حالات الأكل الليلي .. تثير الجدل بين الباحثين

دراسات للتعمق في فهم ارتباطها بمضاعفات مرض السكري والاضطرابات النفسية

TT

ضمن محاولات التعمق في فهم دواعي الأنماط المختلفة لتناول الطعام وتأثيراتها على المستوى الصحي للأفراد، يقول الباحثون من جامعة واشنطن في دراسة حديثة لهم، إن مرضى السكري ممن يتناولون كميات كبيرة من وجباتهم اليومية في الليل هم عرضة أكثر من غيرهم للمعاناة من مضاعفات مرض السكري على الأعضاء المختلفة في الجسم. الدراسة طرحها الدكتور شيرين مرسي من قسم علوم السلوك والنفسية والدكتور إيرل هيرش من قسم الطب الباطني بكلية الطب في جامعة واشنطن في سياتل بولاية واشنطن الأميركية في عدد أغسطس (آب) الحالي لمجلة العناية بمرضى السكري الصادرة عن الرابطة الأميركية لمرض السكري. وكان الباحثون من جامعة بنسيلفينيا في مايو (ايار) الماضي قد حاولوا التعرف على مدى انتشار حالات الأكل الليلي بين المرضى الذين تم إجراء عمليات تقليص المعدة لهم بغية تخفيف الوزن، وذلك في بحث نُشر آنذاك في مجلة أبحاث السمنة الصادرة عن رابطة أميركا الشمالية لدراسات السمنة. وتبين من خلالها تدني نسبة هذا السلوك الغذائي بينهم.

وعرض الدكتور جون أوريردون والدكتور ألبرت ستنكارد في مايو الماضي أيضاً دراسة تقويم لتأثير عقار سيرترالين في تخفيف أعراض حالات الأكل الليلي، وكانت نتائجهم إيجابية رغم قصور في الدراسة المنشورة في مجلة الرابطة الأميركية للطب النفسي وهو قلة عدد المشمولين فيها.

وفي يناير (كانون الثاني) الماضي عرض الباحثون من عدة ولايات أميركية في دراسة نشرتها أيضاً مجلة أبحاث السمنة انتشار النمط الغذائي للأكل الليلي وخصائص من يُمارسونه بعد مراجعة شملت ما يُقارب 30 ألف شخص. وخلصوا إلى نتائج مدهشة وهي أنها أكثر لدى من هم في العشرينات من اعمارهم ونادرة لدى من تجاوزوا الخامسة والستين، والأهم هو أن لا علاقة للأمر بالسمنة أو زيادة الوزن.

ولا تزال دراسات أنماط تناول الوجبات الغذائية أثناء اليوم وتوزيع الناس للكميات تشغل الباحثين وجهودهم في السنوات القليلة الماضية. والواقع أن تعمق الدراسات في السابق حول مجرد أنواع العناصر الغذائية في محتويات وجبات الطعام هو جانب لم يعد يكفي لفهم وتبرير الاختلافات في نتائج إتباع غالبية الناس للحميات الغذائية، حيث يؤكد احد الاستطلاعات الحديثة أن كثيراً من يتبعون حميات تخفيف الوزن هم ملتزمون بالكمية المنصوح بها.

* السكري والأكل الليلي

* دراسة الباحثين من سياتل كانت تحت عنوان «اليس هذا أكثر من مجرد وجبات خفيفة (سناك؟). ودرس الباحثون فيها أكثر من 700 مريض بالسكري، قال 10% منهم أنهم يتناولون أكثر من ربع كمية غذائهم اليومي في الليل، وتحديداً بعد فراغهم من تناول وجبة العشاء. وبالجملة لاحظ الباحثون أن الأفراد في هذه المجموعة من مرضى السكري هم أكثر احتمالاً أن يكونوا بدينين، وأن لا تكون نسب مستوى السكر في دمائهم منضبطة ضمن المعدلات الطبيعية والمرجوة، كما أن لديهم أكبر نسبة في مضاعفات تأثر أعضائهم المستهدفة بالضرر نتيجة الإصابة بمرض السكري، كأمراض القلب واضطرابات وظائف الكلى وتلف الأعصاب. وفي معرض حيثيات البحث قالوا إن متلازمة حالة الأكل الليلي بتميزها بالإكثار من الأكل في الليل والاستيقاظ من النوم لأجل ذلك، وارتباط السلوك هذا بتغيرات نفسية وعاطفية، فإنه ربما يقود إلى عدم انضباط نسب معدل سكر الدم ونشوء السمنة ومضاعفات أخرى للسكري. وهذا السلوك في نظر الباحثين، أي تناول الطعام في آخر الليل، لا يُكثر المصابون به من تناول غالبية طاقة وجباتهم أثناء ما بعد وجبة العشاء فحسب، بل ربما يستيقظوا من النوم في سبيل ذلك ويتناولوا على وجه الخصوص الأطعمة الدهنية والسكرية.

