أحد أدوية القلب.. لمداواة جراح النفس

علماء من كندا يدرسون عقاقير لعلاج الذكريات الأليمة ووسائل إزالتها

TT

يعود هذه الأيام مجدداً طرح استخدام بروبرانولول propranolol كأحد الحلول العلاجية لمشكلة الذكريات الأليمة، أو ما يصطلح طبياً على تسميته اليوم «توتر ما بعد الأحداث الأليمة» Post-traumatic stress disorder (PTSD)، تلك التي تؤرق الكثيرين. والعقار بالأصل هو أحد الأدوية التي يصفها عادة أطباء القلب لعلاج اضطرابات إيقاع النبض أو ارتفاع ضغط الدم، لكن الباحثين من كندا يرون أن له أيضاً دوراً واعداً في تخفيف التهيج الذي ينتاب البعض كلما مرت بخاطره ذكريات حوادث سبق أن تعرض لها.

حتى اليوم لا يوجد علاج دوائي للتخفيف من المعاناة والاضطرابات النفسية ذات الصور المتعددة، والتي تعصف بالمرء من آن لآخر في مرحلة ما بعد التعرض لحادث يسبب توتراً نفسياً شديداً. ويفسر بعض الباحثين في علاج الاضطرابات النفسية والعصبية ممن يعقدون آمالاً كبيرة على بروبرانلول في تخفيف حدة تأثير خواطر الذكريات الأليمة، بأن هذا الدواء من مجموعة محاصرات البيتا، أو بعبارة أخرى التي تلغي عمل مستقبلات خاصة موجودة ضمن تراكيب أغشية مجموعة من خلايا الجسم ومنها خلايا الدماغ والقلب والرئة، مما يجعل هذه الخلايا لا تتأثر بمفعول المواد التي تهيجها وتثير فيها التوتر والنشاط المفرط غير المنضبط.

* تخفيف التوتر

* وبناء على هذه النظرية فإن محاصرات مستقبلات بيتا تلغي تأثير هورمونات التوتر كالأدرينالين وغيره من العبث بخلايا عصبية خاصة في مناطق معينة من الدماغ، أسوة بما تفعله في القلب من تهدئة نشاط خلايا القلب التي ترفع من وتيرة معدل إيقاع نبض القلب وزيادة سرعة دقاته. وبالرغم من عدم توفر نصيحة طبية حول السماح باستخدام بروبرانولول في علاج مثل هذه الحالات النفسية بالذات، خاصة من قبل إدارة الغذاء والدواء الأميركية، إلا أن كثيراً من الأطباء في كندا والولايات المتحدة يصفونه لمرضاهم ضمن ما يُعرف بنظام وصف الدواء دون طابع تعريفي، off-label وهو نظام لعل الفرصة تسنح للحديث عنه مستقبلاً في ملحق الصحة ضمن طرح موضوع وصف الأدوية من قبل الطبيب وضوابط ذلك القانونية. ويهدف من يصفه للمرضى من الأطباء إلى تخفيف تأثيرات استرجاع الذكريات الأليمة على النفس والذهن، وليس إلى إلغاء الذكريات الأليمة أصلاً. ويوضح الأمر الدكتور إلين برينت من جامعة ماكغيل في مونتريال بكندا بقوله الغاية ليس أن لا يعود الناس يتذكرون ما يُؤلمهم من أحداث سابقة مرت بهم، بل هو أن الذكرى حينما يسترجعها الذهن لاحقاً لن تكون أليمة على النفس. ويأمل أن يكون تناول هذا الدواء لهذه الغاية بالذات عاملاً مساعداً في تقليل نسبة الإدمان ونوبات الخوف المرحلي والرعدة أو الرجفة وحتى نوبات الصرع التي تنتاب البعض حينها، والتي تنجم كلها عن اضطرابات في استجابة خلايا مناطق من الدماغ واختلال ترتيب تراكيب الذاكرة الذهنية.

