حمى الضنك.. تهدد 40 % من سكان الأرض

تستوطن أكثر من 100 دولة وتصيب 50 مليون شخصا سنويا

TT

ما يُحاول الباحثون من برلين قوله بواقعية، هو أن الاقتصار علي ضرورة توفر العناصر الأربعة التي تذكرها منظمة الصحة العالمية في تشخيص الإصابات بحمى الضنك dengue fever، قد يُؤدي إلي إهمال تشخيص كثير من الإصابات الحقيقية بهذا المرض، علي الأقل بين المسافرين القادمين من زيارة أحد الدول الموبوءة بهذا المرض.

وما تُحاول نشرات منظمة الصحة العالمية لفت النظر إليه حول مرض حمى الضنك هو أن عدم وجود معدلات وفيات عالية عند بدء ظهور حمى الضنك في منطقة أو دولة ما، لا يعني أن الأمور هينة أو لا تستدعي القلق، و كذلك الحال عند ظهور إصابات قليلة، إذْ العبرة و الأهمية هي في مجرد ظهور المرض واستمرار استيطانه من خلال مؤشرات ظهور حالات بشكل متواصل حتى لو كانت قليلة العدد، لأن الخطورة في هذا الوضع المستمر، و إن كان مستقراً في عدد الإصابات، هي أن احتمالات ظهور تفشي وبائي سريع الانتشار، أو ما تُسميه منظمة الصحة العالمية بالانفجار في التفشي الوبائي، تظل مُحتملة طوال الوقت. وكذلك تتمثل خطورة هذا الوضع، في أن الإصابات الأولية عند بدء ظهور المرض في بلد ما قد تتحول إلي ظهور إصابات شديدة و مميتة عند تكرار إصابات نفس الأفراد فيها. و الحقيقة أن واقعية التعامل مع حمى الضنك تنبع في الأصل من إدراك و فهم إحدى أهم الحقائق التي تتحدث عنها منظمة الصحة العالمية المهتمة بتفشي الإصابات بهذا المرض الفيروسي المُعدي، و التي مفادها أن مرض حمى الضنك تمت ملاحظة ظهوره، كمرض ناشئ عن إصابات فيروسية تنقلها إناث البعوض، منذ خمسينات القرن الماضي. ومع أن العدد في سبعينات القرن الماضي لم يتجاوز تسعة دول، إلا أن العدد الفعلي اليوم للدول التي استوطنها المرض يتجاوز أكثر من 100 دولة في كافة العالم. ولذا تصنفه المنظمة العالمية للصحة بأنه يمثل أحد المشاكل الصحية العالمية الرئيسة اليوم، ما يعني أن الجدية في التعامل مع هذا المرض و محاولات القضاء علي دخوله إلي مناطق جديدة و استيطانه فيها و انتشاره من خلالها إلي مناطق أخرى، هي جوانب طبية لا تحتمل أية إهمال أو تهاون. لأن النتيجة معروفة سلفاً و هي أنه كلما طال أمد عدم تحقيق الجهود الطبية ذلك النجاح في القضاء علي وجود المرض، كلما صعب ضمان تحقيق ذلك علي أرض الواقع. والحال مع حمى الضنك أسوة بغيرها من حالات الأمراض المعدية. و التي يُمثل معها التعامل الطبي و الصحي الفاعل ذو النتائج الملموسة هو الوسيلة الوحيدة لإبقاء المناطق المتعرضة للإصابات بها خالية من أية رواسب تحول تلك المنطقة إلي مكان استيطان جديد علي الخارطة العالمية الصحية لأي من مواقع تواجد تلك الأمراض المعدية. تشخيص طبي حديث وأهمية ما طرحه الباحثون من مؤسسة روبرت كوخ في عدد إبريل من مجلة الأمراض المعدية يتجلى بشكل واضح عند الأخذ بعين الاعتبار التوسع الملحوظ في عدد الدول التي يستوطنها هذا المرض علي المستوى العالمي، والتي قارب عددها المائة دوله هذا العام.

و تشكل الإصابات بحمى الضنك السبب الرئيس في حالات التهاب الدماغ الفيروسية encephalitis الناجمة عن قرص البعوض بين المسافرين علي مستوى العالم. و قال الدكتور أولي وايكمان، من مؤسسة روبرت كوخ ببرلين، إن ثمة حالات شديدة من إصابات حمى الضنك لا تنطبق عليها توفر العناصر التشخيصية الأربعة التي تعتمدها منظمة الصحة العالمية في تأكيد الإصابة بهذا المرض الفيروسي.

و بالاستفادة من معلومات الشبكة الأوروبية لمراقبة الإصابات بالأمراض المستوردة المُعدية، قام الباحثون من المركز الألماني ببحث متعمق في حالات العدوى بحمى الضنك بين المسافرين الأوربيين، و الذين تمت معالجتهم بين عام 2003 و 2005.

