مشروع أميركي لبحث قدرات العسل على شفاء قروح مرضى السكري

البحث عن علاج فعال مضاد للميكروبات العنيدة

TT

الأميركيون يقومون اليوم بتجارب جريئة وطموحة، قد يأنف البعض منها لدينا ويرى فيها تخلفاً طبياً، في استخدام العسل للعناية بالجروح كوسيلة معتمدة في المستشفيات لمعالجة الجروح لدى الحالات المعقدة والصعبة الشفاء. ويعتزم الباحثون من جامعة ويسكنسون ـ ماديسون في مادسون بالولايات المتحدة البدء في دراسة واسعة حول استخدام العسل في معالجة القروح الناشئة لدى مرضى السكري. ويأتي المشروع العلمي الأميركي بعد اعتراف الأطباء من جامعة بون في ألمانيا، كما سبق لملحق الصحة عرضه في عدد 10 أغسطس لـ«الشرق الأوسط»، بأنهم يستخدمون العسل منذ عدة سنوات وبإيجابية عالية النتائج في معالجة الجروح والقروح المستعصية والمُصابة بأنواع عنيفة وشرسة من الميكروبات المقاومة لشتى أنواع المضادات الحيوية، وفق تصريحات الدكتور ارني صيمون وزملائه الأطباء من قسم الأورام بمستشفى بون للأطفال، والتي أكدوا حينذاك فيها أن أكثر من 24 مستشفى في ألمانيا يُستخدم من قبل أطبائها العسل لمعالجة الجروح. وأنهم يعتزمون إجراء مزيد من الدراسات الواسعة، لبحث تأثير العسل ومقارنته مع الوسائل الأخرى في معالجة الجروح والقروح المستعصية.

كما يأتي المشروع بعد أن نشرت المجلة الدولية لجروح الأطراف السفلى، الصادرة من الولايات المتحدة، في إبريل (نيسان) الماضي، بحث مراجعة للباحثين من جامعة ويكاتو بنيوزيلندا حول استخدام العسل في معالجة الجروح. وتم فيه عرض نتائج 22 دراسة شملت أكثر من ألفي حالة للجروح، إضافة إلى 16 دراسة أخرى على حيوانات التجارب. ووجدوا أنها تشير بالجملة إلى إيجابية فائدة العسل كغطاء للجروح عبر آليات عدة.

* ملاحظة طبيبة أميركية الواقع أن استخدام العسل على الجروح بغية تسريع شفائها هو ممارسة طبية قديمة منذ آلاف السنين، لكن مع ظهور المضادات الحيوية الحديثة، تأخرت أبحاث الطب الحديث في هذا الجانب. ومع ظهور أنواع شرسة من البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، يعود العلماء إلى طرق باب العسل مجدداً، وأصبح العسل، وفق ما يقوله الدكتور صيمون، أكثر جاذبية مرة أخرى في معالجة الجروح.

ووفق ما تم الإعلان عنه في الرابع من شهر مايو (أيار) الحالي، فإن الدكتورة جينيفر إيدي، الطبيبة في عيادات إيو كلير لطب الأسرة التابعة لجامعة ويسكنسون ـ مادسون، قد لاحظت أن أحد مرضاها أُصيب في حادث مروري، ترك لديه قروحاً تكرر التهابها بالبكتيريا، صعب السيطرة عليها لمدة تجاوزت تسعة أشهر بالرغم من استخدام المضادات الحيوية. وكان أن قررت تلك الطبيبة استخدام العسل موضعياً علي تلك التقرحات، مما أدى إلي شفائها. وبعدها تكررت حالات الاستخدام الموضعي للقروح لدى حالات مرضى السكري التي فشلت الوسائل العلاجية الأخرى في شفائها.

وبدعم من صندوق ويسكنسون التعاوني للصحة ومن مؤسسة الأكاديمية الأميركية لأطباء الأسرة في الولايات المتحدة، تم اعتماد تمويل الدراسة التي تقوم بها حالياً الدكتورة إيدي. ويرى الباحثون أن ثمة مستقبلاً واعداً لاستخدام العسل في علاج قروح مرضى السكري. وهم مرضى يتجاوز اليوم بكثير عددهم 200 مليون مُصاب في كافة أنحاء العالم، 15% منهم عُرضة للإصابة بقروح في الأقدام، بل إن الإحصاءات تشير الى ما هو أبشع من هذا، إذ أنه كل 15 ثانية تتم عملية بتر للقدم لمريض ما بالسكري، في مكان ما من العالم. وهو ما بلغت كلفة علاجه في الولايات المتحدة وحدها لقروح القدمين لدى مرضى السكري حوالي 11 مليار دولار عام 2001.

وقالت الدكتورة إيدي، وهي أيضاً أستاذة مساعدة بالجامعة المذكورة، إن الفشل في معالجة القروح في القدم لدى مرضى السكري يُكلف ألوف الدولارات، في حين أن العسل لا يُكلف إلا بضعة مئات منها.