ويعود الفضل في التنبه إلى دور بروبرانولول في تخفيف آثار الذكريات الأليمة إلى كريم نادر أحد المتخصصين النفسيين في جامعة ماكغيل، حيث سبق له الكشف عن أن حفظ الذكريات القديمة ليس شبيهاً تماماً بما يحصل في ذاكرة الكومبيوتر أو القرص الصلب له، الأمر الذي كان يُظن في السابق. وأضاف إن مما ظل مسيطراً لمائة عام مضت كعقيدة علمية هو الاعتقاد بأن من الصعب التعامل مع ما تم خزنه في الذاكرة، وأن ذكرى أي شيء تظل غير مستقرة في الذهن أول 6 ساعات ثم بعدها تتحول إلى شيء ثابت ومستقر في الذهن ذي طبيعة صلبة إلى الأبد على حد وصف النفسيين.

* ذكريات أليمة

* الذي يطرحه النفسيون اليوم هو أن ترتيب شبكة الأسلاك والخطوط إن صح التعبير داخل الدماغ والذهن يتغير كلما دخل شيء جديد إلى مكونات قسم الذكريات البعيدة في الذهن، وأن الذكريات نفسها تتفاوت في قوة تأثيرها على النفس أيضاً، فهي ليست متساوية من ناحية الأهمية، ولذا يقول كريم نادر إن المرء يتذكر يوم زواجه أفضل بكثير من تذكره شيئاً غير مهم جرى له قبل ثلاثة أسابيع مثلاً. ويضيف إن هناك من الذكريات العاطفية ما يثير عادة عملية في الدماغ تساعد على رفع تأثيرها وقوتها على ذهن الانسان، وهو ما يُدعى مفتاح الرفع أو الزيادة Gain switch، كمفتاح رفع قوة صوت الراديو مثلاً.

الدراسات الطبية أشارات إلى أن تذكر المرء لحوادث تهيج عواطف الذهن لديه يؤدي إلى زيادة إفراز هورمونات التوتر كالأدرينالين من مناطق معينة من الدماغ خاصة من منطقة لوزة الدماغbrain"s amygdale ومنطقة لوزة الدماغ هذه هي المرتبطة بشكل مباشر في تعلم العواطف وحفظ ذكرياتها. وكلما تذكر المرء ما تعرض له من حوادث مهمة وأليمة، فإن الدماغ تعلم أن علبة زيادة إفراز هرمونات التوتر عبر تشغيل «مفتاح الزيادة» المتقدم. ومن ثم فإن الكمية العالية من هرمونات التوتر التي توجد حينها في الدماغ تعمل على اضطرب الدماغ وتهيج الأحزان، ويظهر التأثير هذا في الدماغ بقوة كأن الحادث هذا حصل للتو. ولأن الانسان كما يقول نادر لا سلطة لديه على التحكم في الذاكرة أو استرجاع مكنوناتها، فإن هذه الذكريات الأليمة تغزو مناطق الوعي بشكل مفاجئ دونما حيلة لنا إزاءها بالمنع مثلاً، وتترك أثراً عنيفاً يظهر على هيئة أعراض قد تصل إلى الهلوسة والصراخ أو البكاء. والذي يعمله بروبرانولول هو إعادة ضبط مستقبلات البيتا في لوزة الدماغ كي تصبح لديها مناعة أو مقاومة أو تتبلد استجابتها عند استرجاع ذكريات أليمة فلا تتأثر أو يخف تأثرها وبالتالي تمر نوبة الذكرى بسلام. الباحثون أكملوا التجارب على حيوانات المختبرات عام 2003، وهم الآن ومنذ زمن في طور الدراسات على الانسان في كندا والولايات المتحدة. وتتضمن الدراسات رصد التغيرات في الجسم كنبض القلب وضغط الدم وتعرق الكف وغيرها من المؤشرات الفسيولوجية عند تذكير المشاركين في الدراسة بذكريات أليمة. الدراسة ما زالت تجرى حتى اليوم وكثير من المراقبين الطبيين ينتظرون نتائجها.

