سرطان الرئة.. لا يصيب المدخنين فقط

عوامل متعددة تلعب دورا فيه وعقاقير موجهة لعلاجه

TT

* كامبردج (ولاية ماساشوستس الأميركية): «الشرق الأوسط» * هل كان من المدخنين؟.. هذا هو رد الفعل الأولي لدى سماعنا ان شخصا ما يعاني من مرض سرطان الرئة. ورد الفعل هذا يمكن فهمه، لأننا نقرأ ونسمع الكثير حول العلاقة بين التدخين وسرطان الرئة منذ صدور تقرير «سيرجون جنرال» عام 1964. ويقدر اختصاصيو الامراض السرطانية ان نحو 85 الى 90 في المائة من الذين توفوا في الولايات المتحدة بسبب مرض سرطان الرئة، كانوا من المدخنين.

* سرطان غير المدخنين لكن ماذا عن البقية التي تبلغ نسبتها 10 الى 15 في المائة؟.. يقدر بعض الخبراء ان نحو 15 الف اميركي يقضي نحبه سنويا من جراء سرطان الرئة، رغم انهم لم يدخنوا بتاتا في حياتهم. واشهر حادثة من هذا النوع وقعت لأرملة النجم الراحل كريستوفر ريف، دانا ريف، التي فارقت الحياة عام 2005. واذا كان سرطان الرئة لدى غير المدخنين حالة، او فئة مختلفة، فإنه سيكون ضمن الامراض السرطانية العشر الاكثر خطورة وتسببا في الهلاك، وفي المرتية ذاتها من خطورة سرطان الرحم.

والتدخين السلبي، أو الذي يدعى الدرجة الثانية، هو عامل ايضا في العديد من الحالات، فاستنادا الى أحد التقديرات، يصاب نحو 3000 اميركي بسرطان الرئة بسبب تنفسهم الدخان السلبي، أو الدرجة الثانية، رغم ان الدلائل تشير الى ان التعرض له بات يقل بعدما اصبح تحريم التدخين في اماكن العمل والمطاعم امرا شائعا.

ورغم ادراج التدخين السلبي في العوامل المسبّبة، إلا ان هناك مجموعة لا بأس بها من مرضى سرطان الرئة لا يمكن ارجاع سبب ذلك الى التبغ.

وحتى وقت قريب كان للاطباء اسباب قليلة لاعتبار سرطان الرئة عاملا مؤثرا في غير المدخنين، على اعتبار انه حالة منفصلة، فقد كان التشخيص والعلاج هما الاجراء ذاته بغض النظر اذا كان المرضى من المدخنين أم لا. وقد يكون غير المدخنين قد استجابوا بشكل افضل الى العلاج من المدخنين، لكن الاطباء لم تكن لهم اية وسيلة لتحديد ما اذا كانت هناك فوارق أو اختلافات موروثة لدى المدخنين، او غير المدخنين، من المصابين بالسرطان، أو ان الذين لم يدخنوا بتاتا هم اكثر صحة وعافية ربما، لكونهم لم يشكوا من امراض قلبية وعائية التي يسببها التدخين عادة.

واليوم هناك ادراك متزايد انه في بعض الحالات المهمة قد يكون سرطان الرئة لدى غير المدخنين مرضا مختلفا. ويعتبر العقاران الخاصان بمعالجة السرطان gefitinb (Iressa) وerlotinib (Tarceva)، اكثر فعالية في علاج الاشخاص الذين لم يدخنوا بتاتا، كما تعرّف الباحثون على الخلافات الوراثية التي قد تشرح السبب. وكجزء من التجارب السريرية يقوم الاطباء في معهد «دانا فاربر» للسرطان في بوسطن المرتبط بجامعة هارفارد، باختبار أورام سرطان الرئة لدى المدخنين السابقين غير المسرفين، وأولئك الذين لم يدخنوا بتاتا. واذا عثر الباحثون على بعض التحولات الوراثية المعينة، جرت معالجتهم بعقار Tarceva كعلاج خط اول دفاعي (في الاحوال العادية لا يستخدم الا بعد فشل العلاج الكيميائي التقليدي). وثمة دراسات مشابهة جارية الآن في مستشفى ماساتشوسيتس العام يستخدم فيها عقار Iressa.

* علاج «موجّه» يقول الدكتور باسي جون، الباحث في «دانا فاربر»، ان مثل هذه التجارب هو المثال الاول للطب الشخصي الخاص في علاج سرطان الرئة. و«الطب الشخصي الخاص» هو عبارة، او وصف يطلق على العلاج الطبي المصمم خصيصا لعلاج المرضى حسب جيناتهم الوراثية الخاصة، او الفردية.

