المتقاعدون.. ليسوا نشطين كما ينبغي صحياً

تحذيرات طبية ونصائح للوقاية من الآثار السلبية للتقاعد عن العمل

TT

كثيرٌ من الرجال، وحتى النساء، لا يزيدون نشاطهم البدني، عبر ممارسة الرياضة وغيرها من الأنشطة الحياتية المفعمة بالحركة، لتعويض ذلك النقص الواضح الذي يعتري كمية نشاطهم البدني بعد التوقف عن أداء أعمالهم التي اعتادوها لسنوات طوال. بل على العكس من ذلك، لاحظ باحثون من هولندا، في دراستهم المنشورة هذا الشهر، أن ثمة تدهوراً في مستوى تلك الأنشطة البدنية بعد إحالة الكثيرين إلى التقاعد. وتطرح هذه الملاحظة بعضاً من الإجابات على تساؤلات عدة حول أسباب بدء ظهور الأمراض المزمنة لدى الكثيرين، بعد ترك الأعمال الوظيفية، كالسمنة والسكري وارتفاع ضغط الدم وهشاشة العظام وغيرها.

* فرص أفضل للحياة ووفق إحصائيات منظمة الصحة العالمية، فإنه بحلول عام 2025 سيكون ثمة أكثر من مليار ومائتي مليون شخص في العالم ممن تجاوزوا سن الستين من العمر. ويبلغ اليوم عدد أولئك الذين تجاوزوا سن الستين أكثر من 600 مليون إنسان. هذا مع ملاحظة أن أمراضاً مزمنة كارتفاع ضغط الدم والسكري والسمنة وأمراض القلب والسرطان، ترتفع الإصابات بها كلما تقدم الإنسان في العمر، وايضا مع ملاحظة أن البرامج للتعود على ممارسة أنماط صحية في سلوكيات الحياة اليومية، مثل الرياضة البدنية والأكل الصحي والكشف الطبي الدوري، قد أثبتت جدواها وفاعليتها في خفض نسبة الإصابات بهذه الأمراض. وتحديداً أثبت اتباع تلك السلوكيات الصحية خفض احتمالات الإصابة بمرض السكري بالذات بنسبة 60%! وكذلك الحال مع ارتفاع ضغط الدم والسمنة، وحتى الاضطرابات النفسية.

والواقع أنه بدأت تتلاشى في أنحاء العالم كله ثقافة أن المرء سيظل يعمل طوال الوقت. وثمة من بدأ في التفكير بشكل جدي في التقاعد خلال مراحل مبكرة، والتخطيط السليم لذلك. وثمة من يُهمل هذه الحقيقة الواقعية العملية ويجد نفسه بين ليلة وضحاها خارجاً عن بقية زملائه في العمل.

وإحصائيات منظمة الصحة العالمية، كما تقدم، تشير إلى أن عدداً كبيراً من الناس سيكونون فوق سن الستين خلال العقود المقبلة، بل تشير إحصائيات دول الاتحاد الأوروبي أن حوالي 45% من الناس سيكونون ربما ممن هم فوق سن الستين بحلول عام 2050! ومع الأخذ بعين الاعتبار أن العمر الافتراضي للناس سيرتفع وفق المُؤشرات العلمية المتوفرة، فإن ثمة كثيرين سيُمضون حوالي 20 إلى 30 سنة من عمرهم في مرحلة التقاعد، أي ما يُوازي تقريباً تلك المدة التي قضوها في العمل نفسه.

وبالطبع فإن ثمة من الناس قد يُفضلون الاستمتاع بالاسترخاء أو بالاهتمام بحدائقهم المنزلية أو قضاء الوقت مع الأصدقاء في المقاهي، لكن الحقيقة هي أن ثمة وقتا طويلا وأن الإنسان يمتلك طاقات عدة. ما يعني أن هناك فرصاً وطاقات لا حصر لها للاهتمام بالنفس والصحة والأسرة والمجتمع.

* مجهود بدني وقالت الدكتورة أنابيل سلينغرلاند، من كلية الطب بجامعة بينيسيولا في إكستر ببريطانيا والباحثة المشاركة في الدراسة، إن التقاعد يبعث بالمحصلة على فقد الاهتمام بالنشاط البدني في مرحلة حرجة من عمر الإنسان، هو فيها أحوج ما يكون إلى الحفاظ على ممارسة النشاط البدني! ويقول الباحثون الهولنديون إن دراسة الأمر في مجتمعهم أشارت إلى أن معدل مسافة بُعد مكان العمل عن المنزل تُقارب 18 كيلومترا، وأن معظم النشاط البدني اليومي للأشخاص الذين يعملون إنما هو ناتج عن أداء أعمالهم تلك. وعلى سبيل المثال فإن حوالي 30% من العاملين يذهبون مشياً على الأقدام إلى أعمالهم أو يستخدمون الدراجات في الوصول إليها. كما أن كثيرين يحرصون على أداء أجزاء مهمة من أعمالهم الوظيفية دون الاستعانة بوسائل للراحة كالمصاعد الكهربائية.

