الالتهابات.. العامل الخفي والمشترك للكثير من الأمراض

مرض الشرايين والقلب والسكري والسرطان والزهايمر.. تحدث بسببها

TT

* تقرير هارفارد

* اظهرت الابحاث أن الالتهابات المزمنة قد تكون العامل المشترك للعديد من الامراض.

ولدى البحث في تقليل المخاطر الصحية، يتوجب علينا المحافظة على عدد من الامور التي ينبغي تجنبها، أو الالتزام بها، فمثلا علينا التخلي عن الدهون المشبعة للحفاظ على شراييننا الدموية نظيفة، والابتعاد عن النشويات تفاديا للاصابة بداء السكري. وكذلك علينا التوقف تماما عن التدخين لئلا نصاب بسرطان الرئة، أو القيام بحل فزورات الـ «سودوكو» للتغلب على فقدان الذاكرة! فضلا عن ممارسة التمارين الرياضية دائما. أليس من المناسب لو كانت هناك خطوة واحدة لا غير، أو مسعى مشترك واحد يوجهنا نحو الصحة الكاملة، مثلما هو الحال لدى القيام بالتسوق والتبضع؟ رغم أنه لا يوجد هناك درب واحد يوصل الى الصحة الكاملة هذه، إلا أن ثمة دلائل متزايدة تشير الى سبب كامن مشترك لجميع الامراض التنكسية الرئيسية. إن أعتى الامراض الأربعة في عالم الطب مثل مرض الشرايين والسكري والسرطان والزيهايمر قد تكون تمتطي الجواد الاطهم ذاته ألا وهو الالتهابات.

الابحاث في قضايا الالتهابات قد غيرت من مفاهيم التفكير الطبي، فخلال ألفيتين من الزمن كان ينظر الى الالتهابات على أنها أمر ضروري، وحتى كاستجابة، أو رد فعل مفيد للامراض والجروح. لكن اليوم يظهر كلا نوعي الدراسات الرصدية والمختبرية أن الالتهابات قد تكون لعنة لا نعمة، وهي العامل الشائع المسبب للعديد من الامراض.

* ما هو الالتهاب؟

* الالتهاب هو جزء من الاستجابة المناعية، أي انها عملية تعتمد على النشاطات والافعال الطبيعية لخلايا الدم البيضاء والمواد الكيميائية التي تنتجها، مثل مضادات الاجسام والسيتوكاينز cytokines والمواد الاخرى المشابهة. وخلال العقود الاخيرة تعرف العلماء على العشرات من الجزيئات المناعية والالتهابية الجديدة والاساليب التي تتفاعل بموجبها. والمعلومات الخاصة بهذه الاساليب واتجاهاتها تعني أن الالتهابات يمكن تنشيطها وإيقافها بطرق مختلفة، لكن المشكلة هي إذا ما تركت دون علاج من دون سبب واضح.

ولتبسيط الامور ما زال علماء المناعة يصفون الالتهابات على أنها تعتمد على أسلوبين أساسيين، الاول هو المناعة المتأصلة التي تعتمد على الحبيبات granulocytes وما يتممها. والحبيبات هذه عبارة عن خلايا دم بيضاء لا تعيش طويلا تحتوي على حبيبات مليئة بإنزيمات تقوم بإذابة المواد الغريبة على الجسم، أما ما يتممها فهي مجموعة من البروتينات الدوارة التي تنتج سلسلة غزيرة من النشاط الانزيمي في حضور الميكروبات. أما الاسلوب الثاني فهو المناعة المكتسبة التي توجه مباشرة الى الميكروبات التي غزت الجسم قبلا، وهي من مسؤولية خلايا الدم البيضاء اساسا، والتي تدعى «اللمفاويات»lymphocytes . والليمفاويات التائية، أو الخلايا التائية هي عبارة عن القائدة الاستراتيجية للعملية التي توجه الخلايا والمواد الكيميائية لاستئصال العدو الغازي. أما الليمفاويات البائية، أو الخلايا البائية فتقوم بانتاج مضادات الاجسام التي تتعلق بمسببات المرض (الممرضات) المحددة مع استدعاء المتممات والمكملات المشاركة للمساعدة في القضاء على الغازي. وتقوم البلاعم macrophages، التي هي في الواقع الملتهمات الكبيرة التي تعيش على الفطائس بالقضاء على بقايا الميكروبات والحبيبات وأنقاض الخلايا الناجمة عن «الاشتباكات». وهي أثناء تنظيفها والتخلص منها، تعالج البلاعم أيضا المعلومات الخاصة بمسببات المرض الافرادية وتنقلها الى اللمفاويات التي تخزنها للرجوع اليها مستقبلا.