ويجد علماء الامراض بعض الصعوبة في التحكم بسرطان الرئة لدى غير المدخنين، لان «تاريخ التدخين» لا يعد جزءا اساسيا من سجلات الوفاة الرسمية. من هنا قام الباحثون في استخدام تقارير الاهل والاقارب وسجلات المستشفيات للتمييز بين المدخنين وغير المدخنين، لكن مثل هكذا دليل قد لا يكون كاملا.

بيد انه في عام 2005، نشر عدد من التقارير الخاصة بالاشخاص غير المدخنين. وقدم علماء الاوبئة والامراض في الجمعية الاميركية للسرطان SCS نتائج عن واحدة من الدراسات الكبيرة بهذا الخصوص، عندما استطاعوا الحصول على معلومات تتعلق بدراستين كبيرتين قامت بهما هذه الجمعية حول الوقاية السرطانية، وشملت 940 الف شخص الذين افادوا انهم لم يدخنوا في حياتهم قط، وذلك عبر استطلاع يتعلق بدراسات الوقاية من السرطان ومكافحته. وجرى خلاله حساب معدل الوفيات على مدى 12 سنة من المتابعة.

* وفيات متزايدة وتحدت نتائج باحثي الجمعية بعض المعتقدات الشائعة حول سرطان الرئة لدى غير المدخنين. وقد وجدت النتائج هذه ان معدل الوفيات بسبب سرطان الرئة هي اعلى لدى الذكور غير المدخنين، رغم وجود الكثير من المرضى من النساء نظرا لوجود العديد منهن من اللواتي تجاوزن سن الستين او أكثر في فئة غير المدخنات. كما وجد الباحثون ايضا ان معدل الوفيات هي اعلى لدى النساء الاميركيات من اصل افريقي مقارنة بالنساء من البيض. وعلى الرغم من ان بعض الدراسات وجدت ان عدد حالات السرطان بين غير المدخنين اخذت في الارتفاع، إلا ان تحليلات باحثي الجمعية الاميركية للسرطان لم تعثر على دليل يؤكد ذلك. وفي دراسة اخرى نشرت في صحيفة «جورنال اوف كلينكال اونكولوجي» افاد الباحثون في سنغافورة ان نحو ثلث مرضى سرطان الرئة في تلك البلاد لم يدخنوا قط، وهي نسبة مشابهة لنسبة اليابان. واكتشفوا ان المرضى الذين لم يدخنوا قد شخصوا بحالات سرطانية اكثر تقدما من المدخنين ربما، لان الاطباء لم يكونوا يبحثون عن المرض في البداية. وكانت اغلبية غير المدخنين (68.5%) من النساء المصابات بسرطانات غدية. اما عدد الحالات السرطانية التي سببها التدخين السلبي، فلا يمكن تحديده، لكون الباحثين اشاروا الى انهم غير قادرين على توثيق ذلك.

ويبدو ان سرطان الرئة موجود في العائلات، كذلك الحال بالنسبة الى التدخين، لذلك لا يبرز المرض على كونه حالة وراثية. لكن الباحثين الالمان أفادوا في عدد اكتوبر الماضي من مجلة «تشيست» ان التاريخ العائلي هو عامل كبير بين غير المدخنين اكثر بكثير من المدخنين، مما يشير ربما الى وجود عامل وراثي مهم وراء الحالات السرطانية بين غير المدخنين.

* عقاقير ذكية وكانت موافقة وكالة الاغذية والعقاقير الاميركية على عقار imatinib (Gleevec) في مايو (أيار) 2001، قد اعتبرت بداية عصر جديد في علاج السرطان عن طريق العقاقير الذكية التي من شأنها ان توجه ذاتها لاستهداف البروتينات الشاذة الموجودة فقط في الخلايا السرطانية. ومثل هذه الانتقائية لا تجعلها اكثر فعالية فحسب، بل تجعلها كذلك تنتج القليل من التأثيرات الجانبية لكون الخلايا غير السرطانية لا تتأثر بالعلاج. والذي ضاع وسط هذه التطورات الجديدة ذكر عقار Gleevec، الذي يعمل ضد السرطانات النادرة نسبيا (مثل اللوكيميا الخبيثة المزمنة والاورام اللحمية المعوية الباطنية). وبالمقابل يستهدف عقار gefitinib (Iressa) مستقبلات عوامل النمو في طبقة البشرة EGFRs epidermal growth factor receptors الموجودة عادة في العديد من السرطانات. ومثل هذه التطورات تعقد الآمال على عقاقير مثل Gleevec لمعالجة الاشكال الشائعة من السرطان.