والعناصر الأربعة التي تتطلب منظمة الصحة العالمية توفرها في تشخيص الإصابات بحمى الضنك تشمل وجود حمى ارتفاع حرارة الجسم، و توفر القابلية للنزيف، و تسرب الدم و غيره من السوائل داخل أنسجة الجلد، و هبوط عدد الصفائح الدموية إلي ما دون 100 ألف لكل ميكرومتر.

و بتتبع دراسة حالات 219 إصابة بحمى الضنك تم اكتسابها من زيارة بلدان يستوطنها المرض الفيروسي هذا، تم التأكد من ذلك يقيناً في 61% من الحالات. بينما تم وصف الإصابات قي 39% منها بأنها مُحتملة.

و لاحظ الباحثون علي سبيل المثال أن ظهور بثور جلدية petechiae نتيجة لنزيف دقيق داخل طبقة الجلد وتسرب خلايا الدم الحمراء خارج الشعيرات الدموية فيه، والذي يُؤدي بالمحصلة إلي ظهور بقع حمراء علي طبقة الجلد، لم تبدو إلا في 13% من مجمل الحالات. كما أن حالات النزيف التلقائي حصلت فقط لدى 8% من الحالات، و ارتبط حصولها بارتفاع منسوب أنزيمات الكبد و بتدني عدد الصفائح الدموية. و أن 0،9% فقط من حالات المرضى توفرت فيها العناصر التشخيصية الأربعة.

و أضافوا بأن 11% من الإصابات كانت مصحوبة بأعراض صُنفت حدتها بأنها شديدة، و أن 23% من المُصابين احتاجوا إلي الدخول إلي المستشفى لمعالجة المضاعفات التي ظهرت عليهم.

و استخلص الباحثون من نتائج مراجعتهم الدقيقة لحالات إصابات المسافرين الأوربيين، من سائحين و غيرهم، أن الحاجة تستدعي اليوم، بشكل أكبر من السابق أن يتخذوا وسائل للحماية من قرص البعوض، خاصة عند زيارتهم إلي مناطق موبوءة بالمرض. كما أن ثمة دواع للتقويم الدقيق و للمتابعة المباشرة لمن يعودون إلي ديارهم و هم يشكون من أعراض محتملة للإصابة بهذا المرض.

* نزيف بشري واقتصادي النزيف الدموي الذي يُحدثه قرص البعوض للمُصابين بهذا المرض، ليس هو الهدر الوحيد الناجم عن تفشي الإصابات به، بل هناك النزيف الاقتصادي و النزيف في الأرواح و الأدمغة كذلك.

حمى الضنك أحد الأمراض المعدية التي يتسبب قرص البعوض في انتقالها، و التي غدت إحدى المشاكل الصحية العالمية. و لم يعد الأمر مقتصراً علي انتشارها في الدول الاستوائية و شبه الاستوائية، بل تعداها إلي مناطق أخرى. و سواء قلنا بأن تغيرات المناخ و ارتفاع حرارة الأرض هي السبب، أم لم نقل ذلك، فإن الحقيقة أنه أخذ في الانتشار و إصابات المرض آخذة في الزيادة المتقلبة علي اختلاف أوقات العام. و هناك من الدول، وفق ما تُؤكده منظمة الصحة العالمية، من تُشكل الوفيات بهذا المرض السبب الرئيس للوفيات، و للحاجة إلي الدخول إلي المستشفيات لتلقي المعالجة، بين الأطفال.

و عليه فإن المنظمة العالمية للصحة تقول إن حوالي 2500 مليون إنسان علي سطح الكرة الأرضية هم عُرضة لخطر الإصابة بحمى الضنك. أي أن الحديث هو عن 40% من سكان الأرض. و العدد الإجمالي الفعلي السنوي للإصابات علي مستوى العالم، وفق إحصائيات منظمة الصحة العالمية، هو 50 مليون إصابة سنوياً! إشكاليات مهمة حديث الوسط الطبي عن حمى الضنك، حديث ذو شجون من جوانب شتى. هذا ناهيك عن حديث الأوساط الأخرى من اجتماعية و اقتصادية و غيرها، ذات الهموم هي الأخرى، و الناشئة عن تفشي هذه الحالة المرضية الوبائية.

