اضطرابات المعدة.. بين متعة الأكل وعذابه

التعامل السليم والصحي مع تناول الطعام الأساس في الوقاية والعلاج

TT

ربما يكون العنوان الأنسب لتلك العلاقة ذات المد والجزر المستمر بين تناول الطعام بأنواعه المختلفة وبين أعراض اضطرابات المعدة والمريء والإثنا عشر التي تنتج عن ويشكو منها كثير من الناس، هو المتعة والعذاب. والمتعة في تناول ما لذ وطاب. والتمادي فيه كيفما اتفق ودون أي ضوابط للنوع أو الكمية أو الكيفية وكذلك دون وضع أي اعتبار للأنشطة اليومية قبل وبعد تناول الطعام. هي متعة ما بعدها متعة. لكن المعاناة والعذاب هو ما يتبع غالباً أي انفلات في ممارسة أي من نشاطات الحياة. والأكل من أهمها. ولئن كانت الحكمة وأقوالها نادت بأن المعدة بيت الداء فإن من الطيش مجافاة اتباع ذلك. واليوم تتصدر المشاكل المكتسبة والمصطنعة للمعدة وبقية أجزاء الجهاز الهضمي الناجمة بالأساس من الاسراف والعشوائية في الأكل من جوانب شتى قائمة أسباب مراجعات العيادات الطبية والبحث عن وسائل العلاج.

إن من أبرز سمات الذوق الرفيع وأجملها هو حسن التعامل. والمرء نفسه وأعضاء جسمه وعقله وذهنه هم أولى الناس بمعروف التعامل الراقي. والمعدة أحد أهم ما يجب التعامل معه على هذا الأساس من الذوق واعتبار الخاطر إن صح التعبير، فهي «حمالة الأسية» لأن المرء وبعد استمتاعه بالطعام يُحيل كل شيء منه عليها في تجميعه. وتفتيت مكوناته وعصرها. ومن ثم تنظيم دفعه الى الأمعاء كي تهضم ما فيه وتمتص الخير وما يحتاجه الجسم منه.

المريء والمعدة كل منهما محتاج الى من يُراعي قدراتهما ويساعدهما في أداء عملهما وإلا فإن الاضطرابات ستعتري الكثير مما يدور في الجسم. وأحد أهم اضطرابات عدم التنسيق بين قدرات المعدة على احتواء كمية الطعام المتناولة وتعاملها السليم مع هضمها تصريفها الى الأمعاء بالتدرج هو ارتداد محتويات المعدة الى المريء. مما يتسبب في ظهور أعراض مزعجة ومؤلمة أحيانا على المدى القصير. واحتمالات ظهور حالات من الالتهاب المزمن في المريء بفعل أحماض المعدة التي لا قبل للمريء مقاومة تأثيرها الحارق والمتلف لأنسجته الرقيقة وكذلك احتمالات نشوء سرطان المريء لاحقاً. الحالة تعتبر من أكثر اضطرابات الجهاز الهضمي شيوعاً. إذْ في الولايات المتحدة وحدها، التي تُعنى بالإحصائيات الطبية بغية التخطيط السليم للعلاج وتحديد وسائله وسبل توفيرها وكيفية تقديمها، يعاني 60 مليون شخص منها. وتبلغ تكلفة معالجتهم سنوياً ما يربو على 10مليارات دولار.

* المعدة والمريء

* اليابانيون في احدى دراساتهم الأخيرة والمنشورة في عدد هذا الشهر من المجلة الأميركية للجهاز الهضمي يؤكدون أن قصر المدة ما بين تناول طعام العشاء والخلود الى النوم يلعب دوراً سلبياً مهماً ورئيساً في نشوء حالات ارتداد محتويات المعدة الى المريء. ولذا كانت نصيحة الدكتور ياسوهيريو فيوجيوارا من جامعة مدينة أوساكا اليابانية والباحث الرئيس في الدراسة أن النصيحة الأساس للمرضى الذين يعانون من حالة ارتداد محتويات المعدة الى المريء هي الانتهاء من تناول طعام العشاء أو أي وجبات أخرى ولو كانت خفيفة قبل موعد النوم بثلاث ساعات على أقل تقدير. وكان الغموض يحيط بالأمر بمعنى هل مرضى حالات المعدة هذه بالذات يمارسون سلوكاً في نمط وقت تناول العشاء بحيث تكون المدة قصيرة بين ذلك والخلود الى النوم. أم أن الأمر يحصل دون ذلك؟. بعبارة أخرى هل مخالفة الوسيلة العلاجية هي بالأساس سبب نشوء المرض؟. وهو ما حاولت الدراسة الإجابة عليه.

