ارتفاع نسبة سلوك الإيذاء الذاتي الجسدي لدى طلاب الجامعات

قلة منهم تطلب المشورة الطبية والنفسية

TT

في ما اعتبرت أكبر دراسة تتم حتى اليوم في الولايات المتحدة والعالم حول سلوك الإيذاء الذاتي الجسدي، تبين للباحثين من جامعة كورنيل وبرينكتون بالولايات المتحدة أن 20% من طالبات الجامعة و14% من طلابها، أفادوا بأنهم عرضوا أنفسهم للجرح أو الحرق أو غيرها من صنوف الأذى الجسدي عن قصد وإصرار، في حين أن من ذكر منهم أنه طلب العناية الطبية لعواقب هذا السلوك من الأذى الذاتي الجسدي لا يتجاوز 7%.

وتصف الدكتورة جانيس وايتلوك مديرة برنامج أبحاث سلوكيات الأذى الذاتي في مركز تطوير الحياة الأسرية بالجامعة، والباحثة الرئيسة في الدراسة التي شملت أكثر من 3000 شخص وتم نشرها في عدد يونيو من مجلة طب الأطفال التابعة للأكاديمية الأميركية لطب الأطفال، بأن الأذى الجسدي الذاتي هو سلوك الإقدام على أذى النفس عن قصد لذلك بذاته، دون قصد الوصول بذلك إلى مرحلة الإقدام على الانتحار. وتشمل سلوكيات الأذى الجسدي هنا فرك الجلد وسلخ طبقات مختلفة العمق منه، وكذلك الشعر، والعض، وكسر أو إحداث رضوض في العظم على حد قولها.

* نتائج مهمة

* وأضافت متحدثة عن أهمية الدراسة بأن النتائج تتوافق مع الدراسات الأخرى في بريطانيا وكذلك مع دراسات محدودة أخرى تمت في الولايات المتحدة وكندا. والتي بينت جميعها أن سلوكيات الأذى الذاتي الجسدي هي واسعة الانتشار بين فئات المراهقين وصغار الشباب من الجنسين. واستطردت قائلة بأن هناك إجماعاً عالمياً بين المتخصصين في تقديم الرعاية النفسية للطلاب في المرحلة الثانوية والجامعات أن عددا من الاضطرابات النفسية ارتفعت معدلات الإصابة بها بينهم خلال الخمس سنوات الماضية، ومنها حالة سلوك الأذى الذاتي الجسدي. وهو ما يعكس على حد تعليلها تدني وسائل سلوكيات التعامل السليم في الاستجابة لضغوطات الحياة اليومية مقارنة بما كان يتحلى به منْ هم في سنهم في الأجيال السابقة.

وفي حين لم تلحظ الدراسة فرقاً كبيراً بين الذكور والإناث، إلا أنها لاحظت أن المشمولين في الدراسة ذوي الأعراق الآسيوية الأصل هم أقل عرضة لمثل هذه السلوكيات. وكذلك لاحظت أن ثلاثة أرباع منْ يؤذون أنفسهم جسدياً عن قصد، يتكرر لديهم القيام بنفس فعل الأذى الذاتي. ليس هذا فحسب، بل لن 70% منهم يغيرون الوسائل لتتعدد طرق الأذى الجسدي. والطريقة الأكثر شيوعاً بين الذكور والإناث هي حك وفرك الجلد إلى حين بدء نزيف الدم منه، أو قطع الجلد.

لكن الأخطر والأهم في النتائج هي أن من يمارسون هذه السلوكيات هم عرضة بدرجة تفوق ستة أضعاف غيرهم في محاولة الانتحار أو التفكير به. وبنسبة أربعة أضعاف تقريباً للتعرض للاستغلال العاطفي من قبل الغير. وبنسبة ثلاثة أضعاف للتعرض للمعاناة من احدى الحالات النفسية المخلخلة لاستقرار النفس. وبنسبة الضعفين للمعاناة من اضطرابات الأكل.

كما لاحظت الدراسة أن متوسط عمر الشخص عند القيام بالمحاولة الأولى لأذى الجسد الذاتي هو ما بين 14 و15 سنة. لكن أيضاً فإن 41% بدأوا بالأمر في سن ما بين 17 و22 سنة أي في المرحلة الجامعية. الدراسة بنتائجها المذهلة حقيقة لمن تأمل، علقت عليها جاكي ريسنيك مديرة مركز الاستشارات بجامعة فلوريدا بأننا في أمس الحاجة إلى بحث جاد ومتعمق لفهم كيفية تتبع بدايات هذا السلوك ومعرفة سبل المعالجة والوقاية منه. والدراسة على حد وصفها خطوة موفقة للأمام في هذا المضمار، وتعطينا تفاصيل أدق حول انتشارها بين طلبة الجامعة.

* الأذى الذاتي

* وتعرف مصادر الطب النفسي سلوك الأذى الذاتي الجسدي بأنه قصد عن عمد لإيذاء الجسد، وغالباً ما تترك هذه الأفعال آثاراً على الجسم كعلامات لممارستها. ومن غير المعلوم باستقصاء عدة مصادر هل ترك الأثر على الجلد مثلاً هو هدف مقصود لذاته من المراهق، أم أن ظهور علامات الإيذاء للعيان ليس مقصوداً ممن يمارس هذا السلوك. بالرغم من تأكيد بعض المصادر أن ممارسة هذه السلوكيات المضطربة يتم عادة بشكل فردي، والحرص على محاولة إخفاء إجراء عملية الأذى الجسدي ذاتها. وتشمل مظاهر إيذاء الجسد الذاتي الجروح بالآلات الحادة، والحروق المباشرة أو بلمس أشياء ساخنة، ووخز الجلد بالإبر أو غيرها، وإعادة فتح الجروح التي على وشك التآم أطرافها، وخبط الرأس بأشياء صلبة كالجدران، والطرق على أجزاء من الجسم بالمطرقة، وحتى كسر العظم عن قصد!