ما يلاحظه المتأمل في تاريخ حمى الضنك القصير نسبياً، هو أن هناك ستة عناوين تحتاج إلي تعامل فاعل، من الوسط الطبي بالدرجة الأولى قبل غيره، كي يتم تحقق ما أقل ما يُمكن أن يُقال عنه، لو تم، بأنه جهد جدير بالتقدير. و هي:

_ أولاً: التوسع في رقعة المساحات الجغرافية التي استوطنتها هذه الفيروسات و توفر الظروف الملائمة لها و الملائمة أيضاً لتكاثر و تواجد أنواع البعوض الناقل لها. و بالتالي فإنه بدلاً من أن يقتصر الأمر علي تسعة دول في سبعينيات القرن الماضي فإننا نشهد نادياً ضخماً من دول العالم التي استوطنتها هذه الفيروسات. ثانياً: التوسع الجغرافي في مساحة افتراش فيروسات حمى الضنك لمناطق واسعة من الكرة الأرضية، هو ما تسبب في ارتفاع عدد الإصابات السنوية العالمية بهذا المرض بصفة يُمكن أن يُقال عنها ارتفاع صاروخي في العدد، ليبلغ العدد حوالي 50 مليون حالة سنوياً. و إن كنا قد قارنا في جانب عدد الدول التي زاد استيطان فيروسات حمى الضنك فيها بين سبعينيات القرن الماضي و الأعوام الحالية، فإن المقارنة في ارتفاع عدد الإصابات السنوية العالمية لا تتطلب فترة ثلاثين عاماً. بل إن في منطقة كالأميركيتين، التي بلغت الإصابات فيها أكثر من 600 ألف حالة في عام 2001، فإن هذا العدد يعني مضاعفة عدد الإصابات فيها بمقدار 200%، بالمقارنة مع ستة أعوام سبقت، أي في عام 1995!.

ثالثاً: التوسع الجغرافي في انتشار الفيروس، و الزيادة في عدد الإصابات السنوية هما ليسا الأمرين المهمين بالدرجة الأولى اليوم. لأن ما يهم المجتمعات المحلية في آسيا و أفريقيا و القارتين الأميركيتين هو مختلف تماماً عن هذه الحالة العالمية. ذلك أن كل منطقة بحد ذاتها عُرضة أن تنشأ فيها حالات وبائية مما تُطلق عليه منظمة الصحة العالمية وصف explosive outbreaks ، أي بالترجمة إلي العربية حالات متفجرة من انتشار المرض وبائياً. و هو ما حصل بالضبط في البرازيل عام 2001، حينما أُصيب فيها 390 ألف شخص بحمى الضنك، وفق ما تقوله منظمة الصحة العالمية. و التي أضافت حقيقة تُضاف إلي هذا و هي أن خلال حالات التفشي الوبائي السريعة الانتشار، فإن معدلات الإصابة تطال ما بين 40 إلي 50% من المتعرضين لاحتمالات الإصابة، لكنها عقبت بالقول لكن النسبة قد تصل إلي ما بين 80 إلي 90%!.

رابعاً: من بين كل حالات الإصابة بحمى الضنك العامة العالمية السنوية، يُشكل عدد الإصابات بحالات النزيف الدموي لحمى الضنك حوالي 500 ألف حالة سنوياً في كل العالم. والمهم هو ما تقوله منظمة الصحة العالمية من أن غالبية هذا النوع من تطور الإصابة و شدتها تطال الأطفال بشكل خاص. و أن حوالي 2،5% منهم يموتون، بالرغم من أن عدد الوفيات قد يبلغ الضعف في بعض المجتمعات، أي 5% بغض النظر عن مدى التقدم الطبي في المعالجة الداعمة لهذه الحالات. و التي لو لم تتوفر بالأصل فإن نسبة الوفيات ستبلغ 20%!. _خامساً: هناك أربعة أنواع من الفيروسات المتسببة بحالات إصابات مرض حمى الضنك، و المتشابهة في الأعراض حين الإصابة بأي منها. و تُؤدي الإصابة بأي منها و الشفاء من بعد ذلك إلي إعطاء مناعة دائمة للجسم ضد عودة الإصابة بذلك النوع المحدد من أنواع الفيروسية الأربعة. أي أن الشخص ذلك الذي أُصيب في السابق، سيظل عُرضة للإصابة بأحد الأنواع الثلاثة الباقية. الإشكالية التي تحتاج إلي تنبه جاد من الوسط الوسطي و التي تُحتم الاهتمام بالقضاء علي تواجد فرص إصابات الناس بالمرض هي أن عودة إصابة إنسان ما بأحد الفيروسات الأخرى، و الذي سبقت في الماضي إصابته بأحدها، يرفع من احتمالات ظهور مضاعفات لم تحصل بشكل عنيف في الإصابة الأولى. و تحديداً فإن الحديث عن ظهور حالة النزيف الدموي لحمى الضنك. الأمر الذي هو السبب الرئيس في الوفيات.