وهنا نقطة مهمة في الطب. وهي أن من المتفق عليه أن هناك وسائل علاجية ضمن سلوكيات الحياة لحالات عدة من الأمراض. مخالفتها لم يكن هو السبب في نشوء المرض بالأصل. كأن يُقال مثلاً تدليك عضلات الرأس والرقبة يخفف من الصداع. أو أن التقليل من تناول المأكولات الدسمة يُفيد في حالات الإسهال. أو الامتناع عن السباحة يقلل من استفحال حالات التهاب الأذن لدى السباحين. هذه كلها وسائل علاجية من المهم إتباعها للتخفيف من الحالات المرضية المصاحبة لكنها كلها لم تكن السبب في نشوء الأمراض المرتبطة به. واليابانيون بدراستهم الأخيرة حاولوا الإجابة على هذا السؤال المهم والأساس في الحديث عن هذه الحالة المرضية للمعدة والمريء وهو المدة بين تناول طعام العشاء والنوم. ولفهم الأمر تابعوا عبر أسئلة لمجموعة تقارب 150 مريضا من المصابين بحالة ارتداد محتويات المعدة الى المريء ومقارنة سلوكهم خلال العام السابق في العشاء والنوم مع حوالي ضعفهم أي 300 شخص من السليمين من هذه الحالة المرضية. وقد وجدوا أن قصر المدة بين تناول العشاء والخلود الى النوم سبب وذو علاقة قوية في نشوء حالة الارتداد المعدي هذه، فالناس الذين يخلدون الى النوم ضمن ثلاث ساعات ما بعد تناول العشاء هم عرضة للإصابة بارتداد محتويات معدتهم الى المريء بنسبة تقارب ثمانية أضعاف ما يحصل لدى من يخلدون الى النوم بعد أربع ساعات من تناول العشاء!. والخطوة التالية للباحثين اليابانيين هو فحص تأثير إطالة المدة الى أربع ساعات لدى المرضى في التخفيف من الأعراض المرضية لحالة الارتداد المعدي هذه دون الحاجة الى العلاج الجراحي أو تناول الأدوية في ذلك.

وأهمية إثبات فائدة هذا السلوك الحياتي البسيط كعلاج تأتي في مصاحبة نشر تقرير حول دور العلاج الجراحي ودور تناول العلاج الدوائي في تخفيف أعراض حالة ارتداد محتويات المعدة الى المريء. وهو التقرير الأول ضمن سلسلة من التقارير الطبية العلمية حول مقارنة وسائل العلاج المختلفة المُستخدمة في علاج مجموعة من أهم الأمراض وأوسعها انتشاراً. والتي تتولى إصدارها اللجان العلمية للوكالة الأميركية لمواصفات وأبحاث الرعاية الصحية. والهدف من إصدار سلسلة التقارير هذه هو تعريف الأطباء والجمهور بأحدث ما أثبتت فائدته الدراسات الطبية من وسائل العلاج والإرشادات الطبية حولها.

* تخفيف الأعراض

* في هذا التقرير إجابة بالتأكيد سارة للملايين ممن يعانون من هذه الحالة عشرات الملايين في أنحاء العالم. إذْ يقول إن الأدوية قادرة على أداء ما تقدمه المعالجة الجراحية في تخفيف آلام الحرقة وتلف المريء الناجمة عن الارتداد الحمضي المعدي اليه. وشمل التقرير أيضاً مقارنة أدوية المعدة القديمة كزانتاك أو تاغميت وغيرها من مُحاصرات مستقبلات أتش ـ 2، بالأدوية الأحدث والأقوى من مجموعة مثبطات مضخات البروتون كنيكسيم وبروتونكس ولوزك. وتبين أن لا مقارنة في قوة وفائدة المجموعة الأخيرة بالأدوية القديمة. وهي، أي مثبطات مضخات البروتون، مساوية في الفائدة والجدوى للعمليات الجراحية لفوهة المعدة في تخفيف الأعراض المرضية وتحسين نوعية حياة المرضى. ولذا علقت علية الدكتورة كارولين كلانسي مديرة الوكالة الأميركية المذكورة بأن ما نحاول قوله للناس هو: هذه هي المعلومات الطبية المتوفرة حول كيفية اتخاذ قرار إتباع أحد وسائل العلاج المتاحة وفق نتائج محصلة الدراسات الطبية المعتبرة. فهذا التقرير هو أول تقرير يعتمد المراجعة المقارنة للجدوى بين أنواع وسائل العلاج بناء على منهج «الطب المبني على البرهان». ولذا فإن اعتقاد البعض بأن العملية الجراحية هي نهاية مطاف المعاناة من ارتداد محتويات المعدة وأن بعدها لا حاجة لتناول الأدوية هو قول غير واقعي، غير صحيح بالتالي. لأن حوالي %65 من المرضى سيحتاجون الى الحبوب الدوائية، المخففة لإفراز المعدة لأحماضها، بعد إجراء العملية الجراحية!. كما وشمل التقرير طرح أن هناك أدلة علمية غير جازمة حول جدوى كل من العلاج الدوائي أو الجراحي في منع حصول تغيرات التهابية في بطانة المريء تُدعى التهاب باريت x أو في ظهور حالات سرطان المريء.