وأثناء التخلص من مسببات المرض تقوم الخلايا التائية بوضع حد للاستجابة الالتهابية لكي تبدأ عملية تجديد النسيج من جديد الذي أصيب بالتلف نتيجة الاشتباك مع الغازي، أو بسبب «النيران الصديقة» الصادرة عن نظام المناعة. وتصل الارومات الليفية وهي خلايا تنتج الكلاجين (مغراء) والفبرين (ليفين) لتركب سقالة لانتاج الخلايا النسيجية الجديدة، فإذا كان التلف كبيرا يقوم الفبرين والكلاجين بزيادة سماكته بما يكفي للحلول محل النسيج الأصلي مشكلا ندبة.

* الالتهابات المزمنة

* في القرن الاول الميلادي وصف الطبيب الروماني أرليوس كورنيليوس سيلسس العلامات الاربع الكبار التي تنم عن وجود الالتهاب فقال «كالور» (الحرارة)، «دولور» (الالم)، «روبور» (الاحمرار)، «تيمور» (الورم). وما زالت هذه المصطلحات اللاتينية تستخدم لتعليم طلاب الطب في يومنا هذا. لكن الاعراض هذه ما هي إلا اشارات صغيرة عن الورم المزمن، ففي أغلب الاحيان يبقى الالتهاب المزمن مخفيا على المريض وعلى الطبيب أيضا. وهو يحدث عندما لا يجري القضاء كليا على العامل الذي اطلق شرارة الاصابة، أو عندما لا تستدعي الخلايا التائية القامعة، نظام المناعة وتبطل عمله بعدما يكون الجسم قد رد العدوان.

وجميعنا نحن البالغين، لدينا مستوى ما من الالتهاب الذي يشن حرب استنزاف على الانسجة والاعضاء، التي يمكن رؤية دلائل نشاطه في فحوصات الدم. ولكن هذا النشاط لو تعدى مرحلة، أو مرحلتين، يمكن لهذا الالتهاب المزمن التهام الجسم بحيث يصبح التلف كبيرا.

وفي الواقع لدينا بعض دلائل التهابات كاسحة، التي تجتاح عادة الحدود المرسومة لها، فقد دلت الدراسات الرصدية مثل دراسة «فرامنغهام هارت ستدي» و«نيرسيس هيلث ستدي» معدلات منخفضة من الامراض التنكسية في الاشخاص الذين يتناولون عادة عقاقير مضادة للالتهابات غير ستيرودية NSAID بانتظام لمعالجة آلام والتهابات المفاصل (أرثرايتس). كما لوحظت معدلات عالية من بروتينات رد الفعل «سي C» (CRP) التي هي إشارة الى وجود التهاب يقترن بالعديد من الامراض.

لكن في أغلب الاحيان يجري تنظيم أفكارنا المتعلقة بالامراض حسب نظام الاعضاء. من هنا مال العلماء الى التركيز على اساليب الورم التي تستهدف أعضاء أو نسجا محددة. من هنا شرعوا في تفهم كيفية قيام الالتهابات بتمهيد الطريق الى الامراض والحالات التالية:

* القلب

* دلت الابحاث الخاصة بالاوعية القلبية ان الالتهابات تعمل بالتناسق مع، أو عند إزدياد معدلات كوليسترول الشحومات الخفيفة LDL التي ينتج عنها تصلب الشرايين، فعند ارتفاع ضغط الدم تصبح هذه الشحومات مؤكسدة، وهذا ما يجعلها معروفة من قبل نظام المناعة، وعرضة أيضا الى الالتهام والهضم من قبل البلاعم. وتقوم البلاعم المحملة، أو المشبعة بالشحوم بقدح شرارة نشاط المكملات التي تتلف بطانة الاوعية الدموية، تلك الطبقة من الخلايا التي تبطن داخل الاوعية الدموية. وتتسلل البلاعم وحمولتها من الدهونات والشحوم عبر الصدوع الناتجة لتكمن الى جانب الجدار الشرياني، حيث تتغلف هناك داخل قشرة من الفبرين (ليفين) لتشكل لويحة ترسبات (بلاك) شريانية. وكلما نمت اللويحة وتوسعت وزاد الضغط على طبقتها من الفبرين، كلما زاد خطر تمزقها وتصدعها مشكلة خثرات من شأنها أن تسد مجرى الشريان القلبي الذي يزود الاوكسجين الى عضلة القلب. وهنا تبدأ نسج القلب التي يغذيها الشريان بالموت مسببة سكتة قلبية.

