«الاضطراب التوتري الذي يعقب الصدمات» .. حالة مرضية لها ذيول خطيرة

أسبابها متعددة كالحروب والأزمات القلبية والأمراض الخطيرة والمواقف المؤلمة

TT

التوتر الناجم عن الصدمات لا ينتقي قدماء المحاربين فحسب، بل إنه يطال أيضا أولئك الذين يكافحون أمراض القلب. وبينما يعود الجنود الاميركيون من العراق وأفغانستان، يعود الاضطراب التوتري (أي الناجم عن التوتر) الذي يعقب الصدمات الى واجهة الاخبار مرة ثانية. وقد تعلمنا الكثير في ما يتعلق بهذه الحالة، منذ أن نحت اسمها الحالي هذا خلال الحرب الفيتنامية. والأمر الوحيد الذي أدركناه أن «الاضطراب التوتري الذي يعقب الصدمات» (PTSD) post-traumatic stress disorder ليس وقفا على الجنود، وضحايا الهجمات الانتحارية، أو شهود حوادث مروعة فحسب، بل قد يظهر أيضا في أعقاب مشاكل في القلب، أو بعد إجراء عمليات جراحية كبرى، أو تشخيص حالة مرضية خطيرة مثل السرطان أو الايدز.

تصور شخصا ما ينهار في متجر كبير، أو مركز للتسوق، لأن قلبه توقف فجأة عن الخفقان. (وما أن يصحو) فإن الامر التالي الذي يدركه أنه قد أعيد ثانية الى الحياة عن طريق صدمة كهربائية من جهاز لإنعاش القلب (مزيل الرجفان) قبل الإسراع به الى المستشفى. وهذه صدمة بحد ذاتها. وكذلك الجلطة القلبية، أو الالم الحاد في الصدر الذي يشبه النوبة القلبية، أو حتى جراحة القلب المفتوح، فكلما كان مثل هذا الامر مفاجئا كلما كانت الصدمة كبيرة.

وكانت أبحاث قليلة لكنها متنامية، أظهرت أن العواقب الناجمة عن الامراض القلبية والاجراءات والخطوات الخاصة بمعالجتها، يمكنها ان تطلق مثل هذا الاضطراب التوتري PTSD الذي لا يؤثر على نفسية المريض وعواطفه فحسب، بل قد يبطئ ذلك من شفائه أيضا من النوبات والأزمات القلبية والعمليات الجراحية التي تعقبها، وقد يسرع في تطور الامراض القلبية وإعادتها مرة أخرى.

* «الاضطراب التوتري»

* ما هوPTSD؟ إنه عبارة عن رد فعل دائم ومستمر ومبالغ فيه أيضا، لحدث مرعب أو أمر كان مهددا للحياة. وهو يجعل المرء يشعر كما لو انه يعيش الحدث مرة ثانية وثالثة الى ما لا نهاية. ويظهر هذا العرض المرضي في ثلاثة أشكال رئيسية:

* إعادة التجربة، فالاشخاص الذين يعانون من PTSD يعيشون التجربة من جديد خلال النهار عن طريق نوبات، وذكريات مفاجئة تعيدهم اليها، أو عن طريق كوابيس ليلية، أو أفكار تراودهم لا يمكنهم التخلص والخروج منها. وأي مشهد، أو صوت، أو رائحة، أو منبه آخر يمكنه إعادة الحادث المؤلم الى الحياة.

* تفادي الاخرين، فالاشخاص الذين يعانون من هذه الحالة يميلون الى تفادي الاشخاص والاماكن والافكار والمشاعر والنشاطات التي تذكرهم بهذه الصدمة. كما انهم يفقدون متعة الاختلاط بالعائلة والاصدقاء وزملاء العمل وممارسة أي ألعاب، بل يصبحون فاقدي الاحساس بأي مشاعر سواء كانت إيجابية أو سلبية.

* اليقظة الدائمة، فالاشخاص الذين يعانون من PTSD هم دائما على حذر من المخاطر، وهم زيادة على ذلك يواجهون مشكلة في النوم، أو البقاء نائمين فترة طويلة. كذلك يميلون الى العصبية ويعانون من قلة التركيز، كما أنهم يجفلون بسهولة. ومصدر هذه العوارض الدوائر الكهربائية الدماغية التي تستجيب بسرعة الى الأوضاع المهددة للحياة.