والإشكالية هي في اعتمادهم، حال بقائهم في العمل، على النشاط البدني الذي يتطلبه عملهم اليومي، وبالتالي لا يضعون برامج يومية لممارسة الرياضة كشيء مستقل لأن انشغالهم بالعمل يحرمهم من فرصة تخصيص وقت مستقل للرياضة البدنية اليومية. ولذا حينما يتقاعد أحدهم فإنه لا يجد ما يملأ ذلك الفراغ الكبير في أداء المجهود البدني والنشاط الحركي الجسمي الذي كان مملوءاً بالعمل الوظيفي. ولا يجد من الدوافع ما يحثه على بدء برامج يومية لممارسة المجهود البدني بشكل عام.

وحاول الباحثون معرفة حقيقة ما عليه هؤلاء المتقاعدون، وكيف يقومون بأداء المجهود البدني حينما يقضون أيامهم الخالية من التزامات العمل اليومي الوظيفي. ولذا قام فريق الدراسة بمتابعة حوالي ألف شخص، ممن تتراوح أعمارهم ما بين 40 و 65 سنة. واستمرت المتابعة خلال الدراسة 13 عاماً. وكان أن تقاعد خلال تلك الفترة 70% منهم.

* تدارك الأمر مسبقا ووفق ما تم نشره في عدد 15 يونيو (حزيران) الحالي من المجلة الأميركية لعلم الأوبئة، وجد الباحثون أن الاعتراف بذكر تناقص كمية النشاط البدني اليومي المرتبط بأداء العمل كان يفوق لدى المتقاعدين ثلاثة أضعاف ما ذكره أقرانهم الذين لا يزالون في ميدان العمل. ومع هذا التدهور الكبير في مقدار النشاط البدني اليومي بفعل مجرد التقاعد عن العمل، فإن المتقاعدين لم يبذلوا ما يجب للتعويض عن هذا النقص الواضح، إما بممارسة الرياضة البدنية أو غيرها من صور بذل المجهود البدني اليومي.

وأبدى الباحثون دهشتهم الكبيرة، لا من ذلك النقص الكبير في كمية المجهود البدني اليومي لدى المتقاعدين مقارنة بما كانوا عليه قبل التقاعد فحسب، بل أيضاً من ذلك الإهمال والتساهل في عدم إيجادهم وسائل بديلة لتعويض تلك الكمية الكبيرة من المجهود البدني اليومي الذي توقفوا عن ممارسته. خاصة مع ذكر الذين لا يزالون في ميدان العمل أن السبب الرئيسي لعدم تمكنهم من تخصيص أوقات للرياضة اليومية إنما هو ضغوطات العمل والتزاماته من ناحيتي الوقت والمجهود الذهني والبدني، لأن ذلك لو كان سبباً حقيقياً لأمكن المتقاعدين، بعد تخلصهم من كل تلك التبعات والالتزامات بالعمل، أن يُخصصوا أوقاتا كافية خلال اليوم لممارسة الرياضة البدنية أو أي من الصور الأخرى للمجهود البدني عموماً. وهو ما دفعهم إلى القول بأن التحجج بـ«العمل» كعائق عن ممارسة الرياضة البدنية، هو شيء غير حقيقي أو واقعي.

وأكدوا لذلك أن العاملين ما لم يبدأوا في اتباع برامج للرياضة البدنية اليومية، وهم في ميدان العمل، وما لم يُزيحوا من أذهانهم أوهام عوائق متطلبات العمل التي تصرفهم عن ممارسة الرياضة البدنية، فإن عليهم أن يُواجهوا أوقاتا صعبة للغاية عند تقاعدهم في البدء بممارسة الرياضة البدنية أو إيجاد بدائل تُحقق لهم أداء كمية يومية كافية من المجهود البدني. لأن البدء في عادة جديدة، وفي تلك الأوقات التي يرونها مملة ومع تلك النفسية المتدنية المستوى في الطموحات حال الإحالة على التقاعد، سيكون مرهقاً من الناحيتين النفسية والبدنية. وحث الباحثون العاملين على البدء في وضع خطط سليمة مستقبلية لمرحلة التقاعد قبل بلوغها، والبدء في وقت مبكر بممارسة الرياضة اليومية بشكل منتظم خلال أيام العمل، والحرص على إيجاد أوقات لتلك الأنشطة. وطرحت الباحثة كلاماً دقيقاً بقولها إن مرحلة التقاعد هي هبة ومتعة، وعلى المرء أن يُمسك بتلك الفرصة ويستفيد منها لنفسه بأكبر قدر ممكن.