ولاحظ الباحثون من النتائج أن حوالي 10% من مرضى السكري يمارسون هذا السلوك الغذائي. وبمقارنتهم مع من لا يُمارسونه من مرضى السكري، تبين أن الآكلين بالليل أقل إتباعاً للحمية الغذائية المنصوح بها، وأقل ممارسة للرياضة البدنية، وأكثر معاناة بالاكتئاب، وأن تناولهم للوجبات الليلة مرتبط بغضبهم أو حزنهم أو شعورهم بالوحدة أو قلقهم أو انزعاجهم. وبالنتيجة كانوا بدينين بنسبة تقارب ثلاثة أضعاف وكذلك الحال مع عرضة إصابتهم بمضاعفات مرض السكري على الأعضاء المهمة في الجسم، وبنسبة تقارب الضعفين في عدم انضباط نسبة معدل سكر الدم.

ونتيجة لهذه العلاقة بين مرض السكري وظهور مضاعفاته نتيجة الأكل الليلي، والتي لاحظها الباحثون، يرى الدكتور بول سيشانويسكي ضرورة أن يخبر مرضى السكري، ممن يمارسون هذا الأمر، ذلك لطبيبهم المتابع لهم كي يتسنى له متابعتهم بشكل أدق.

ومع ملاحظته أن بعض مرضى السكري يقول بأنه يأكل كي يعدل ويضبط عواطفه ومشاعره، وأن الناس بشكل عام هم أكثر عرضة للتأثر النفسي والعاطفي في أوقات الليل. فإنه يرى ضرورة محاولة اقتراح أو إجراء نوع من العلاج النفسي الذهني والسلوكي كإحدى الوسائل المقترحة للعلاج. وأكد هذا مع صدور دراسة مؤخراً حول دور أحد عقاقير معالجة الاكتئاب في تخفيف حدة أعراض حالات الأكل الليلي.

من جانبهم تناول الباحثون من جامعة بنسيلفينيا في مايو الماضي مدى انتشار حالات الأكل الليلي بين من يتم لهم إجراء عمليات تقليص المعدة بهدف تخفيف الوزن. وبمتابعة أكثر ممن 200 شخص لديهم سمنة مفرطة تبين أن أقل من 10% منهم لديهم هذا السلوك في تناول الطعام وفق التعريف الفضفاض والعام له، بينما بإتباع التعريف العلمي الدقيق لهذه الحالة النفسية فإن النسبة لا تتجاوز 2%! وأكدت أن بين هؤلاء تعلو نسبة المعاناة من الاكتئاب وغيره من الاضطرابات النفسية، الأمر الذي علق عليه الباحثون بأن نسبة انتشار الأكل الليلي بين من أُجريت لهم عمليات تقليص المعدة هي أقل بكثير مما كان متوقعاً.

وفي معرض التعليق والتحليل على الدراسة يرى بعض الباحثين أن مجرد كونهم أقدموا على الإقبال لإجراء العملية هو دلالة على ارتفاع المستوى في الصحة النفسية، ما يجعل اختيار تلك المجموعة من البدينين غير منصفة في تعميم نتائجها على كافة البدينين. والذي يقصدونه أن من تُجرى لهم عمليات تقليص المعدة لا يعبرون بالضرورة عن بقية مجموعة أفراد حالات السمنة وسلوكيات من هم فيها. كما أن قلة العدد في الدراسة والاختلافات الواضحة بين نتائج استخدام تعريفات مختلفة قد تُربك الباحث وأفراد الشريحة التي تمت عليها الدراسة.