والاحداث المسببة للصدمات مثل القتال الالتحامي بالأيادي، أو مشاهدة تفجير ما، أو الاصابة بنوبة قلبية، من شأنها إطلاق الاستجابات الفورية ذاتها في الدماغ. كما تنطلق تحذيرات الخطر من الاحاسيس مثل سرعة البرق الى الدماغ حيث تتحول الى دائرتين: واحدة تذهب مباشرة الى تركيب يشبه اللوزة موجود في اعماق الدماغ الذي ينسق عمليات الاستجابة الى الخطر. كذلك فإن هذه الموجة مسؤولة عن الانتظام الفوري لجميع أنظمة الجسم لكي «تجابه أو تفر». كذلك تنشط هذه اللوزة «الحصين» التي تساعد الدماغ على تشكيل الصور الزاهية والذكريات العاطفية. إن تكوين مثل هذه الذكريات هي استراتيجية نافعة جدا للنجاة والعيش والبقاء، فهي قد تضع صيادا أو غيره في أهبة الاستعداد من دون التفكير بوعي، عندما يقترب الشخص المعني من منطقة يرى فيها أحد الاشخاص يهاجم، أو يقتل.

أما الدائرة الثانية فتسلك طريقها الى قشرة الدماغ وهو الجزء الذي يتحكم بمعالجة المعلومات وتحليلها. وتقوم القشرة بتأكيد وجود الخطر، ثم تفسر سبب حدوثه لتحدد بعد ذلك أفضل وسيلة للاستجابه له. وحالما يزول الخطر تقوم القشرة بإرسال رسالة تعلن زوال الخطر رغم أنها تستمر في معالجة الحادث وعواقبه. ويبدو أن القشرة الامامية ذات الطوق اللوني تشترك أيضا في الاستجابة الى الخوف.

والاشخاص الذين يعانون من PTSD يقومون بتكوين ذكريات حول الحوادث المؤلمة التي سببت لهم الصدمات، بشكل اكثر شدة وأكثر سهولة في استرجاعها من الذكريات العادية. وربما اللوزة التي تستجيب أكثر من اللزوم هي بعض السبب. كما أن العطل في وظائف «الحصين» والقشرة ذي الطوق اللوني، وكلاهما يحافظان على اللوزة وعملها الصحيح، قد يساهمان أيضا في PTSD.

ويقول الخبير في علم النفس ليونارد دويرفلير الذي كان يدرس الصلة بين الامراض والأزمات القلبية وPTSD منذ الثمانينات انه في أعقاب النوبة القلبية المفاجئة، أو الجلطة، أو السكته، فإن جميع المصابين بها يمرون باضطراب توتري. وهي صدمات كبيرة لجهاز الانسان ونفسيته التي تتطلب إعادة تكييف وتعديل كبيرين للعودة الى الحال السابق.

وأغلبية الناس يتعافون ويعيدون تعديل وضعهم مستندين الى مزيج من القوة الداخلية والايمان والعائلة والدعائم الاخرى.

* «صدمات الداخل»

* وبالنسبة الى بعضهم فإن السكتة القلبية تكون بمثابة دعوة لليقظة والاستيقاظ وإجراء تغييرات إيجابية في علاقاتهم وبالنسبة الى صحتهم أيضا. أما البعض الآخر فينزلقون نحو الكآبة والانهيار النفسي. كما أن نحو 5 إلى عشرة في المائة من الناجين من النوبات القلبية يطورون عوارض PTSD التي تظهر أيضا لدى الاشخاص بعد الجراحة القلبية، أو زراعة قلب، أو إثر عمليات جراحة القلب الاخرى، أو بعد إجراء عمليات إنعاش القلب (بآلات إزالة الرجفان). ومن المشاكل الخاصة بالنسبة الى PTSD التي لها علاقة بالقلب هو أن الصدمة تأتي من الداخل، «أي المعرفة أن جسمك قد خانك مرة وقد يعيد الكرة ثانية والتي تجعل بعض الناجين من النوبات القلبية يمشون وكأنهم على بيض» كما يقول دويرفلير استاذ علم النفس في كلية «أسمبشن كولدج في وورسستر في ولاية ماساتشوسيتس. وهؤلاء دائما على حذر كلما أسرعت دقات قلوبهم، أو شعروا أنهم قصيرو النفس، أو شرعوا ينضحون عرقا، أو أي علامات أخرى قد تسبق النوبات القلبية. لكن المشكلة هي أن هذه العوارض هي استجابات طبيعية أيضا للنشاطات الجسمانية وازدحام السير، أو حتى في يوم حار ورطب. والغريب في الامر أن شدة PTSD ليست لها أي علاقة بشدة النوبة القلبية، أو أي صدمة أخرى. حتى الأزمات القلبية الخفيفة قد تثير PTSD كثيراً.

