بكتيريا الحمى المالطية تمتلك قدرة إبصار الضوء

اكتشاف علمي قد يُساعد في التشخيص والمعالجة

بكتيريا الحمى المالطية قد تنتقل عبر منتجات الحليب والالبان الملوثة (كي آر تي)
TT

«لم أتوقع مطلقاً أن يكون لدى بكتيريا الحمى المالطية أي قدرة للتفاعل مع الضوء، لأن السؤال ببساطة: لماذا تحتاج إلى ذلك؟» بهذه العبارة وصف الدكتور روبيرتو بوغوموليني نتائج إحدى الدراسات الحديثة المثيرة للدهشة والجدل في الآونة الأخيرة. وقال الدكتور بوغوموليني، الباحث المشارك في الدراسة ورئيس قسم الكيمياء الحيوية بجامعة كاليفورنيا، لكننا وجدنا أن البكتيريا تلك بالفعل تلحظ الضوء، وتتفاعل مع التعرض له عبر زيادة حدة نشاطها وحيويتها آنذاك.

وتعني نتائج هذه الدراسة المنشورة ضمن عدد 24 أغسطس من مجلة "ساينس" العلمية أنه وعلى أقل تقدير، لدينا اليوم نوع واحد من البكتيريا التي تُحس بوجود الضوء، والتي تزيد من قوتها نتيجة لذلك. ونوع البكتيريا هذا هو بروسيلا أبورتس Brucella abortus. وهو النوع المتسبب بأحد الأمراض المهمة التي تُصيب الإنسان والحيوانات، وتُؤدي إلى اضطرابات مرضية تظهر على هيئة حمى بالدرجة الأولى. وتشكل نتائج مثل هذه الأبحاث الرائدة بصيص أمل جديد للأطباء في احتمالات أن يكون لها جدوى توظيفية لإيجاد وسائل علاجية جديدة في محاربة الجراثيم، خاصة أننا نعيش في خضم مشكلة طبية عويصة لجهة شح إنتاج مضادات حيوية جديدة وقوية، وتفشي حالات مقاومة أنواع شتى من البكتيريا لما هو متوفر اليوم من مضادات حيوية، وذلك عبر نجاح البكتيريا في تطوير منظومات طرق البقاء والتغلب على تلك المضادات الحيوية.

* إبصار الضوء والعنف

* وما يبدو هو أن هذه البكتيريا تعتمد على قدرات "إبصار" الضوء للرفع إلى أقصى حد من "عنفها" ونشاطها حينما توجد في بيئة تتعرض فيها للضوء، أي خارج جسم الإنسان أو الحيوان. وهي بيئة غير محببة للبكتيريا، لأنها تُحب العيش داخل الجسم، وفي ظلمة أنسجته وأحشائه. ولذا فإنها في محاولة منها للوصول إلى جسم الحيوان أو الإنسان والبعد عن البيئة التي يُوجد فيها ضوء، تعمل على رفع درجة عنفها واستعداداتها للنجاح في العدوى.

وأوضح الدكتور جون كينس، الباحث المشارك الأخر من كلية العلوم بجامعة فريجي بأمستردام في هولندا، أن البكتيريا تُكيف سلوكياتها وفق عوامل البيئات التي توجد فيها. وبهذا المبدأ فإن الضوء أحد أهم المؤشرات البيئية التي تُخبر البكتيريا عن مكان وجودها، ما يعني أن البكتيريا حينما تمتلك قدرة على استيعاب الرسالة التي تبعث بها مؤشرات البيئة من حولها، فإنها ستكون أقدر على تحديد موقعها الجغرافي. وإدراك وجود الضوء خاصية يستفيد منها كثير من المخلوقات، البشرية أو الحيوانية أو النباتية بكافة أنواع درجات التعقيد في أنظمة أجسامها.

وأضاف قائلاً حينما تُصيب بكتيريا بروسيلا حيواناً أو إنساناً، فإن هذه العدوى تمكنها من الوصول إلى داخل الجسم حيث الظلمة، لكن حينما تخرج من جسم أي منهما، فإنها تجد نفسها في العالم الخارجي حيث النور والضوء. وحينها يُصبح من المفروض عليها أن تقتحم جسم إنسان أو حيوان آخر وتُصيبه بالعدوى. واستطرد قائلا، ولذا فإن علامة "أنا أرى النور" تعني للبكتيريا أن من الواجب عليها أن تُصبح لديها القوة كي تتمكن من العدوى والإصابة مرة أخرى. وبكتيريا الحمى المالطية طورت لديها تلك الآلية التي بموجبها تتمكن من التحلي بالعنف والقوة عند ملاحظة النور. وخلص إلى أن قدرة الإحساس بالضوء هي نوع بدائي جداً من أنواع العيون المبصرة.