* قروح مرضى السكري ونتيجة لضعف الإحساس في الأعصاب المغذية للقدمين، فإن من المعروف أن مرضى السكري معرضون للإصابة بالقروح فيها، لأن زوال أو ضعف الإحساس بالألم أو باللمس يُعيق قدرة المريض على ملاحظة الاصطدام بالأشياء أو تكرار الاحتكاك والتهتك الجلدي أو الاحتراق بمصادر النار والحرارة أو غيرهما من أسباب نشوء الجروح أو القروح. ومع نقص تدفق الدم من خلال شرايين القدمين لدى مرضى السكري نتيجة لتضيقات الشرايين الصغيرة والمتوسطة الحجم كأحد تداعيات اضطرابات الدهون وغيرها لدى مرضى السكري، ونظراً أيضاً إلي الضعف العام الذي يعتري جهاز مناعة الجسم لدى مرضى السكري، فإن النتيجة هي ظهور قروح في الأقدام، وسهولة وصول الميكروبات إليها، مما يعني تفاقم التهابها وصعوبة شفائها. ومع تكرار استخدام الأطباء لأنواع متعددة في دورات متعاقبة للمضادات الحيوية، تنشأ حالات من الالتهابات الميكروبية ببكتيريا السوبر المُقاومة للمضادات الحيوية المعروفة والمُستخدمة، ما يزيد الطين بلة، والمشاكل تعقيداً. وتقول الدكتورة إيدي ان هذا الامر يعتبر مشكلة عالية الأهمية على مستوى الصحة العامة، حيث، على حد قولها، تعتبر إدارة مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية وكذلك منظمة الصحة العالمية مشكلة البكتيريا المُقاومة للمضادات الحيوية بأنها واحدة من أهم المشاكل الطبية العالمية اليوم.

ووفق ما تقوله، فإن العسل حامضي acidic pH، وقليل المحتوى من الماء، ويُعطي مادة بيرأوكسيد الهيدروجين hydrogen peroxide طبيعية، ولذا فهو المثالي في محاربة هذه الميكروبات التي كونت لديها قوة مناعة ومقاومة لمفعول المضادات الحيوية.

وقدم الباحثون أرقام هواتف في الجامعة، يُمكن للراغبين في المشاركة بالدراسة الاتصال بها لتحديد معاينتهم ومدى مناسبتهم للدخول في الدراسة، والتي من أهمها أن يكون الشخص فوق سن 18 سنة، ولديه تقرحات في أحد الساقين تحت مفصل الركبة، وألا يكون ممن يتناولون أدوية الكورتيزون الخافضة لمناعة الجسم.

* استدراكات طبية مهمة لكن الباحثة أكدت أن استخدام العسل يجب ألا يتم من قبل المرضى مباشرة في منازلهم، لأن، ووفق ما تُؤكده المصادر الطبية، معالجة قروح الأقدام لا تشمل فقط العناية بما يُوضع علي منطقة القروح نفسها من وسائل علاجية بل ثمة العديد من الاهتمامات العلاجية الأخرى التي يجب العناية بها، مثل تخفيف عبء الضغط عليها خاصة أثناء المشي، وطريقة تنظيف القروح نفسها بأسلوب معقم ومنظف، وطريقة التعامل مع الأغطية التي تُلف على القروح من ناحيتي وضعها وإزالتها كلما يتم تنظيف القروح، وطريقة إزالة الأنسجة الميتة العالقة بأسطح وأطراف القروح، وغيرها من الاهتمامات الطبية السليمة في معالجة القروح ومتابعة تطورات الشفاء أو السوء فيها.

والحقيقة أن هذا الجانب مهم جداً، ويجب إدراك أبعاده، لأن الدراسات وإن كانت تتناول جوانب استخدام وسائل من الطب المُكمل والاختياري، الذي يُسمى مجازاً وتجاوزاً بالطب البديل، فإنها لا تعني أن أي إنسان يُمكنه التعامل العلاجي مع الأمراض أو الإصابات التي لديه بها دون إشراف طبي.

وحتى الأطباء الألمان الذين تحدثوا عن استخدام العسل في معالجات القروح، بالذات، إنما تحدثوا عن نوعيات معينة منه تُسمى لدى الباحثين بالعسل الطبي، وهو مكون من صنفين مختلفين من أصناف العسل. الأول يحتوي على كميات عالية نسبياً، مقارنة بالأصناف الأخرى على مادة بيرأوكسيد الهيدروجين، والصنف الثاني يُعرف بعسل نباتات «ليبتوسبيرميم» أو أشجار الشاي الأسترالية، وهي غير أشجار الشاي المعروف، بل هي نباتات تنمو في أستراليا ونيوزيلندا وأجزاء من إندونيسيا تمتاز بزهورها وعسل النحل الذي يقتات عليها. ويصف الباحثون نوع العسل هذا، بأنه يحتوي على خصائص مقاومة للبكتيريا من خلال غناه بمركبات كيميائية تُعطيه هذه الميزة حتى لو تم تخفيف العسل للحصول على درجة قوة 10% فقط منه، الأمر الذي يعلله الدكتور صيمون بأنه ربما نتيجة لوجود مركبات الفينول في زهور أشجار ليبتوسبيرميم، مما يجعل، على حد قوله، من الصعب على البكتيريا النمو والتكاثر في وجود المركبات هذه.

