الرفض الاجتماعي للتعامل مع الأطفال المعاقين عقلياً.. أما له من حلول؟

المبررات القائلة بأنهم يشكلون خطورة على الآخرين غير واقعية

TT

مع أنها حاولت التخفيف من حدة تفشي المشكلة، إلا أن الدراسة التي عرضها الباحثون من جامعة أنديانا تُؤكد أن النظرة الاجتماعية من قبل بعض الآباء و الأمهات إلي الأطفال الآخرين المُصابين بأحد الأمراض العقلية لا تزال تتسم بالرفض، و خاصة من جانب عدم تقبلهم لاختلاط أبنائهم وبناتهم بهم وعدم تقبل مجاورتهم.

   واستخدم الباحثون عبارة "أقلية حقيقية" في وصف عدد البالغين الذين يتخذون هذا الموقف الاجتماعي تجاه رفض تعامل أطفالهم مع الأطفال الآخرين الذين يُعانون علي سبيل المثال من الاكتئاب أو اضطرابات فرط النشاط و تدني الانتباه. و قال الباحثون في دراستهم المنشورة بعدد مارس من مجلة السلوكيات الاجتماعية و الصحة، بأن واحدا من كل خمسة من الوالدين يرفض أن يكون من جيرانه أحد هؤلاء الأطفال المرضى نفسياً، أو أن يكون أحد الطلاب في الفصل الدراسي الذي يدرس أحد أبنائه أو بناته فيه، أو أن يتخذه أو يتخذها أحد من الأبناء أو البنات صديقاً أو صديقة له.    و أضاف الدكتور جاك مارتن، الباحث الرئيس في الدراسة، إن الأطفال الأكبر عمراً من هؤلاء المرضى النفسيين هم أكثر تعرضاً للرفض الاجتماعي، بمعنى أن الرفض الاجتماعي يكبر كلما كبر عمر الطفل ذاك.   

* رفض اجتماعي و أكد الباحثون أن بنتيجة مراجعة نتائج بحثهم تبين أن أساس الرفض الاجتماعي من قبل الآباء و الأمهات لأطفال الغير ممن يُعانون من أحد الأمراض النفسية، هو تصوراتهم وقناعتهم المسبقة بأن هذه الفئة من الأطفال ربما تُشكل أو تكون خطيرة علي أبنائهم أو بناتهم، ما يجعلهم يرفضون قربهم منهم أو اختلاطهم بهم .  و قال الدكتور مارتن إنه، فيما يبدو، أن الإصابة بأحد الأمراض العقلية لدى الأطفال أو لدى البالغين تعني للناس عموماً أنها علامات علي خطورة سلوكياتهم تجاه الآخرين. وهو ما يُمثل حاجزاً فيما بينهم و بين تقبل الناس في المجتمعات لهم. وأضاف بأن "حاجز الخوف من خطورتهم" من الأهمية بمكان، لدرجة أنه يجب التعرض للحديث عنه في المحافل العامة والقانونية و كذلك ضمن لائحة الدراسات و البحوث الطبية، و ذلك في سبيل وضع حلول له أو حد لتمادي ممارسة الناس لتبعاته.

وكان باحثو جامعة أنديانا قد شملوا في دراستهم أكثر من 1100 شخص من البالغين ضمن دراسة المسح الإحصائي الاجتماعي العام التي قام بها المركز القومي لأبحاث الرأي. و تم فيها مناقشتهم حول مدى و نوعية تعاملهم مع مجموعات مختلفة من الأطفال في أعمار مختلفة، ممن وُصفوا بأنهم مصابون بأمراض متنوعة كالربو أو اضطرابات فرط النشاط و تدني التنبه أو الاكتئاب أو حالات تعاقب ارتفاع و تدني الحالة النفسية المزاجية.

   و تبين للباحثين أن حالات رفض هؤلاء البالغين الموجهة نحو الأطفال الذين يُعانون من الاكتئاب أو اضطرابات النشاط و الانتباه هي أعلى بمقدار ثلاثة أضعاف بالمقارنة مع تلك الموجهة نحو مرضى الربو أو اضطرابات المزاج لدى الأطفال.  

* عدم التقبل و تحديداً قال 30% من الآباء و الأمهات إنهم لا يحبون أن يُصبح الطفل الذي يُعاني من الاكتئاب صديقاً لأحد أبنائهم، و 18% منهم لا يودون أن يعيشوا بجوار عائلة لديها طفل مُصاب بالاكتئاب. كما أن 23% من الآباء و الأمهات يُفضلون أن لا يتخذ أحد من أبنائهم أو بناتهم صديقاً أو صديقة من أطفال يُعانون من اضطرابات فرط النشاط و تدني الانتباه، و 22% لا يُفضلون السكنى بجوارهم البتة.