وسيكون التقرير التالي للوكالة هو حول الفحص الوقائي لسرطان الثدي ثم عن أدوية الاكتئاب وبعدها عن علاج مرض السكري. ولعله يتيسر لملحق الصحة في الشرق الأوسط عرضها حين صدورها.

* حرقة الفؤاد

* وتعتبر حالة ارتداد محتويات المعدة وخاصة أحماضها غير مفهومة بشكل كامل اليوم برغم شيوع الإصابة بها بين الرجال والنساء وحتى بين الأطفال. وتنتج عن ضعف وظيفي يعتري العضلة العاصرة أو المقفلة لفوهة المعدة. والضعف الوظيفي يأخذ عدة أشكال منها طول مدة ارتخائها بمدة تفوق المعدل الطبيعي والضروري لمرور الطعام أو الشراب أو اللعاب من المريء الى المعدة. وقد يكون بسبب اضطراب وظيفي ينتج عنه الارتخاء إجباريا بفعل عوامل عدة. فنحن لو نظرنا لوجدنا أن من الضروري والبدهي وجود قفل لفوهة المعدة. هذا القفل العضلي ينقبض كي يغلق فوهة المعدة بفعل عوامل مؤثرة وينبسط ليفتحها أيضاً بفعل عوامل أخرى. وخروج محتويات المعدة الحمضية وارتدادها يؤثر على بطانة المريء الحساسة وغير المهيأة للتعامل مع الحمض. فيحصل تفاعل التهابي يشعر المرء على إثره بأمرين مهمين: الأول حرقة في منطقة الفؤاد أو في منطقة فوهة المعدة. فأي شعور بحرقة في هذه المنطقة أكثر من مرتين أسبوعياً يمكن اعتباره مؤشراً على وجود الارتداد بحسب نشرات المؤسسة القومية للصحة في الولايات المتحدة. ومن المهم أيضاً التنبه الى أن هناك بعضاً ممن يعاني من هذه الحالة دون الإحساس بالحرقة في منطقة الفؤاد مطلقاً. والثاني هو الإحساس بطعم حمض المعدة في الفم نتيجة خروجه الى المريء. وهناك حالات يشعر فيها بعض المرضى بألم في الصدر يشبه الى حد بالغ ما يحس به مريض شرايين القلب حين شكواه من ألم الذبحة الصدرية. كما أن البعض الآخر قد يشعر بصعوبة ومشقة أثناء بلع الطعام كأنه يعلق في الحلق أو الصدر. والأهم من كل هذا فإن البعض قد يعاني من سعال جاف خاصة أثناء الليل. وهو ما أثبتت الدراسات في السنوات الماضية على أنه أحد ثلاثة أو أربعة أسباب رئيسة للسعال المزمن. كما أن الكثير منهم يعاني من رائحة النفس أو الفم غير المحببة.

لا أحد يعلم حتى اليوم لما يعاني البعض من الناس دون البعض الآخر منهم من حالات ارتداد محتويات المعدة الى المريء. والبعض يرى أن فتق الحجاب الحاجز والذي هو اسم على مسمى يحجز محتويات البطن من الأعضاء كالمعدة من الدخول الى تجويف الصدر عبر الفتحة الطبيعية في الحجاب. إن فتقاً أو اتساعاً في فتحة الحجاب الحاجز قد تسبب تسريباً لجزء من المعدة الى ما فوق البطن وبالتالي يسهل ارتداد محتواها من الحمض. الأسباب الأخرى للارتداد تشمل تناول المشروبات الكحولية وزيادة وزن الجسم والحمل والتدخين.