والحقيقة أنه على الرغم من معاناة الناس منذ القدم من أحداث تركت بصمات واضحة ومؤثرة على حياتهم ونفسيتهم، إلا ان الاعتراف الطبي الرسمي بوجود هذا الاضطراب العصبي النفسي تأخر حتى ثمانينيات القرن الماضي. ويشغل هذا الموضوع شرائح متنوعة الأطياف في العديد من دول العالم ومجتمعاته لأسباب عدة أهمها أن العالم لم يعد آمناً كما كان في السابق، ولذا يعاني الكثيرون في مناطق شتى من العالم منه. ومع أنه لا توجد إحصائيات دقيقة حول حجم ومدى المعاناة منه، إلا أننا لو نظرنا فقط إلى حصول الكوارث الطبيعية وحدها على سبيل المثال في السنوات القليلة الماضية، حيث حصل الكثير منها بشكل لم تعرفه البشرية من قبل وارتفعت حالات الترقب لبعضها من أعاصير وزلازل وأوبئة، ناهيك عن غيرها من كوارث صنعتها يد الانسان كحالات العنف الأسري والإدمان والجريمة وحوادث السير، التي جعلت من القلق سمة عالمية للناس اليوم، إما معاناة من أحداث مضت أو تأثراً بما يحصل لبني البشر الآخرين من كوارث تنقل مشاهدها وسائل الإعلام ليعيشها بقية العالم، فمشاهد أمواج تسونامي أو دمار إعصار كاترينا الذي كنت قد عرضت الجانب الصحي له في الشرق الأوسط، كلها بلا شك قد رفعت من نسبة المعانين من هذه الحالات النفسية. والموضوع متشعب اليوم لدى الباحثين النفسيين وغير النفسيين من أطباء في تخصصات شتى، وحتى لدى غيرهم من اقتصاديين وتربويين وغيرهم. ومما لا شك فيه أن موضوع تأثر الأطفال بالذات بالتوتر ما بعد الحوادث الأليمة يستحق الكثير من البحث، وهو ما للملحق عودة إليه.

* أعراض «توتر ما بعد الأحداث الأليمة» > تقول الرابطة الأميركية لأطباء الأسرة إن اضطراب التوتر ما بعد الحوادث هي واحدة من مشاكل القلق، التي تظهر بعد المعاناة من أحداث مهددة للحياة أو ذات طبيعة مؤلمة. وعادة هذه الأحداث تترك الإنسان عرضة للخوف أو الشعور بفقدان العون من الغير، مثل معايشة أحد الكوارث الطبيعية أو حوادث السيارات أو حضور مشاجرات أو أحداث عنف دامية أو الاغتصاب وغيرها. وتعتمد الاصابة بهذا النوع من القلق النفسي على عدة عوامل منها حدة الحدث وقوته ومقدار الضرر الذي خلفه والمدة التي استمرت فيها الأحداث، ويتأثر بها غالباً الأشخاص القلقون بالأصل أو من لديهم اكتئاب أو أي نوع من الاضطرابات النفسية، أو من سبق لهم التعرض في السابق لحوادث مماثلة.

وقد تظهر أعراض هذا الاضطراب النفسي مباشرة بعد الحدث أو بعد عدة شهور أو سنوات، وتشمل الأعراض ثلاث مجموعات هي المعاناة من إعادة تكرار معايشة الحدث، ومعاناة محاولة منع التفكير فيه أو أي شيء مرتبط به، والمعاناة من شعور الإنسان أنه على مشارف الهاوية. وتشمل هذه الأعراض:

ـ ارتجاع تذكر الحدث، كوابيس الأحلام أو حتى الهلوسة حول أمور غير حقيقية وغير موجودة.

ـ الاغراق في محاولة نسيان الحدث والبعد عن الأماكن أو الأشخاص الذين يذكرون به.

ـ عدم القدرة على تذكر أجزاء معينة من مجريات حصول الحدث.

ـ الإحساس بتبلد الشعور نحو الآخرين أو الانفصال عنهم.

ـ اضطرابات في النوم.

ـ توتر التصرفات في الحياة اليومية وسهولة الغضب.

وغالباً ما يشعر المصابون بالاحباط مما يدفع بعضهم إلى الإدمان على المخدرات أو الكحول أو الانحراف السلوكي.