«أذن كبيرة» لتتبع موجات الجاذبية في الكون

مرصد أميركي متقدم يسجل تأثير الموجات على تداخل أشعة الليزر لسبر ألغاز الكون المبهمة

TT

في موقع على نفس السهول المغطاة بالشجيرات الصغيرة، حيث عمل العلماء الاميركيون في انتاج القنابل النووية الاولى، يسعى باحثون في مشروع اخر الان، الى اكتشاف ادق موجات في الفضاء، وتأكيد احدى نظريات اينشتاين، وحل بعض اصعب ألغاز الكون. وقرب مفاعل هانفورد النووي في شرق ولاية واشنطن، حيث انتج بلوتونيوم القنابل النووية في وقت ما، تتمدد الان انبوبتان من الخرسانة فوق رمال الصحراء يبلغ طول الواحدة اربعة كيلومترات وتتخذان شكل ضلعي زاوية قائمة. وهذا المشروع الحكومي مثل نظيره النووي، هو مرصد لقياس موجات الجاذبية بتسجيل تداخلات لاشعة الليزر، ويرمز له اختصارا بالحروف «ال.آي.جي.او» LIGO.

* رصد موجات الجاذبية

* وتمول مؤسسة العلوم القومية المشروع الذي يتكلف 372 مليون دولار، لاكتشاف موجات الجاذبية. ويمكن ان يغير النجاح نظرتنا الى الكون، مثلما كشف استخدام موجات الراديو في علم الفلك عن مجاهل كانت غائبة عن اجهزة التلسكوب التي تعمل بالضوء المرئي. وقال فريد راب رئيس المرصد «نحن نبتكر مجالا جديدا وسيكون هذا المجال مهما جدا في علوم القرن الحادي والعشرين». واضاف «سنقوم باستكشاف شيء لم يستكشف من قبل. لم ينصت احد لموجات الجاذبية عند المستوى الذي سنحاول الوصول اليه».

وبعد خمس سنوات من اعمال البناء اكمل المشروع في منتصف يناير (كانون الثاني) الجاري، اهم مجموعة من الاختبارات استعدادا لاول محاولة حقيقية لاكتشاف موجات الجاذبية هذا الصيف. وهناك مرصد مشابه لهانفورد في غابات ليفنجستون بولاية لويزيانا. وبفضل وجود مرصدين سيتاح للعلماء تحديد مكان مصدر موجة جاذبية في مساحة ما من السماء بنفس الكيفية التي تستطيع بها الاذنان تحديد مكان مصدر الصوت. وسيضمن ذلك تنقية الموجة من اي ضوضاء (تشويش) في الخلفية قد تسجل في احد الموقعين.

وتشويش الخلفية ليس امرا هينا، فقد بذل المهندسون جهودا هائلة لحماية المرصدين من اي اهتزازات مصدرها الارض.

ويرجع السر في ذلك الى الكيفية التي يعمل بها مرصد «ال.اي.جي.او». وتتمثل الفكرة في فصل شعاع ضوئي في اتجاهين تفصلهما زاوية قائمة ويتحقق ذلك في حالة المرصد، بتمرير الشعاع من خلال الانبوبتين الخرسانيتين. وترتد الاشعة من مرايا وتتوحد ثانية لتكون نمطا متداخلا. وحين تمر موجة جاذبية فانها تسبب انكماش احد المرايا وتمدد الاخرى بما يغير النمط.

وقال راب وهو فيزيائي وخبير في القياسات الدقيقة من معهد التكنولوجيا في كاليفورنيا «انهم يحاولون تسجيل بصمة الانحراف الفضائي».

وقد تمت تنقية اجواء المرصد الى درجة لا نظير لها، ففي مبنى نقي الهواء الى درجة اكثر من مائة مثل اي مكتب حديث، توجد خزانة معدنية بداخلها مصدر لاشعة الليزر يطلق احدى اكثر الحزم الضوئية كمالا على مستوى العالم.

وعلى مسافة امتار ينقسم الشعاع عبر انبوبتين من الصلب تمتدان بداخل الانبوبتين الخرسانيتين اللتين تعملان على معادلة الانحناء في سطح الارض. وينطلق الشعاعان نقيين من الهواء لدرجة ان الضغط الداخلي لا يتجاوز واحدا من تريليون جزء من ضغط الغلاف الجوي بما يجعل وحدة الاشعة احد اضخم انظمة تفريغ الهواء في العالم. وبعد ارتداد الاشعة بين المرايا جيئة وذهابا نحو 100 مرة، فانها تعاود الاندماج عند وحدة رصد فريدة تتعقب تقريبا كل فوتون ارتطم بالاشعة.