و لذا فإن عدم وجود معدلات وفيات عالية عند بدء ظهور حمى الضنك في منطقة أو دولة ما لا يعني أن الأمور هينة، و كذلك الحال عند ظهور إصابات قليلة. إذْ العبرة و الأهمية في مجرد ظهور المرض و استمرار استيطانه من خلال مؤشرات ظهور حالات بشكل متواصل حتى لو كانت قليلة العدد. و الخطورة في هذا الوضع المستمر و إن كان مستقراً في عدد الإصابات هي أن احتمالات ظهور تفشي وبائي سريع الانتشار، أو ما تُسميه منظمة الصحة العالمية بالانفجار في التفشي الوبائي، تظل مُحتملة طوال الوقت. و كذلك الخطورة تتمثل في أن الإصابات الأولية عند بدء ظهور المرض في بلد ما قد تتحول إلي ظهور إصابات شديدة و مميتة عند تكرار إصابات الأفراد فيها.

_سادساً: ليس ثمة علاج لحالات حمى الضنك. بمعنى أنه ليس هناك دواء يُمكن إعطاءه للمُصاب يُؤدي إلي القضاء علي الفيروس و شفاء المريض منه. كما أنه ليس ثمة لقاح يُمكن به ضمان تحصين الناس أو مجموعة منهم من إمكانية إصابتهم بالمرض. و إن كان من المفهوم للكثيرين عدم وجود دواء لمعالجة هذه الحالات، أسوة بالكثير من الأمراض الفيروسية التي لا دواء فاعل ضدها حتى اليوم، فإن من غير المفهوم للكثيرين مدى الصعوبات التي يُواجهها الباحثون في نجاح محاولاتهم إنتاج لقاح يقي من الأنواع الأربعة من الفيروسات المتسببة بإصابات حمى الضنك. و بناء علي استمرار الجهود الطبية في مضمار أبحاث هذا الجانب، فإن منظمة الصحة العالمية لا تزال تُعطي ذلك الأمل الجميل بأن من الممكن إيجاد لقاح فاعل ضد الفيروسات الأربعة خلال السنوات القادمة.

ما يعني أن الجهود الطبية في التعامل مع منع انتشار المرض معنية بالدرجة الأولى بمنع وصول و انتقال الفيروسات إلي الإنسان عبر ناقلات الفيروس من إناث البعوض. أي أن مربط الفرس الذي لا مناص من التعامل معه بصفة فاعلة هو البعوض.

* البعوض.. ناقل مرض حمى الضنك «فتش عن الانثى» ، مثل ربما ينطبق على أصل مشكلة الإنسان الأزلية مع البعوض وقرصه. إذْ أن الأمراض التي يُسهم البعوض في نقلها إلي الإنسان أو إلى غيره من الكائنات الحية لم تأت مطلقاً من ذكور البعوض، بل هي من إناثه! و السبب في غاية البساطة، أن ذكور البعوض بالأصل لا تتغذى و لا تحتاج إلى الدم من البشر أو غيرهم، بل هي تتغذى على رحيق الأزهار في المقام الأول. لكن نظراً لحاجة إناث البعوض إلى الدم في إتمام عملية إنتاج البويضات وإخراجها إلى عالم الوجود، فإنها تلجأ إلى امتصاص ذلك من الإنسان أو من الحيوانات.

وما يعتقد البعض من أن البعوض لا يعيش إلا بضعة أيام ثم يموت ليس بصحيح، إذْ إن البعوض قادر على العيش لأشهر. و بالرغم من صغر حجمه و خفة وزنه إلا أنه قادر على الطيران في رحلات جوية متتابعة، تستغرق كل منها حوالي خمس دقائق، بسرعة حوالي 2،5 كيلومتر في الساعة. ما يعني أنه قادر علي قطع مسافات طويلة خلال اليوم، سواء بين أماكن متباعدة أو في نفس المنطقة التي يعيش فيها.

وحينما تتغذى إناث البعوض من نوع أيديس على دم مُصاب بحمى الضنك، فإن الفيروسات تدخل جسمها وتظل فيها ضمن فترة حضانة تصل إلى عشرة أيام. و بعدها تُصبح أنثى البعوض قادرة علي نقل هذا الفيروس إلي إنسان أخر عند قرصها لها لامتصاص الدم منه.

وثمة جانبان، حولهما خلاف علمي، في قدرة البعوض على نقل الفيروس إلى البويضات التي يضعها، وبالتالي إلي البعوض الجديد غير المتعرض لامتصاص الدم من أشخاص مُصابين، وأيضاً في أن يكون غير الإنسان عُرضة للإصابة بالمرض، وتحديداً فإن ما يدور الحديث عنه هو احتمالات إصابة الفيروس لأنواع من القرود.

ويسري الفيروس في جسم الإنسان المُصاب خلال ما بين يومين إلي سبعة أيام. خلالها ربما تبدأ أعراض الحمى بالظهور على الإنسان، لكن المهم هو أن البعوض عُرضة لاكتساب الفيروس متى ما قرص ذلك الإنسان.