واثبتت الدراسات أن الاشخاص الذين تصل معدلات الـ CRP لديهم الى الثلث الاعلى معرضون بنسبة مرتين للسكتات القلبية مقارنة بالاشخاص الذين يتراوح الـ CRP لديهم في الثلث الاسفل. ويزداد الخطر أيضا اذا كان الشخص يعاني من ارتفاع نسبة الكوليسترول. لذلك فإن الكثير من الاطباء يضيفون فحص نسبة CRP الى مجموعة الفحوصات والاختبارات الخاصة بالبالغين.

* السكري

* أظهرت العديد من الدراسات الرصدية أن الاشخاص الذين يعانون من ارتفاع نسبة CRP معرضون أكثر من غيرهم الى قيام أجسامهم بمقاومة الانسولين، وهي إشارة الى الاصابة الكاملة بالسكري بحيث تقوم خلايا الجسم برفض الانسولين، وبالتالي عدم تمثيل الغلوكوز الذي يدور في الدم تمثيلا غذائيا (الايض). واكتشف الباحثون أيضا أن الاشخاص الذين يصابون في النهاية بالسكري يملكون مستويات عالية من الجزيئات المسببة للالتهابات بما في ذلك TNF وهي جزيئات تنتجها البلاعم والخلايا التائية.

ويبدو أن TNF تزيد من انتاج الكبد للغلوكوز وللشحوم الثلاثية (ترايغليسرايدس)، كما تتدخل في عمل واجبات ومهام الانسولين كمرافق للسكر في الدم. وأكثر من ذلك فان للانسولين ذاته تأثيرا خاصا مضادا للالتهابات. لذلك فان الالتهابات لا تقوم بتهيئة المسرح لمقاومة الانسولين، لكنها تضاعف وتسرع ايضا هذه العملية، وبالتالي الاصابة بالسكري الكامل.

* السرطان

* قبل 150 سنة تقريبا أطلق عالم الامراض رودولف فيرشو على مرض السرطان بـ «الجرح الذي لا يلتئم» بعدما لاحظ أن نسيج الاورام السرطانية الخبيثة يحتوي على تركزات عالية من الخلايا المسببة للالتهابات، وأفترض أن الاورام هذه تشكل غالبا مواقع للالتهابات المزمنة. وأظهرت الادلة الحديثة أنه كان على حق، لان نحو 15 في المائة من الامراض السرطانية بما في ذلك سرطانات الكبد وعنق الرحم والمعدة لها علاقة مباشرة ووثيقة بالامراض المعدية، فدخان السجائر والاسبستوس يحتويان على مواد مسببة للالتهابات، والتعرض للاول يسبب سرطان الرئة، والتعرض للثاني يسبب الـ «ميزوثيليوما» وهو سرطان بطانة نسيج الصدر.

واكثر من ذلك أظهرت الابحاث المخبرية أن منتجات التفاعلات الالتهابية مثل أنواع من الاوكسجين الناجم عن ردود الفعل يتلف الحامض النووي الريبي المنقوص الاوكسجين (دي إن إيه) في الخلايا منتجة جينات متحولة (ممسوخة) تؤدي الى السرطان. وتقوم البلاعم التي تحشد الجزيئات في العملية الالتهابية بتمخيض وتهييج العديد من عوامل النمو السرطاني، كما يظهر أنها تحث على الـ «أنجيوجينيسيس» التي هي عملية نمو أوعية دموية جديدة تقوم بتغذية الخلايا السرطانية بالدم. وبإيجاز يبدو أن الانسجة الخبيثة تبدأ بالسيطرة على العديد من الاسلحة المقاومة للالتهابات التي ترسل وتشرع للقضاء عليها.

