماء بيركلي مالك البناية باستخدام سطح أبيض يعكس حوالي 60 في المائة من أشعة الشمس. ونتيجة لذلك انخفضت تكاليف التكييف الهوائي بحوالي 18 في المائة.

ويأمل علماء «ناسا» وبيركلي أن تجتذب هذه المعلومات انتباه المهندسين المعماريين والبنائين. ويقول جيف لوفال الذي يدير برنامج «الجزيرة الحرارية» مع كواتروتشي: «لم يكن هذا جزءا من منهاجهم. فهم معنيون بالشكل الجمالي والميزانيات». وقامت ولاية جورجيا بتغيير قوانين البناء فيها لتشجع استخدام الأسطح العاكسة وتقوم المقاطعات حول أتلانتا بدراسة وضع قوانين للحفاظ على الأشجار المتبقية. ويحمل الآن حوالي ثلاثة وخمسون منتجا أسطح علامة دائرة حماية البيئة الفدرالية والتي تبين أن هذه الأسطح ستعكس على الأقل 65 في المائة من أشعة الشمس وهي جديدة وحوالي 50 في المائة بعد ثلاث سنوات.

ويقوم بعض بائعي الأسطح العاكسة مثل كريج ليس من شركة «ستكوتون» للأسطح في كاليفورنيا بوضع صور ناسا في منشورات البيع. ويقول ليس: «عندما تدعم ما تقوله بصور من «ناسا» فيستمع لك الناس».

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»