والواقع هو أن هناك جانبا أهم، وهو أن سلوكيات نمط التغذية الليلية لا تعني بالضرورة الوصول إلى مراحل متقدمة من السمنة، أي السمنة المفرطة بشكل يتطلب عملية جراحية لتخفيفه. بل التعريفات التي ستعرض لاحقاً تتحدث عن توزيع تناول كمية الطعام وليس مجرد الإكثار في الطعام. وهو ما يجب أن تنصب نحوه الدراسات، بمعنى أننا لا نتحدث عن الأكل الليلي كعامل في الإكثار من كمية الأكل، وإن كان كذلك إلى حد بعيد، بل نتحدث عن سوء التوزيع في تناول الوجبات وتأثيراته الصحية. وكمثال على هذا ما سبق ما طرحته صفحة الاسرة من ملحق الصحة بـ«الشرق الأوسط» حول دور تناول وجبة الإفطار في تخفيف الوزن، والنتائج الإيجابية لذلك في تحقيق تقليل الوزن. في حين أن الإفطار بحد ذاته هو تناول كمية من الطعام. لكنها كمية تحد من تناول كميات أكبر في ساعات متأخرة من النهار، وبالتالي تمنع من نشوء السمنة لا بل وتخفف من الوزن الزائد.

وعليه فإن ارتباط الأكل الليلي بالسمنة أو عدم ارتباطه لن يكون حتى في حال ثبوته عاملاً في إثبات مضاره. ومع هذا فإن الدراسات الأوسع والأكثر شمولاً أكدت أن لا علاقة قوية بين زيادة الوزن وبين الأكل الليلي تحديداً، وهو ما يتبناه كثير من الباحثين والمصادر العلمية.

* دور الاكتئاب

* إلى هذا، نشرت المجلة الأميركية للطب النفسي في عدد مايو الماضي دراسة مقارنة لكل من الدكتور جون أوريردون والدكتور ألبرت ستنكارد حول نتائج تناول المصابين بحالات الأكل الليلي لعقار زولوفت المضاد للاكتئاب أو عقار مزيف، في تخفيف أعراض حالات اضطراب الأكل هذه. ووفق نتائجهم التي خلصوا إليها فإن تأثير عقار سيرترالين (زولوفت) كان أفضل من العقار الوهمي والمزيف لدى 71% من المشمولين في الدراسة في تقليل نوبات الأكل الليلي والكميات المتناولة فيها. كما ولاحظوا أن البدينين وزائدي الوزن تخلصوا من نسبة مهمة في زيادة الوزن بعد شهرين من تناول العقار. وأهمية النتيجة هو تأكيد العامل النفسي في نشوء مشكلة اضطراب كيفية تناول الوجبات واستمرارها وتفاقمها، ما يؤكد نتائج كثير من الدراسات النفسية الطبية التي ربطت الحالة بآليات تفاعل الجسم مع الاضطرابات النفسية. والتي من أهمها ما تم نشره في عدد فبراير (شباط) من عام 2002 للباحثين من النرويج في مجلة الغدد الصماء وعمليات التمثيل الغذائي، حيث أكدوا فيها أن التردد على الثلاجة أثناء الليل ليس علامة على شهية الأكل والرغبة في مجرد سد الجوع، بل إن الأمر مرتبط باستجابة للجسم لا شعورية لحالات التوتر النفسي بشكل عام.

وتعمق الباحثون في محاولة فهم آليات تدخل هرمونات ومركبات كيميائية عدة لمناطق في الدماغ، كارتفاع مواد ميلاتونين وليبتين وكورتزول في الليل، والتي تنظم كثيراً من التغيرات الطبيعية في الجسم، والمختلفة فيما بين تعاقب الليل والنهار.

ولاحظ الباحثون جملة من الاختلافات، لا مجال للاستطراد فيها، في نسب الهرمونات وتغيرات الجسم الطبيعية لليل وللنهار، وذلك بين من يعانون من الحالة وبين الناس الطبيعيين. أهمها نقص الاستجابة الطبيعية لإفراز هرمون كورتزول لدى آكلي الليل بنسبة تتجاوز 70% مقارنة بالناس العاديين. ما يعني اضطرابات تطال ارتباط مناطق في الدماغ مع الغدد في الجسم حين الإصابة والمعاناة من هذه الحالة.

* انتشار الحالة

* تحدثت دراسة الباحثين من أربع ولايات أميركية، والتي شملت متابعة معلومات تناول الطعام لدى أكثر من 30 ألف شخص في الولايات المتحدة أن الحالة تكثر ممارستها في عطل نهايات الأسبوع، أي ليست عادة يومية بالضرورة لازم توفر ممارستها كذلك لتشخيص وجودها من عدمه. وأن أعلى نسبة للانتشار هي بين من تتراوح أعمارهم ما بين 18 و30 سنة. وأقل نسبة هي بين من تجاوزوا الخامسة والستين. لكنها عادت وأثارت نقطة مهمة وحساسة وهي أن الأمر برمته غير مرتبط بالسمنة!!. وأن الجنس والعرق الذي ينحدر منه الإنسان لا علاقة له بالإصابة بالحالة.

