مثبطات اللهب.. مواد كيميائية خطيرة رصدت في حليب الأمهات الأميركيات

مركبات تحول دون انتشار النيران وامتداد الحريق تختلط بالمواد الغذائية

TT

منذ أكثر من عشر سنوات، رصد الدكتور أرنولد شيكتر، الباحث في الصحة العامة آثارا ضئيلة للمواد المسماة «المثبطات الكيميائية للهب» chemical flame retardants في حليب الأمهات الأميركيات. ويبدو أن هذه المركبات قد انتقلت إلى حليبهن عن طريق الدهون والشحوم في أجسامهن.

ويقول شيكتر، أستاذ الصحة البيئية في كلية الصحة العامة بجامعة تكساس بأميركا: «إن هذا الانتقال ليس غريبا»، فحليب الرضاعة غني بالدهون، أما المركبات التي كان يبحث عنها والتي تسمى «الإيثرلت الثنائية الفينيل المتعددة البروم» (polybrominated diphenyl ethers (PBDEs، فإنها مواد تتسكع في الدهون. والسؤال هنا هو كيف وصلت هذه المثبطات إلى أجسام النساء؟

* مثبطات اللهب أحد المصادر غير المتوقعة كانت الطعام، فقام شيكتر بتفحص متاجر الطعام الكبرى في دالاس ليجد مثبطات اللهب في الأطعمة الغنية بالشحوم كالزبدة، وزبدة الفول السوداني، وسمك السلمون، والفاصوليا بالفلفل الحار، واللحم المقدد. وهي موجودة بكميات ضئيلة كما أكد، مما أثار تساؤلات أزعجت الباحثين. فإذا كانت هذه المثبطات موجودة حتى في زبدة الفول السوداني، فأين يمكن أيضا أن تكون قد انتشرت؟ وما الأخطار التي تسببها؟

ومثبطات اللهب تحول دون انتشار النيران وامتداد الحريق بأساليب شتى، مثل قدرة النار على استهلاك الأكسجين، والعمل كمبردات كيميائية. وكان استخدام المواد الكيميائية قد ارتفع كثيرا في السبعينات إثر قيام المنتجين بوضع المواد الصناعية المركبة السريعة الاشتعال، والبلاستيك في منتجاتها. واليوم هنالك نحو 1.5 مليون طن من هذه المركبات التي تستخدم عالميا كل عام.

وثمة تركيبات ومستحضرات متنوعة مرتبطة بالكثير من التأثيرات الصحية الممكنة. وجميعها تجري دراستها، وبعضها حميد، والآخر يُشك أنه سرطاني، والبعض الآخر يبدو أنه يتدخل بعمل الهرمونات الطبيعية، لا سيما هرمونات الغدة الدرقية، بينما البعض الآخر مثل PBDEs يبدو أنه يؤثر على تطور الدماغ.

لكن لفهم هذه المخاطر الصحية واستيعابها، علينا معرفة مدى التلوث التي تسببها هذه المستحضرات على البيئة. وجاء الجواب واضحا، وهو أن مثبطات اللهب تظهر قدرة فائقة على الانتشار في كل الأمكنة.

في هذا الصدد تقول الدكتورة هيذر ستابليتون، الأستاذة المساعدة في العلوم البيئية في جامعة «ديوك»، التي تقوم بدراسة مثبطات اللهب منذ 15 سنة: «نحن معرضون لها في كل البيئات المعروفة».