والاشخاص الذين يعانون من PTSD الذي له علاقة بالامراض القلبية قد يذهبون الى مداهم الطويل لتفادي ما يذكرهم بالسبب الذي أدى اليه، فقد يتوقف بعضهم من تسلق السلالم، وعن المعاشرة الجنسية والاهتمام بالحدائق، أو القيام بالنشاطات الاخرى التي تجعل القلب ينبض بسرعة. وقد يتوقف البعض عن تناول الاسبرين والادوية الاخرى لانها تذكرهم بنوباتهم القلبية.

* خدمة هارفارد الطبية ـ الحقوق: 2005 بريزيدانت آند فيلوز ـ كلية هارفارد

* «السلوك التأملي» .. علاج بالمحاورة يساعد على التأقلم مع حوادث الصدمات > هل تعاني من هذا العَرَض؟

ـ يترك آثاره الضارة على الجسم كما العقل فضلا عن العلاقات والامور الاخرى، فتقليص النشاط البدني وعدم تناول الادوية الضرورية قد يفتح الباب الى نوبات وسكتات قلبية أخرى. والتكرار المزمن للاستجابة الى حالات «الصمود أو الهرب» قد يرفع من ضغط الدم، أو قد يسبب وتيرة قاتلة من دقات القلب. وقد يثير ايضا تصلب الشرايين وهو الطريق المؤدي الى الشرايين المسدودة بالكوليسترول التي تؤدي بدورها الى النوبات والأزمات القلبية.

ومن الطبيعي تماما أن تشعر بنوع من التوتر، أو هبوط المعنويات لفترة من الزمن في أعقاب الاصابة بالسكتة، أو النوبة القلبية، أو عمليات القلب المفتوح، فكيف تعرف إذن إذا كنت أنت، أو أحد محبيك يعاني من PTSD فكر بالأسئلة الاربعة التالية: > هل تجد نفسك تفكر بالحادث الذي أحدث الصدمة حتى ولو لم تكن راغبا في ذلك، أو تجتاحك الكوابيس حول ذلك؟

> هل تذهب بعيدا عن سلوكك المقرر لتفادي المواقف، أو الافكار، أو المشاعر التي تذكرك بذلك؟

> هل تشعر أنك في موقف متحفز دائما، أو أنك تجفل بسرعة؟

> هل تشعر أنك منسلخ عن عائلتك، أو أصدقائك ومحبيك الآخرين، أو تتفادى النشاطات التي كانت تبعث السرور في نفسك؟

الاجابة بنعم على ثلاثة من الاسئلة الاربعة السابقة قد يستوجب الحديث مع الطبيب، أو المستشار النفسي حول معرفة ما إن كنت مصابا بـ PTSD، أو بالانهيار العصبي أم لا؟

وعلاج مثل هذه الحالة تبدأ بشيء يدعى «السلوك التأملي». ومثل هذا العلاج الذي يتم عن طريق الحوار، يرمي الى مساعدة الشخص على التأقلم مع الحادث الصدمي هذا عن طريق استحضار ذكرياته في موقف آمن وسليم. ورغم أن العلاج يكون موترا في البداية، إلا أن إعادة تذكره قد يظهر تدريجيا أن الذكريات بحد ذاتها غير مؤذية، كما قد تساعد أيضا على ربط الذكرى الأليمة هذه مع العواطف التي ولدتها. وهذا ما يساعد على إدراج هذه الذكرى ضمن حدث حصل في الماضي، وليس أمرا قد يتكرر ويتكرر.

أن إعادة الصلة مع الاشخاص والهوايات والنشاطات هو هدف أخر للعلاج، وهذا ما يحسن النشاط العقلي والجسدي والصلات الاجتماعية التي تفيد القلب والعقل معا. وعلاوة عن الحديث عن العلاج السابق قد يستفاد بعض الناس من تناول مضادات الاكتئاب التي تنتمي الى عائلة مثبطات السيروتونين المختارة. وقد جرت الموافقة على استخدام عقارين من هذه العائلة وهما «باروكستين» و«سيرتلاين» لعلاج PTSD، في حين أن من المحتمل أن العقارات الاخرى من هذه المجموعة، وهي «فليوفوكسامين» و«فلوكستين» (بروزاك) و«سيتالوبرام» قد تعمل أيضا.

ومن المفارقات المؤلمة أو القاسية أن أعراضPTSD التي لها علاقة بامراض القلب تظهر في دور النقاهة. ولدى التعرف عليها وإدراكها أنها ليست في العقل وحده، فإن الحصول على المساعدة سيكون مفيدا للقلب والصحة والحياة معا.