وفي دراسة واسعة أخرى نُشرت في مجلة أبحاث السمنة عام 2004 لمجموعة من الباحثين من عدة ولايات أميركية أيضاً حول مدى انتشار الحالة لدى المراهقات، تعرض الباحثون لأحد أهم الجوانب البحثية في الحالة، وهو ما هي علامات وعناصر تحديد تشخيص وجود حالة متلازمة اضطرابات الأكل الليلي. إذْ وفق النتائج التي خلصوا اليها فكلما تشددنا في وجوب أن تكون الممارسة للأكل الليلي في اكبر عدد من أيام الأسبوع كلما قلت نسبة تشخيص الإصابة بها. بمعنى أنهم لاحظوا أن حوالي 60% من المراهقات قالوا بأنهم يتناولون الطعام في الليل بالصفة غير المعتادة مرة في الأسبوع، بينما تقل النسبة إلى عشرها حينما تكون الممارسة عدة أيام في الأسبوع. ما دعا الباحثين إلى القول بأن هناك حاجة ملحة لوضع تعريف دقيق في وصف الحالة وعناصر تشخيصها كي تتقدم الأبحاث في هذا المضمار بشكل سليم.

والحقيقة أن التعريفات الفضفاضة لا تناسب مثل هذه الحالات، لأن الأمر لم يعد مجرد سلوكيات غذائية يختلف الناس فيها بحسب أمزجتهم. بل هناك من يقول أن مضاعفات مرض السكري تتفاقم حين المعاناة منها، وهناك من يقول أن ثمة تغيرات هرمونية في الجسم تطال علاقة الدماغ بالغدد الصماء في الجسم، أي ما يعني تأثر أنظمة الجسم بها حتى قدرات الإخصاب والهرمونات الجنسية التي ثبت وجودها في أنواع أخرى من اضطرابات الأكل كالبوليميا وغيرها مما تحدثت صفحة الأسرة عنه في ملحق الصحة بـ«الشرق الأوسط» سابقاً. وهناك من يتحدث عن اضطرابات نفسية لا تنجلي المعاناة منها إلا بتناول أدوية مضادة للاكتئاب. هذا مع تباين وجهات النظر بين الباحثين ونتائج دراساتهم حول علاقة السمنة بالأمر كله.

* متلازمة حالات الأكل الليلي.. علامات غير واضحة > ظهر مسمى متلازمة الأكل الليلي في الوسط الطبي عام 1955 من قبل الدكتور ستانكارد الأميركي، وذلك ضمن ملاحظاته الطبية حول السمنة لدى بعض الأشخاص ممن يحاولون التخفيف من أوزانهم الزائدة. وفرق في حينه بين حالات الشراهة في الأكل بالليل وبين مجرد الإكثار من تناول كمية كبيرة نسبياً من طاقة الغذاء اليومي في أثناء الليل. وبالرغم من أن الشراهة في الأكل عموماً سواء أثناء الليل أو النهار نالت قدراً كبيراً من عناية الباحثين إلا أن حالات الأكل الليلي لا تزال الأبحاث فيها تحبو على تخبط في جوانب التعريف والحالات المسببة له والمصاحبة كنتائج أو كملازمات لا علاقة لها به. فقلة تناول الطعام بالنهار أو اضطرابات النوم لا تزالان خارج نطاق الموضوع لدى الباحثين، وكذلك عدة جوانب أخرى.

ومع هذا كله وغيره، فإن غالبية الباحثين تضع أطراً عامة للتعريف بالحالة غير الطبيعية، منها قلة تناول كمية الطعام في النهار وجعل غالبية نسبة الأكل في الليل عموماً، وحالات الاستيقاظ من النوم لتناول الطعام. وبعد هذا يفصلون بين من يجعل كمية طاقة الطعام المتناولة في الليل أكثر من 25% ومنهم من يجعلها تصل إلى 50%، هذا كله بعد تناول وجبة العشاء المعتادة. وبعضهم يضع الساعة الثامنة كحد للبدء في حساب نسبة الطعام الليلي والبعض الآخر لا يربطها بساعة معينة.

والملاحظ بشكل متكرر أن للأمر علاقة بالحالة النفسية للإنسان، حيث تزداد نسبة الإصابة بأنواع شتى من الاضطرابات النفسية لدى المصابين باضطرابات تناول الأكل هذه.