عقاقير العظام.. البلسم الشافي الذي يسبب الضرر

تساهم في موت الأنسجة العظمية بدلا من حمايتها

TT

عقاقير وأدوية العظم قد تؤذي ما هو مفروض أن تحميه، فقد ارتبطت أدوية «بيسفوسفونايت»bisphosphonate drugs بموت الانسجة العظمية. وقد تبدو العظام قوية متينة، لأنها تكون الهيكل الصلب الذي يدعم اللحم الطري الاسفنجي، لكنه على المستوى الخليوي فإن العظم ما هو إلا دفق مستمر من الخلايا التي تدعى «ناقضة العظم» التي تنهمر عليه طارحة جانبا البروتينات والاملاح التي لا يمكن استخدامها في مجرى الدم «ما تفقده العظام من البروتينات والاملاح ينتفع منها الجسم في مكان آخر» . أما «بانية العظم» فهي القوة البناءة المضادة التي ترمم الفجوات والنواقص التي تخلفها «ناقضة العظم»، وتعيد الى العظم صحته.

وعندما نكون في ريعان الشباب تكون عملية البناء والنقض متعادلة بحيث تستفيد عظامنا من ذلك لكونها تتجدد دائما وتعدل ذاتها بذاتها، لكن مع مرور الزمن والتقدم بالعمر تتردى عملية بناء العظم لمصلحة نقض العظم لتكون النتيجة ترقق العظام وضعفها، وقد تتحطم وتنكسر لهشاشتها إذا ما تعرضنا الى حادث أو سقوط.

ومن المفترض أن تقوم عقاقير «بيسفوسفونايت» وأكثرها شيوعا «أليندرونايت» «فوساماكس» و«رايسدرونايت» «أكتونيل» بإعادة التوازن الصحي الى عمليتي بناء العظام ونقضها عن طريق السيطرة على نقض العظام عن طريق تسريع عملية الـ«أبوبتوزز» apoptosis، أو موت الخلايا المبرمج، بحيث تموت الخلايا بسرعة. كذلك تعرقل هذه العملية الاشارات المتبادلة بين الخلية والاخرى التي تنشط عملية نقض العظام.

وهنالك الملايين من البشر الذين يتناولون جرعات «بيسفوسفونايت» عن طريق الفم لعلاج هشاشة العظام الناجمة عن ترققها المرتبطة بالتقدم بالعمر، أو لعلاج مرض «باجيت» وهو مرض عظمي. ويؤخذ عقار «بيسفوسفونايت» عادة عن طريق الوريد، كذلك يستخدم على نطاق واسع لعلاج السرطان. وسرطان الدم، خاصة «الورم النقوي «النخاعي» المتعدد» المسمى «مالتيبل مايلوما» الذي يصيب خلايا البلازما يفرز عادة مواد تسرع من عملية نقض العظم، كما أن الأنواع الأخرى من السرطان «كسرطان الصدر والكلية والرئة والبروستاتا» تتلف العظم مباشرة متى اخترقته وانتشرت داخله.

ويستخدم عقار «بيسفوسفونايت» أيضا الذي يؤخذ عن طريق الوريد في علاج الـ«هايبركاليسيميا» «كثرة الكالسيوم في الدم» ، لكون نحو 10 الى 20 في المائة من مرضى السرطان يطورون مثل هذه الحالة التي قد تهدد الحياة إذا ما خرجت عن السيطرة. وهذا العقار يبطئ من تحطم الانسجة العظمية المسبب للكالسيوم الزائد في الدم، كما انه كفائدة إضافية يعرقل نمو الخلايا السرطانية.

وعقار «بيسفوسفونايت» الذي يؤخذ عن طريق الحقن بالوريد هو أقوى 12 ضعفا من العقار ذاته الذي يؤخذ عن طريق الفم، بحيث يتعاطاه المرضى مرة كل عدة أسابيع، وربما لسنوات بطولها. وكانت الوكالة الأميركية للأغذية والعقاقير قد وافقت على نوعين من هذا الدواء الذي يجري تناوله بحقن وريدية هما «باميدرونايت» «أريديا» و«حامض زوليدرونيك» «زوميتا» .

ومنذ عام 2003 ظهرت تقارير عن وجود رابطة بين دواء «بيسفوسفونايت» وموت الانسجة العظمية. واكد الدكتور سلفاتور رغييرو ورفاقه في المركز الطبي اليهودي «جيويش ميديكال سينتر» الموضوع في العام الذي تلى ذلك عن طريق دراسة نشرتها مجلة «جورنال أوف أورال أند ماكسيلوفيشيال سيرجيري». وعن طريق مراجعة سجلات مستشفى هذا المركز وجامعة ميريلاند تمكنوا من التعرف على 63 مريضا يعانون من تنخر العظام في الفك، يبدو أن لهم علاقة بعقار «بيسفوسفونايت». وكان جلهم من مرضى السرطان مثل «مالتيبل مايلوما» «28 حالة» وسرطان الصدر «20 حالة». لكنهم وجدوا ست حالات أيضا كانت لأشخاص كانوا يتناولون عقار «بيسفوسفونايت» عن طريق الفم لعلاج ترقق العظام.