لكن الاساس في الاستماع لأي موجة جاذبية هو التخلص من كل اهتزاز خارجي محتمل بما في ذلك العوامل غير العادية، وليس فقط الاهتزازات الناجمة عن خطوات الاقدام، والزلازل. وعلى سبيل المثال فان القمر لا يسبب المد والجزر في المحيطات فقط وانما يتسبب في «مد وجزر» تربة الارض ايضا، ويمكن ان يحرك المباني بحوالي ثلث ملليمتر. كما ان موجات معينة في المحيط تضرب اميركا الشمالية وتتسبب في «زلازل صغيرة» تهز المرصد.

* حساسية فائقة * ومن ابرز الاشارات الى حساسية المرصد، حظر السير في محيط عشرة امتار حول غرف المرايا. والسبب ان المرصد يمكنه اكتشاف الجاذبية التي تتولد عن جسم الانسان. ويمكن للمرصد اكتشاف هزة في المرايا مقدارها مليار المليار من المليمتر او واحد من الف جزء من عرض البروتون، وتعد الان خطط لتحديث المرصد. ويأمل راب في تركيب جيل جديد من انظمة عزل الاهتزازات بحلول عام 2007 بما يحسن من درجة الحساسية مرات عديدة. وقال راب «نتوقع مع التقدم التكنولوجي ان تحدث تحسينات جذرية كل خمس سنوات او نحو ذلك، بما يتيح لنا زيادة قدرتنا». واضاف «لقد صممناه ليستوعب كل ما يمكن ان يصممه العاملون في مجال المراصد الكبيرة على مدى السنوات العشرين او الثلاثين المقبلة».

ما الذي يمكن ان تقدمه هذه المعجزة التكنولوجية اذن؟ يتوقع علماء المرصد ان يكونوا اول من يسجل بصورة مباشرة موجات الجاذبية لكنهم يقولون ان ذلك ليس انجازا كبيرا. فنظرية النسبية العامة التي وضعها اينشتاين توقعت وجود هذه الموجات وهو ما اعتبر امرا مؤكدا بعد ان تمخض رصد انهيار بعض النجوم لتكون في حجم المدن وتصبح اكثر كثافة عن نتائج متوافقة مع المتوقع من تولد موجات جاذبية.

والمتوقع ان يكتشف المرصد الاشياء بالغة الضخامة مثل الثقوب السوداء وغيرها من الاشياء التي تصل كثافتها لدرجة لا تتيح للضوء نفسه ان يهرب من جاذبيتها. ورغم ان موجات الجاذبية ستكون بالغة الضعف حين تصل للارض فان الرحلة لن تغيرها كثيرا، على عكس موجات الضوء التي يمكن ان تشوهها المجرات وذرات التراب.

وفي ظل التقدم التكنولوجي واقامة المزيد من المراصد في مختلف انحاء العالم يجب ان يتمكن العلماء من قراءة الموجات. وربما يمكنهم تحقيق فتوحات مثل اعادة تركيب احداث اصل نجم منفجر. ويستحيل بالتلسكوبات العادية رؤية بداية عملية انفجار نجم بسبب عدم انطلاق ضوء منها خلال الساعات الاولى. ورغم ذلك فسوف تتدفق موجات الجاذبية محملة بخيوط قد يكشف تتبعها عن اصلها.

ويأمل البعض ان تكون مراصد موجات الجاذبية مفتاحا يفض مغاليق احد اكبر الغاز الكون وهي دفقات اشعة غاما المبهرة التي تنبعث منها خلال دقائق طاقة تفوق تلك التي تنبعث من اغلب المجرات خلال عام. وشوهدت دفقات اشعة غاما لاول مرة في الستينات وما زالت تحير العلماء. وتتضمن كل النظريات التفسيرية وجود ثقب اسود مما يعني ان رصد موجات الجاذبية قد يلقي الضوء على اصل هذه الدفقات.وقال سام فين الفيزيائي في جامعة ولاية بنسلفانيا «يجب ان نرى علاقة بين دفقات موجات الجاذبية ودفقات اشعة غاما». واضاف انه «في اي وقت حين نستطيع ان نضيف اداة جديدة لترسانتنا في علم الفلك تكون لدينا فرصة لفهم اشياء جديدة».