* الأسباب والدوافع

* لماذا الأذى الجسدي الذاتي؟ تشير المصادر النفسية إلى أن هذا السلوك لا علاقة له بمستوى التعليم والحالة الاجتماعية، وبغض النظر عن الجنس أو العرق أو الدين. لكن هناك ملاحظات من دراسات محدودة تشير إلى أن هذا التصرف يكثر بين:

ـ المراهقين خاصة الإناث.

ـ الناس الذين سبق لهم التعرض لاستغلال جسدي أو عاطفي أو جنسي.

ـ منْ لديهم مشاكل الإدمان أو الوسواس القهري أو اضطرابات الأكل النفسية.

ـ منْ تمت نشأتهم في أسر لا تُعطي للأطفال طريقة تربوية سليمة في تنفيس الغضب.

ـ الأطفال ممن لا يملكون مهارة وتدريباً على التعبير عن العواطف أو يفتقدون الدعم الاجتماعي.

ومن المهم مراعاة أمر أساسي في فهم هذه الحالة، وهو أنه بالرغم من عمق الضرر الذي يُؤذي به هذا الإنسان نفسه إلا أنه لا يسير بفعله هذا في محاولة للإقدام على الانتحار. وهنا الإشكالية على الباحثين النفسيين والتربويين في ملاحظة هذه السلوكيات والتعامل السليم معها. ولذا فإن الممارس لهذه السلوكيات قد يرى فيها عدة جوانب لتحقيق:

ـ تنفيس عن ضغط نفسي أو قلق أو مشاعر مضطربة.

ـ إدراكه وشعوره بذاته كشيء ما.

ـ محاولته نقل الشعور بالألم من داخل النفس إلى الجسد الخارجي.

ـ تحمله الذاتي في الألم الذي يتعرض له، بدلاً من فقده السيطرة على الآلام التي تحصل بالاستغلال العاطفي أو الجنسي.

ـ محاولة طلب العون والدعم النفسي ممن حوله بطريقة غير مباشرة.

ـ محاولة كسر التبلد في الإحساس بالألم نتيجة تكرار تعرضه للأذى النفسي أو العاطفي أو الجنسي.

ـ محاولة إيذاء أو إرباك الوالدين مثلاً عبر إثارة قلقهم واهتمامهم، وجعلهم يحسون بالذنب والتقصير تجاه رعايته والاهتمام به.

والحقيقة أن درجات هذا السلوك من اضطرابات التعامل النفسي تختلف على حسب حدة وقوة البواعث عليها. ودرجات مخففة من أذى الجسد عن قصد قد تأخذ طيفاً أوسع لتشمل الانحرافات الخلقية والممارسات الشاذة العاطفية أو الجنسية أو غيرها.

* علامات تحذيرية وطرق معالجة من باحثي كليفلاند كلينك > الوالدان أهم من عليهم التنبه إلى احتمالات أن يكون لدى المراهق مشاعر ورغبات من نوع الأذى الذاتي الجسدي، فبالإضافة إلى المظاهر المتقدمة لحصول ممارسة من هذا النوع من السلوكيات النفسية المضطربة، فإن هناك مؤشرات أو علامات على الوالدين التنبه لها. ومنها مثلاً ارتداء ملابس لإخفاء أجزاء كبيرة من الجسم لم يتعود ارتداءها، خاصة عند تغيرات الجو غير الملائمة، مثل الحر مثلاً، أو اكتشاف الأهل وجود أشياء كقداحات إشعال السجائر أو الأمواس أو آلات حادة أخرى بحوزة المراهق الذي ليس بحاجة لها، وتدني الشعور بالاعتداد والثقة بالنفس، والصعوبة في التعامل مع حالات التوتر والضغط النفسي كالاختبارات أو الحالات الاجتماعية، وكثرة المشاكل في العلاقات العاطفية أو الاجتماعية، وضعف الأداء في العمل أو الدراسة أو المنزل.

والمعالجة تهدف إلى وقف التمادي في حالة أذى الجسد الذاتي. وكثيراً ما يعول النفسيون على العلاج الإدراكي، وهو الذي يُعنى بمناقشة الأمر مع المصاب عبر جلسات العلاج النفسي، وتحسين مستوى إدراكه لوسائل أقرب إلى الطبيعي في التعامل مع مثيرات الرغبة لديه في ممارسة الأذى لنفسه.

كما أن تحسن وسائل معالجة الشخص بعد تعرضه لحوادث أليمة من استغلال عاطفي أو جنسي ربما تمنع من ظهور المشكلة بالأصل أو تخفف كثيراً من جنوح الشاب أو الشابة نحو ممارسات متهورة من أذى الجسد عن قصد وإصرار. هذا بالإضافة إلى دور العلاج الأسري، وذلك في تحسين مستوى التواصل بين أفراد الأسرة الواحدة وحسن ظنهم بعضهم ببعض، وتفسير تصرفاتهم، كل منهم تجاه الآخر. كما أن وسائل الاسترخاء النفسي قد تُسهم في تخفيف حدة ردة التفاعل مع الأحداث اليومية للحياة الأسرية أو الدراسية أو العاطفية. ويبقى دور ليس بكبير حتى اليوم للأدوية المانعة من الاكتئاب أو مضادات القلق وغيرها.