وقد أطلقت دراسة رغييرو المزيد من الدراسات والاستقصاءات. وفي العام الحالي قام الدكتور سوك ـ بن وو الباحث في كلية طب الاسنان في جامعة هارفارد واثنان من رفاقه بتلخيص ما عثروا عليه من عشر دراسات، بما في ذلك دراسة رغييرو، والعديد من الدراسات الصغيرة الاخرى. وكانت الصورة التي حصلوا عليها مشابهة لتلك التي وضعها رغييرو، إذ يتأثر الفك والمسؤول الاول عن ذلك عقار «بيسفوسفونايت» الذي يؤخذ بالوريد وليس عن طريق الفم. وكان 85 في المائة من الحالات لأشخاص يعانون من «مالتيبل مايلوما»، أو سرطان الرئة، كما أن 60 في المائة منهم حصل ذلك بعد جراحة في الاسنان لعلاج التهابات وخلع.

لكن لم يتم حتى الآن إجراء دراسة حاسمة. إلا أنه وجد أن نحو 10 في المائة من مرضى «مالتيبل مايلوما» الذين عولجوا بعقار «بيسفوسفونايت» تأثروا فعلا، كذلك الحال بالنسبة الى مرضى سرطان الصدر.

ولا يملك أحد أرقاما حاسمة في ما يتعلق بعلاج «بيسفوسفونايت» عن طريق الفم أيضا، رغم أن المخاطر هنا هي أقل بكثير من العقار ذاته الذي يجري تناوله عن طريق الوريد. ورغم أن السبب لم يحدد بعد، غير أن الجمعية الاميركية لطب الاسنان قدرت أن نحو 0.7 في المائة من تنخر العظام سيصيب كل 100 ألف شخص الذين تعرضوا لفترة سنة للعلاج بهذا العقار عن طريق الفم، مما يعني نحو 20 حالة في العام الواحد في الولايات المتحدة استنادا الى التقديرات التقريبية للباحث اثاناسيوس زافراس الاستاذ المساعد في كلية طب الاسنان في جامعة هارفارد.

وكان زافراس وزميلاه قد استخدموا سجلات شركات التأمين الكبرى للكشف على العلاقة بين استخدام هذا العقار وجراحات الفم الكبرى بين المصابين بالسرطان. ووجدوا أن الاشخاص الذين تلقوا علاج «بيسفوسفونايت» عن طريق الحقن الوريدية هم معرضون اربعة أضعاف أكثر من غيرهم للخضوع الى عمليات بالفك، من أولئك الذين لم يتلقوا مثل هذا العلاج. في حين وجدوا نسبة 15 في المائة زيادة في التعرض الى مثل هذه الحالات بين الذين يتناولون العقار ذاته عن طريق الفم، وهي زيادة غير ملحوظة إحصائيا.

والدورة الدموية، سواء في العظم أو في أي مكان آخر في الجسم هي عملية ناشطة غير ساكنة، إذ يجري دائما تجديد الاوعية الدموية بغية تجاوز أي انسدادات في الاوعية الحالية، بغية تلبية المتطلبات المتقلبة للدم. ويبدو أن «بيسفوسفونايت» يقوم باعاقة نمو أوعية دموية جديدة، وهي العملية التي تسمى طبيا «أنتيانجيوجينيك» antiangiogenic. ومثل هذه الخاصية هي التي تفسر أهمية الدواء في مقاومة السرطان، فهو يحرم الاورام من الدم الذي تحتاجه لكي تنمو وتنتشر. لكن العقار سيئ للعظام لكونه يمنع الدم عنها أيضا.

وقد يدفع هذا العقار النسيج العظمي الى حالة من الكسل، وليس عملية نقضه فحسب التي لها تأثيراتها الضارة المدمرة. ونتيجة لذلك قد يفقد العظم قدرته على صد الالتهابات والاصابات الروتينية، وبالتالي يبرأ بشكل صحيح من عملية التلف والتآكل الطبيعية.