كما أن تناول بعض أنواع الطعام يؤثر على قوة انقباض العضلة العاصرة لفوهة المعدة كالفواكه من الحمضيات وأكل الشوكلاتة وتناول المشروبات المحتوية على الكافيين والأطعمة الدسمة وخاصة المقلي منها وأكل الثوم والبصل وبعض أنواع من التوابل إضافة الى الطماطم والأطعمة المحتوية على صلصتها كالبيتزا ومرق السباغيتي وغيرها. ولذا فإن العلاج يأخذ طريقين: الأول: السلوك الحياتي اليومي لنمط الغذاء الصحي إضافة الى ما هو خاص بهذه الحالة دون غيرها:

ويعمل على التخفيف من أثر الأسباب ليشمل التخفيف أو قطع تناول ما يثير الأعراض ويقلل من انقباض العضلة العاصرة لفوهة المعدة. كالامتناع عن التدخين وشرب الكحول والعمل على خفض وزن الجسم وتناول الوجبات القليلة الكمية والمحتوى من الدهون والطماطم والبهارات وغيرها. وتجنب الملابس الضيقة والعاصرة على البطن من مشدات وغيرها. وتجنب التمدد أو النوم بعد تناول الطعام لمدة ثلاث ساعات على أقل تقدير. والنوم على وسائد مرتفعة تشمل رفع الكتفين أيضاً. وهنا تلعب خبرة المريض دوراً مهماً حيث انه من خبرته يستطيع معرفة ما يؤذيه فيتجنبه. ثانياً: العلاج الطبي: ويشمل الأدوية أو العمليات الجراحية. والهدف الأساس من تناول الأدوية هو خفض درجة حمضية محتويات المعدة. ولذا فإن الأدوية الأقوى مفعولاً في تحقيق هذا الأمر هي الأكثر فائدة وراحة للمريض. وإذا ما استمرت الأعراض برغم كل هذا فإن إجراء منظار للمعدة والتصوير بالأشعة السينية لحركة المرور خلال المريء لسائل ملون وصولاً الى المعدة إضافة الى إجراء قياس مدة 24 لنسبة حمضية المعدة. الحاجة الى المعالجة السليمة ضرورة من جانبين. الأول تخفيف الأعراض والثاني منع المضاعفات على المدى البعيد.

* الأطفال ومشاكل المعدة > تشير كثير من الدراسات الى أن مشاكل المعدة من ارتداد محتواها الى المريء أو قروح المعدة شائعة بين الأطفال بشكل يغفل عنه الكثيرون من الأطباء ومن الآباء والأمهات، مثل حالات القيء المتكرر والسعال وغيرها من اضطرابات الجهاز الهضمي. ولعل أحد أسباب نصائح الأطباء للأمهات عند العناية بتغذية الأطفال الرضع من وضع الطفل بعد الرضاعة في وضع الوقوف لمدة نصف ساعة وحث الطفل على التجشؤ بالتربيت على الظهر قليلاً وبلطف وغيرها هي من أهم وسائل حماية الرضيع من الإصابة بالارتداد المعدي ومن ثم حصول حالات من ألم البطن والصراخ حينها أو ظهور حالات السعال والتهابات الجهاز التنفسي نتيجة إثارة الحلق أو القصبات بمحتويات المعدة الحارقة.

الأطفال الأكبر سناً عرضة بشكل أكبر لهذه الحالة نتيجة كثرة تناول المشروبات الغازية المحتوية على الكافيين أو عصير البرتقال وكثرة تناول الشوكلاتة وحلويات النعناع والبيتزا والمقليات والمقرمشات وغيرها من أصناف الطعام. قروح المعدة لدى الأطفال غالباً لا تنتج عن الإصابة ببكتيريا هيليكوبكتر بايلوري أو بكتيريا المعدة الحلزونية، بخلاف التهاب المعدة، وإن كان الأطفال عرضة لها كما الكبار وتؤثر عليهم مستقبلاً. فإن تناول الأدوية المسكنة للألم من مجموعة غير الستيرويدية هي سبب غالب مشاكل قروح المعدة لدى الأطفال. الإصابة بالبكتيريا تصيب حوالي 10 % من الأطفال و80 % من البالغين في الدول النامية. أما في الدول المتقدمة فمن النادر إصابة الأطفال بها وتصيب 40 % من البالغين. إن الاختلاف في مدى انتشارها بين أطفال الدول المتقدمة عن الدول النامية هو ربما يفسر قول كثير من الباحثين في الدول الغربية أن البكتيريا لا تسبب مشاكل للأطفال مما يملي إجراء دراسات للمقارنة أوسع.