* لماذا يتجه الطب نحو دراسة استخدام العسل في القروح؟

> تشمل الخصائص الكيميائية لمكونات العسل المساهمة في منع التهابات الميكروبية للقروح والجروح: ـ فائدة الخاصية الأزموزية، أو الضغط الأزموزي للعسل، لأن العسل عبارة عن مادة مشبعة. مكونة بنسبة، قد تصل إلى 85%، من سكر الفركتوز والغلوكوز، وعليه فإن كمية الماء فيه لا تتجاوز 15% في الأنواع الجيدة والنقية من الغش، وهذا الارتباط الشديد بين نسبة السكريات ونسبة الماء في العسل يجعل من الصعب توفير ماء إضافي للبكتيريا كي تستخدمها لحياتها. ـ فائدة درجة الحموضة العالية في العسل الطبيعي غير المخفف بالماء، وهو مما لا يُمكّن من تسهيل نمو البكتيريا في القروح، بل يقضي عليها. ـ وجود مادة بيرأوكسيد الهيدروجين في العسل. والمعروف أن العسل يحتوي ضمن عناصره علي أنزيم أكسدة الغلوكوز، الذي يعمل على ضمان تكوين كميات كافية وبصفة متواصلة من مركب بيرأكسيد الهيدروجين hydrogen peroxide الفاعل في مقاومة الميكروبات، باستخدام مركبات الغلوكوز السكرية في العسل. ويأتي أنزيم أكسدة الغلوكوز مما تفرزه غدد منطقة الحلق في النحلة. ومن المهم ملاحظة أمرين حول بيروأكسيد الهيدروجين:

الأول: أن الأنزيم ينشط في تكوين هذه المادة المعقمة عند تخفيف العسل بالماء، أي ليس حينما يكون العسل بتركيزه الطبيعي. ولهذا فإن تناول العسل المخفف بالماء هو السبيل للحصول على المادة المقاومة للبكتيريا. لكن مع العلم بأن تسخين العسل أو مزجه بالماء الساخن يقلل من فاعلية هذا الأنزيم ومن تكوين بيرأوكسيد الهيدروجين . الثاني: أن الكميات الضئيلة من مركبات بيرأوكسيد الهيدروجين الطبيعية في العسل أقوى من تلك الصناعية، من ناحية القدرة على إبادة الميكروبات. لسببين؛ الأول أن في العسل يتم إنتاجها بكميات متواصلة، أي يتوفر على الجرح بشكل متواصل طوال الوقت، وليس بشكل متقطع كما في استخدام النوع المُصنع منه علي الجروح. والثاني أن الكمية المُنتجة منه ضئيلة، أي أنها ليست كبيرة كما هو الحال في تنظيف الجروح بالنوع المُصنع منها، وبالتالي فإن الكمية ستقضي على الميكروبات من دون التغلغل لإيذاء الجرح والأنسجة الجديدة النامية فيه. وبالرغم من احتمال وجود مواد أخرى لم يتوصل البحث العلمي إليها في قوة قدرة مقاومة العسل للميكروبات، إلا أن من المهم إدراك أن أنواع العسل المختلفة، وذلك حسب نوع النحل المنتج له وحسب نوعية أشجار الزهور التي يقتات النحل عليها، مما يجعل ثمة اختلافاً واضحاً في أنواع العسل، على الأقل من ناحية قوة مقاومة الميكروبات ونموها.

ولأن العسل مادة لزجة، فإنها توفر غطاء حامياً وعازلاً للجروح، يُسهم في منع التهابها بالميكروبات. كما يقوم العسل بتكوين بيئة رطبة تسمح للخلايا الحية لجسم الإنسان أن تنمو على طول وعرض منطقة الجرح حتى الوصول إلى الطبقات الخارجية الموازية للجلد على طرفيه. ويضاف الى ذلك ان العسل يسهل إزالة الأنسجة المتهتكة الميتة العالقة بالجرح، كي لا تتكون بيئة لنمو الميكروبات واختبائها في تلك الجروح والقروح، بل تبقى فقط فرصة لخلايا الأنسجة الحية الجديدة في النمو والبقاء، كما انه يحفز نمو الأنسجة الجديدة بدون أن يلتصق بها، مما يخفف من شعور المريض بالألم عند تغير الضمادة أو غطاء الجرح.