لكن هناك عقبة كأداء وهي ان عقار Iressa يقوم بتقليص السرطانات في نحو 10 في المائة من مرضى سرطان الرئة الذين يتناولون العقار. «لكن اذا نظرت الى سطح خلايا سرطان الرئة، فإن 90 في المائة منها تملك مستقبل EGFR»، كما يقول الدكتور جون. «لكن نسبة 10 الى 15 في المائة من المرضى يتجاوبون مع العلاج. وهنا تحصل مثل هذه المفارقة الطبية، فإذا كان المستقبل موجودا هناك، فلماذا لا يستفيد الجميع؟»، كما يتساءل الدكتور جون.

وعندما قام الباحثون بتفحص نتائج الدراسة بتفصيل اكبر، وجدوا ان سرطانات الرئة لبعض اجناس الناس تستجيب اكثر الى عقاري Iressa وTarceva. وكانت للاورام النسائية على سبيل المثال، استجابة افضل من الرجال، كما ان المرضى من اليابانيين استجابوا افضل من غيرهم كمعدل عام. وهكذا ايضا بالنسبة الى الاشخاص الذين لم يدخنوا. وفي احدى التجارب كان معدل النجاة بالنسبة الى غير المدخنين اكثر من الضعف (من 10 اشهر الى 22 شهرا) لدى اضافة Tarceva الى العلاج الكيمياوي التقليدي.

وكانت هذه النتائج المشجعة من قبل المرضى اليابانيين والقاطنين في شرق آسيا، قد ادت الى رواج دراسة العقارين Iressa وTarceva في آسيا. كما شرع الباحثون ايضا في البحث عن الاختلافات الموجودة في جينات الخلايا السرطانية في الرئة، التي قد تفسر الاستجابات المختلفة والمتنوعة. ويقول الدكتور جون انه يبدو الان ان نسبة 85 في المائة من الاورام السرطانية التي استجابت الى العقارين Iressa وTarceva تملك خلايا بنوع واحد او نوعين من التحولات. ويقوم الباحثون في التجارب السريرية التي تجرى في «دانا فاربر» باختبار اورام المصابين بسرطان الرئة التي من المحتمل ان تملك هذين التحولين. وفي هذا الاطار يجري علاج مجموعة تضم غير المدخنين بعقار Tarceva اذا ما عثروا على هذه التحولات في اورامهم.

* مقاومة العقاقير وكان الاطباء قد اكتشفوا بعد رواج استخدام عقار Gleevec، ان المرضى طوروا مقاومة له. لكن من حسن الحظ جرى تطوير جيل ثان من العقاقير التي يمكن استخدامها بعد حصول مثل هذه المقاومة. وكانت وكالة الغذاء والدواء الاميركية قد وافقت عام 2005 على دواءين منهما هما sunitinib (Sutent) و) dasatinib (Sprycel. وهذه العقاقير ليست ذات «عقلية إفرادية» مثل Gleevec، بل انها تستهدف العديد من البروتينات، وليس مجرد واحد منها.

والمقاومة هي الحدود الكبيرة ايضا بالنسبة الى عقاري Tarceva وIressa. وفي الواقع ان جميع المرضى الذين يستجيبون الى الادوية يطورون نوعا من المقاومة خلال 14 شهرا او أكثر. لكن الباحثين تمكنوا من التعرف على تحولات جينية لدى نصف هؤلاء المرضى التي قد تكون مسؤولة عن هذا الامر. وفي عام 2005، قدم الدكتور جون وزملاؤه نتائج ابحاث تظهر انه حتى كمية صغيرة من الجينات المتحولة قد تسبب مثل هذه المقاومة التي قد تجعل الفحوص والاختبارات الدقيقة أمرا صعبا. غير ان الامل معقود على عثور مطوري الادوية على عامل بمقدوره إبطال نشاط الجينات المسببة لمثل هذه المقاومة، وبالتالي تصبح عملية فحص وجودها جزءا روتينيا من الطب الشخصي الخاص.

في هذا الوقت يستمر التدخين في المستقبل المنظور في كونه السبب الرئيسي لسرطان الرئة مما يبقي جلسات برامج التوقف عن التدخين بالنسبة الى الشباب من الاولويات. في هذا الوقت ايضا يتوجب على المجموعة الكبرى من مرضى سرطان الرئة الذين لم يدخنوا قط في حياتهم ان يذكرونا دائما بأننا بحاجة الى النظر الى ما وراء عوامل الخطورة العادية وانواع الامراض. ومع قدوم الاختبارات الوراثية، الى جانب تزايد الاوبئة والامراض القديمة، وعمليات التشخيص التقليدية، وبروز حدود لعلاج الامراض، جرت اضافة حالات جديدة، كسرطانات الرئة بالنسبة الى غير المدخنين، الى الخريطة، متأملين في تطور علوم الوقاية والعلاج.

« خدمة هارفارد الطبية ـ الحقوق: 2005 بريزيدانت آند فيلوز ـ كلية هارفارد