* الزهايمر

* كان الاطباء يعتقدون أن الجهاز العصبي المركزي هو خارج سيطرة جهاز المناعة، إذ يعمل حاجز الدم/الدماغ المكون من شعيرات مشدودة بعضها الى بعض مثل محام دفاع يعزل الخلايا والجزيئات المسببة للالتهابات بحيث لا تدخل الى الدماغ. لكن الدراسات الرصدية وجدت روابط بين «الاسبرين والايبوبروفين والنابروكسين» التي نشير اليها هنا بـ NSAID ومثبطات COX-2 وغيرها من الادوية والعقاقير المضادة للالتهابات التي تخفض خطورة الاصابة بالزهايمر. علاوة على ذلك قد يكون للدماغ فرعه الخاص من نظام المناعة، حيث تقوم الخلايا داخل الدماغ التي تدعى «مايكروغليا» microglia التي هي نظيرة البلاعم، بالتهام المواد الاجنبية الدخيلة واطلاق TNF-a والجزيئات الاخرى المقاومة للاتهابات. إلا أن الانتاج الزائد لجزيئة تدعى «بيتا ـ أميلويد» beta-amyloid من شأنه أن يلعب دورا مهما في إبتداء مرض الزهايمر، لكن مع اشتراك الاستجابة المناعية ربما أيضا. ولكن حالما تقوم «مايكروغليا» بالتهام «بيتا ـ أميلويد» تصبح مغلفة بالفبرين مشكلة خصائص لويحات المرض.

* الوقاية من الالتهابات

* باتت الالتهابات حقلا خصبا للابحاث، إذ إن الجين المنتج لبروتين «سيلينوبروتين إس» selenoprotein S الذي يلعب دورا محوريا في السيطرة على الالتهابات قد يؤدي الى التنبؤ، عن طريق الاختبارات، بمرض الاشخاص الذين هم عرضة أكثر من غيرهم الى الاصابة بالاضطرابات الالتهابية، والى تطوير عقاقير جديدة للالتهابات المزمنة. وهناك الان العشرات من العوامل المضادة للالتهابات في الاسواق التي تراوح بين الاسبرين العادي الى الجزيئات العالية التقنية المصنعة بالهندسة الحيوية لعلاج الربو والتهاب المفصل الرثياني والتصلب اللوحي المتعدد (إم إس). واستخدام NSAID هو فعل متوازن، لانه في الوقت الذي يقوم فيه بتخفيف نيران الالتهابات الا انه قد يسبب ايضا نزيفا في المعدة وتلفا في الكبد والكلى. أما مثبطات COX-2 ، خاصة «روفيسوكسب» (فيوكس)، فقد ارتبط اسمها بـ زيادة نسبة مخاطر السكتات القلبية. ومع ذلك فإن جرعة يومية مقدارها 81 مليغراما من الاسبرين بالنسبة الى الاشخاص الذين هم على درجة عالية من الخطورة بالنسبة الى السكتات القلبية، هي أفضل علاج.

والاجراءات الطبية العادية قد تساعد أيضا، كالفحص الدوري للاسنان رغم تضارب الادلة، لكن بعض الابحاث اشارت الى علاقة محتملة بين أمراض اللثة وأمراض القلب والشرايين. ينبغي تناول الجرعة الكاملة الموصوفة من مضادات الحيوية لمنع الالتهابات التي تدوم وتتسكع، أو عودة الاصابة بها عن طريق سلاسل البكتيريا المستعصية (المقاومة المكتسبة لمضادات الحيوية).

وتبقى الوجبات الغذائية المنخفضة السعرات الحرارية والتمارين الرياضية المعتدلة هي أفضل وسيلة للحيلولة دون الاصابة بالامراض الالتهابية التنكسية. ثم إن البدانة مرتبطة بـ معدلات الـ CRP وبالدهون السيئة والكربوهيدرات النقية المكررة. كما أن الدسم والدهونات المشبعة والشاذة تميل الى إضعاف الاستجابة المناعية وردود فعلها، في حين أن الحوامض الدهنية الغنية بـ «أوميغا 3» (في زيوت السمك) والدهونات غير المشبعة مثل زيت الزيتون وزيت كونولا مفيدة جدا. كذلك فان الكربوهيدرات النقية العالية المعالجة قد تروج للالتهابات عن طريق المساعدة في تشكيل الجذور الحرة، من هنا فإن الحبوب الكاملة والكاربوهيدرات غير النقية أو المعالجة هي أكثر فائدة وصحة.

« خدمة هارفارد الطبية» ـ الحقوق: 2006 بريزدانت أند فيلوز ـ كلية هارفارد