* انتشار خطير وبعض الكيميائيات القديمة مثل PBDEs قد بطل استخدامها في الولايات المتحدة وأوروبا، لكنها صممت لكي يكون مفعولها طويل الأمد، وتظل موجودة في محيطنا. وبعض بدائلها الذي حل محلها، كالجيل الجديد من مثبطات الفوسفات العضوي، شرع يظهر أيضا في أماكن غير مرغوبة. فقد وجدت في طير البطريق، وفي بعض أنواع الدلافين التي تقطن المناطق القطبية، وفي بوم الحظائر في أميركا الشمالية، وفي بيض الطيور في إسبانيا، والسمك في كندا، وبشكل غير مباشر في النحل المنتج للعسل في البرازيل، والمغرب، والبرتغال. وقد اكتشفت هذه المواد الكيميائية أيضا في المنازل، والمكاتب، والأنفاق، والقطارات، والسيارات، والطائرات. وقد عملت ستابليتون على دراسة صدرت أخيرا، أظهرت أن مقصورات الطائرات تحتوي على مستويات عالية منها، التي ترشح من المقاعد والسطوح، وحتى الستائر التي تفصل بين درجات مقاعد الركاب. كما عثرت على مركبات منها في منتجات الأطفال. وأخيرا نشرت دراسة فحصت خلالها مثبطات اللهب الموجودة في الخيام والمعسكرات. فإذا قام قاطن هذه الخيام بوضعها في منطقة ساخنة جدا، تبدو كما لو أنها تنضح منها.

ويساعد النشاط الإنساني في نشر هذه المثبطات، غير أن انتشارها كلها على صعيد كوكب الأرض مرده استخدامها على المدى الطويل في المنازل والأعمال. ويجري غالبا رش المركبات على هذه المنسوجات والرغوات المستخدمة في الأثاث والأسرة وأغطيتها، لا إدخالها كيميائيا فيها، مما يجعلها تذرف وتسيل منها تدريجيا. وهي غالبا ما تلتصق بذرات الغبار التي لا تركد على الأرض والأدراج فحسب، بل إنها تنساب خارجا أيضا عبر الأبواب المفتوحة، والنوافذ، ومكيفات الهواء. وهي إذا ما انطلقت خارجا، يمكنها التنقل والانتشار عن طريق الريح والماء. ونحن ندرك ذلك من مواد مثل «دي دي تي» الطويلة المفعول.

* منازل موبوءة طبعا لا تنتشر هذه المثبطات كلها، بل يبقى قسم كبير منها في الغرف، فقد توصلت دراسة أجريت عام 2012 إلى أن غالبية المنازل الأميركية تحتوي غبارا ملوثا بمثبطات اللهب، كذلك أظهرت إحصائية أخرى جديدة وجود مجموعة واسعة من هذه المثبطات في مراكز العناية البشرية في ولاية كاليفورنيا، بما في ذلك PBDEs.

ومثل هذا الغبار قد يشكل بصورة خاصة خطرا على الأطفال الصغار الذين يزحفون ويدبون على الأرض، وبالتالي يضعون أيديهم في أفواههم، كما تذكر دراسة أجراها الدكتور إسا برادمان، المدير المشارك في مركز البحث البيئي وصحة الأطفال في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. وفي دراسة باكرة أجراها برادمان لقياس مثبطات اللهب في دماء الأطفال، وجد أنها مرتفعة جدا في أولئك الأطفال الذين يلعبون داخل منازلهم في غالب الأوقات في الأحياء الفقيرة، حيث الآباء والأمهات يترددون في السماح لهم باللهو في الخارج لأغراض سلامتهم.

ولا يمكن حتى الآن القيام بالمزيد لتحديد التعرض لهذه المثبطات، بيد أن برادمان يوصي بغسل الأيدي كثيرا، مع القيام بكنس الأرض خاصة في الأماكن التي قد يتعرض لها الأطفال لهذه المواد، علاوة على البحث عن منتجات خالية منها.

ويتطلب الأمر أيضا إجراء تغييرات في السياسة الوطنية، بما فيها إصدار قوانين تحد من استخدامها، مع وضع تقييمات أفضل عن خطورتها، وتمويل دراسات لوضع استراتيجيات بديلة للحماية من الحرائق. وهذا ما طالب به أيضا ثوماس زويلر أستاذ علم الأحياء الذي درس تأثيرات هذه المثبطات وأضرارها على عمل الغدة الدرقية، قبل وضع الأجيال المقبلة أمام المزيد من الأخطار.

* خدمة «نيويورك تايمز»