  وأضاف الباحثون القول إن تحليل نتائج دراستهم حول حاجز عدم تقبل عموم الناس التعامل مع فئة الأطفال المُصابين بأمراض عقلية يتماشى مع ما سبق لتقرير الجراحين العام الحديث عنه و إثارة جوانبه في عام 1999. و بالرغم من أنها لا تمثل عقبة حقيقية أسوة برفض البالغين، إلا أن وجود تلك المسافة من التباعد الاجتماعي تعكس حقيقية وجود نوع من الوصمة أو العار الذي لا يزال يُحيط بهؤلاء الأطفال الذين يُعانون من إصابات مرضية عقلية.    وقالوا بأنهم يأملون أن تكون الجهود العلمية الموجهة نحو فهم أسس و جذور تلك الوصمة بالعار، التي تلاحق هؤلاء الأطفال أينما حلوا أو أينما ذُكروا، وسيلة ناجحة في مواجهة و القضاء علي استمرار تدني التقبل الاجتماعي للمرضى العقليين عموماً.

  ,السؤال المُلح هنا هو لما تستمر نظرة الناس الاجتماعية المتسمة بالوصف بالوصمة و العار حيال الإصابة بأحد الأمراض النفسية و العقلية؟ ربما يكون السبب هو أن التقسيم الطبي للأمراض جعل أن ثمة هناك أمراضاً بدنية جسمية كالتي تصيب القلب أو الكلى أو الكبد أو الجهاز الهضمي، و أن ثمة هناك أمراضاً تصيب العقل و النفس. لكن الحقيقة هي أن الدراسات الطبية الحديثة، وخاصة تلك التي استخدمت تقنيات متطورة في التصوير الوظيفي لنشاط مناطق الدماغ تقول في نتائجها بصريح العبارة إن الأمراض النفسية لها أسباب عضوية تعتري أجزاء الدماغ بتغيرات واضحة علي المستوى التشريحي و الوظيفي.

   و ما يتصوره البعض من أن سبب إصابة إنسان ما بأحد الأمراض النفسية إنما هو سلوكيات أو اختيارات شخصية، و أن بإمكان أي إنسان التغلب علي أو منع إصابته بأي من الأمراض النفسية،إنما هو في الحقيقة قول و ظن بلا علم، بل علامة علي جهل واضح بما توصل إليه الطب حول أصول و أسس و أسباب الأمراض النفسية و العقلية. و الحديث ليس فيه قسوة بل هم المرضى النفسيون، و خاصة الأطفال منهم، الذين لا يستحقون تلك المعاملة الجافية و الرفض الاجتماعي لهم أو للقرب منهم.   

* مرضى نفسيون الدماغ عضو في الجسم، و أي أعضاء الجسم عُرضة لاختلال وظيفي أو مرضى بأي صورة كانت. و الأمراض النفسية لا يُوجد إنسان علي وجه الأرض ليس عُرضة لاحتمال الإصابة بها. هذا ما يقوله الطب. و الإصابة بالمرض النفسي ليست نتيجة اختيار من المرضى النفسيين لذلك، بل هو بلاء مثل أي ابتلاء بأي من الأمراض.

   العلاقة بين أذى الآخرين و الخطورة عليهم و بين الإصابة بالأمراض العقلية و النفسية علاقة شائكة لا يُمكن النظر إليها بسطحية. بل ثمة أسس طبية و علمية للتمييز بين الحالات النفسية و بين التسبب بأذى الآخرين، و خاصة عند الحديث عن الأطفال. و لذا فإن مما هو معلوم أنه ليس من السهل تبرئة المتهم بداعي إصابته بأحد الأمراض النفسية. و أكثر الجرائم من السرقة أو غيرها لا تُرتكب من قبل المرضى النفسيين، بل من أشخاص كاملي القدرات العقلية وسليمي الحالة النفسية.

   المشكلة هي في تبعات تلك السلوكيات من التمييز في التعامل مع الأطفال المُصابين بأمراض عقلية أو نفسية. ما يحرمهم و يحرم أهاليهم من تقبل الناس و الأطفال الآخرين لهم. و ما قد يُؤثر بشكل سلبي بالغ علي إقبال ذويهم علي معالجتهم و أخذهم إلي المستشفيات أو العيادات لمتابعة حالتهم الصحية النفسية.    و الأساس المنطقي و الإنساني و الأخلاقي و الذوقي و الأدبي هو إننا إن لم يكن باستطاعتنا، أو أننا لا نريد أن نخدمهم أو نساعدهم، فعلي أقل تقدير علينا أن لا نُؤذيهم برفضنا لهم اجتماعياً و علينا أن لا نُؤذيهم بعدم تشجيعنا علي تلقيهم للمعالجة الطبية و علينا أن لا نُؤذيهم بعدم تمتعهم في حقهم بالاستمتاع بالحياة أسوة بالأطفال الآخرين، و الأهم أن لا نُؤذيهم و نُؤذي أمهاتهم و آبائهم بفرحة وجودهم بالأصل بين الناس.