وقد يكون من الممكن أن عدة عوامل قد تأتي معاً مجتمعة، مثل العلاج الكيميائي والعلاج بالاسترويدات القشرية «المعروفة بقساوتها أيضا على العظام» ، مع العلاج بعقار «بيسفوسفونايت» طبعا، مما ينتج عن ذلك نقطة سامة. كما قد يلعب داء السرطان دورا أيضا. وقد تسدد الاجراءات الطبية الخاصة بالاسنان، أو الالتهابات الكامنة التي أدت اليها، ضربة قاصمة الى النسيج العظمي الذي هو في مشكلة مزمنة اصلا.

تأثر عظام الفك وحالما يصبح النسيج العظمي ميتا لا يمكن القيام بأي شيء لاعادته الى الحياة. وفي الحالات المزمنة أو المتقدمة من تنخر عظام الفك يكون النسيج طريا، ويمكن إزالته بسهولة، لكنه قد لا يحول دون موت ما تبقى من النسيج، ربما لأن الالتهاب الكامن تحته ما زال حيا ونشطا. وفي الواقع يقول بعض الخبراء إن قطع واستئصال العظم الميت قد يزيد الوضع سوءا.

ويعالج المرضى والمصابون غالبا بعلاج طويل الامد من المضادات الحيوية عن طريق الحقن الوريدي. وفي أحيان اخرى يجري وصف غسولات قوية للفم «بيريديكس، بيريوغارد» تحتوي على «كلورهيكسيداين». أما العلاج عن طريق الاوكسجين المفرط الضغط فلم يبد فعالا أبدا، إذ يجري العلاج في غرف مضغوطة بالاوكسجين التي من المفترض أن تسرع العلاج عن طريق إرغام المزيد من الاوكسجين للدخول الى الدم.

ومرضى السرطان الذين يتناولون عقار «بيسفوسفونايت» عن طريق الوريد يشكلون حيرة بالنسبة الى الهيئات الطبية، فالخطر من العقار حقيقي، كذلك الحال بالنسبة الى الفائدة التي يقدمها. لكن هذه المبادلة لا يمكن التخلي عنها، أو القضاء عليها كلية مما يتوجب اتخاذ الاحتياطات اللازمة. وفي مثل هذه الحالة فإن جراحة الاسنان قد تبدو من الأمور العاجلة. من هنا فإنه من المفترض أن يتلقى مرضى السرطان علاجا للاسنان، كعلاج مشكلة ضرس العقل، أو المشاكل الاخرى في وقت مبكر، قبل تعاطي عقار «بيسفوسفونايت» عن طريق الوريد، أو بعد ذلك مباشرة. وحالما يبدأ ذلك ينبغي على أن تكون أي جراحة بالاسنان، أو الفم محصورة جدا وضيقة النطاق وأن تسبب أقل ما يمكن من الضرر والتلف في عظمة الفك. كما أن الكشف الدوري على الاسنان وتنظيفها يصبح من الأمور المهمة جدا.

وفي العام الحالي قامت الجمعية الاميركية للعظام والبحوث في الأملاح المعدنية بتقديم توصيات مثل ضرورة قيام مرضى السرطان المصابين بترقرق العظام بالأخذ بعين الاعتبار مسألة العلاج الوقائي المسبق قبل الشروع بتعاطيهم علاج «بيسفوسفونايت». كما يتوجب على الاطباء إبلاغ مرضاهم حول مخاطر تنخر العظام في الوقت الذي ينبغي على المرضى بدورهم أيضا إبلاغ أطباء أسنانهم أنهم يتعاطون هذا العقار.

ويبقى السؤال حول ما إذا كان يتوجب الانقطاع فترة عن تناول هذا العقار قبل أو بعد إجراء عمليات الاسنان؟ لكن قد لا يكون هناك أي فرق، أو أهمية لذلك لكون العقار يستمر في تأثيره الضار فترة طويلة بعد توقف الناس عن تعاطيه، لأنه يقوم بالاندماج عميقا في الانسجة العظمية. أما تأثيرات خاصية «أنتيانجيوجينيك» فإنها قد تتوقف حالا بعد التوقف عن تعاطي الدواء.

ولكن حتى ولو لم يكن لتعاطي «بيسفوسفونايت» عن طريق الفم مثل هذه المخاطر، فإنه لا بد من التفكير بأساليب أخرى مغايرة لحماية العظام، مثل التمارين عن طريق حمل الأثقال والمشي، التي تصنع جميعها العجائب لأن تمرين العضلات ينبه نسيج العضلات ويبقيه في صحة جيدة، كما أن الكثير منا لا يتلقى كمية كافية من فيتامين «دي» والتوصيات تقول بضرورة تناول 600 وحدة دولية يوميا، وربما الأفضل تناول 800، وحتى 1000 وحدة دولية يوميا.

* خدمة هارفارد الطبية ـ الحقوق: 2005 بريزيدانت آند فيلوز ـ كلية هارفارد