* التخطيط السليم مسبقا.. للتأقلم مع مرحلة التقاعد > تُؤكد المصادر الطبية أن التخطيط السليم لمرحلة التقاعد ليس للجوانب المالية فقط، بل للجوانب الصحية ونوعية الأنشطة الحياتية اليومية، هي أهم استراتيجيات التأقلم مع التقاعد التي يجب البدء في العمل لها في المرحلة التي تسبق التقاعد عن العمل نفسه. وكان كل من الدكتور هيو هيندري والدكتورة ماري أوستروم، من كلية الطب بجامعة إنديانا الأميركية، قد قاما بإجراء دراستين كبيرتين على مجموعات من الأطباء المتقاعدين وذويهم، وذلك بغية التعرف على الصعوبات والمشاكل التي اعترضهم بعد خوضهم مرحلة التقاعد عن العمل الوظيفي.

وشملت الدراسة حوالي 1400 طبيب وحوالي 1100 من ذويهم الذين يعيشون معهم. وبالرغم من أن 80 % منهم كانوا راضين عن أوضاعهم ومعيشتهم، إلا أن 18% كانت لديهم بعض من علامات الاكتئاب. ووجد الباحثون أن أهم وسيلة للتأقلم المجدي لمرحلة التقاعد هو التخطيط السليم في مرحلة ما قبل ذلك. وشملت عناصر ذلك التخطيط السليم البدء بالتخطيط نفسه دون التعامي عن فكرة التقاعد أو إنكارها، لأن هذين الأمرين أهم المعوقات عن البدء في ذلك التخطيط السليم للمرحلة المقبلة لا محالة. كما أن إشراك الزوجة وبقية أفراد الأسرة في خطط تلك المرحلة المقبلة كان مهما بحسب قول المشاركين في الدراسة. وأضافوا أن على المرء أن يتوقع فقد المسؤوليات التي يتحملها وأن يتوقع، عند التقاعد، فقد فرص قضاء الوقت الطويل مع الزملاء، كما هو في مرحلة العمل. والتفكير بوضع أنشطة تحل محل التي سوف لن يُمارسها لاحقاً. والأهم هو التفاؤل بأن التغيير الذي سيحصل في الحياة العملية عند التقاعد سيكون نحو الأفضل. وأضافوا أن نصائحهم لما بعد التقاعد تتضمن الاسترخاء، والعمل على تأقلم التوقعات والآمال مع حقائق الواقع، هذا مع الحفاظ على روح الدعابة وسرعة البديهة في التعاملات مع الناس.

والتقاعد هو واحد من التحولات الكبيرة في حياة الإنسان، ولذا فإن تأثيراته الصحية والنفسية بالغة جداً ما لم يتم التأقلم معه بشكل صحي صحيح. ولكي يتمكن المرء من التخطيط بشكل عملي فاعل لمرحلة ما بعد التقاعد فإن الأسئلة التي يجدر طرحها على النفس عند النظر إلى الأمر هي:

ـ هل لدي ما يكفي من المال للعيش بطريقة آمنة مادياً؟

ـ هل أنا نشط بدنياً كما يجب، وهل بمقدوري البدء ببرنامج للرياضة البدنية اليومية، وهل حقيقة أنا أعتني بصحتي كما يجب؟

ـ ما الذي سيعنيه تقاعدي بالنسبة لأفراد أسرتي، وهل سأكون مُريحاً في وجودي معهم لأوقات أطول من السابق، وهل علي الانتقال إلى مدينة أخرى؟

ـ بمَ سأُمضي وقتي، وكيف سأستفيد منه، وهل يجب علي تعلم مهارات عملية جديدة أو البدء في أداء عمل وظيفي آخر؟

هذه الأسئلة وغيرها تُحدد الكثير من الآثار النفسية والصحية المترتبة على نوعية التعامل مع مرحلة التقاعد الوظيفي.