* بروتينات نباتية للضوء

* وكان الباعث على إجراء الباحثين دراستهم الفريدة هذه هو تساؤلهم عن جدوى ملاحظتهم وجود أنواع من البروتينات في بكتيريا بروسيلا، أشبه بتلك الموجودة في النباتات. وهي بروتينات يُرمز لها بـ "LOV-domain proteins". بأخذ الأحرف الأولى من كلمات الضوء light والأوكسجين oxygen والجهد الكهربائي voltage أو الفولت، لأنها بروتينات لديها القدرة على تمييز وملاحظة وتتبع هذه العناصر الثلاثة. وكانت ملاحظاتهم مبنية على أن وجود هذه البروتينات في النباتات هو ما يُسهم في توجيه أجزاء النباتات نحو مصدر الضوء في سبيل الحصول على الأشعة اللازمة لتحفيز عمليات التمثيل الضوئي في أنسجتها. والمعلوم أن عمليات التمثيل الضوئي هي عمليات تنفس حيوية أشبه بعمليات التنفس بالنسبة للكائنات الحية الأخرى. ولذا افترضوا أن وجود بروتينات شبيه لها في البكتيريا لا بد أن يكون له علاقة بالضوء، وتحديداً بالإحساس بوجوده في البيئة المحيطة بتلك الأنواع من البكتيريا. لكن يظل هناك على أقل تقدير سؤالان مهمان ويحتاجان لإجابة مقنعة من الباحثين. وهما: أولاً، هل هذه البروتينات في البكتيريا فعلاً تُمكنها من الإحساس بوجود الضوء أسوة بما هو حاصل جراء وجودها في النباتات؟ وثانياً، هل يبعث إحساس البروتينات البكتيرية هذه بالضوء إملاء شيء ما أو تصرف ما، على البكتيريا تبعاً له أن تغير شيئاً أو أشياء ما في أنظمتها الحيوية؟.

بعبارة أخرى للسؤالين، هل تُحس البكتيريا نتيجة وجود البروتينات هذه بالنور وهل تتفاعل معه تبعاً لذلك؟

* توظيف علاجي للرؤية

* وكما هو معروف بداهة فإن العلم بمواطن الضعف أو القوة، على السواء، يُسهل التغلب على الخصم. وكان الأساس في محاولات الأطباء دوماً للتغلب على الميكروبات، معرفة من أين تستمد نشاطها وقوتها وبقاءها، خاصة في جانب التكاثر، وجانب كيفية دخول الجسم والتسبب بالعدوى، وجانب كيفية التكيف والتغلب على أنظمة الجسم الدفاعية والمناعية، وجانب إفراز السموم في الجسم.

ووجود أنظمة في البكتيريا، أو أنواع منها، تتفاعل بها إيجاباً مع العوامل البيئية المحيطة. وبالتالي يسهل عليها البقاء أولاً، والتكاثر ثانياً، ورفع مستوى الشراسة ثالثاً. وهو ما يُملي على الأطباء توظيف تلك المعلومات، أسوة بتوظيفهم الناجح حالياً في معرفة أنظمة تكاثر الميكروبات في داخل الجسم ومتطلبات ذلك، لأن قطع السبل على الميكروبات في التكاثر على وجه الخصوص هو أساس عمل المضادات الحيوية أو مضادات الفيروسات.

وقال الباحثون إنه في حال بكتيريا بروسيلا، فإن الضوء يُنشط انزيماً يُدعى هيستيدين كاينيز histidine kinase. وهو أنزيم معني بالأصل بتنشيط عمليات الانقسام والتكاثر السريع لذلك النوع من البكتيريا. وأضاف الدكتور بوغوموليني قائلاً: لأن إنزيم هيستيدين كاينيز يُوجد فقط في البكتيريا، وليس في الإنسان أو الحيوانات، فإن تعطيل عمل هذا الإنزيم وإخماد نشاطه وسيلة من المفترض أن تكون لها آثار إيجابية عالية. وذلك عبر وضع وتصميم أدوية تعمل بكفاءة في هذا المضمار. ونظرياً، على حد قوله، فإن أدوية من هذا النوع يُمكنها تدمير البكتيريا وإيقاف تكاثرها دونما التسبب بأي أذى لا للإنسان ولا للحيوان المُصاب بتلك الجراثيم.

ومن جهته قال الدكتور فيليب تيرنو، المتخصص في علم الميكروبات الإكلينيكي بالمركز الطبي لجامعة نيويورك، لو أمكننا أن نفعل شيئاً لمنع ظهور هذا الإنزيم الحيوي لدى البكتيريا، فإننا يُمكن أن ندجن البكتيريا ونزيل عنها صفات الشراسة والعنف. وعلينا أن نتذكر دائماً أننا نواجه شحاً في إنتاج مضادات حيوية جديدة وفاعله، ولذا فإن فتح طرق وجادات علاجية جديدة يضعنا في مكان أفضل لمحاولاتنا محاربة الميكروبات.

* أنواع من البكتيريا ترى الضوء وتتفاعل معه

* بمراجعة العديد من الأبحاث العلمية في جانب مواد أو أنظمة حيوية للتتبع وملاحظة الضوء، فآن بكتيريا بروسيلا ليست الوحيدة في الاحتواء على بروتينات من الأنواع المتخصصة بالضوء والأوكسجين والجهد الكهربائي، أو ما يُطلق عليه أنظمة بروتينات لوف LOV-domain proteins. بل، كما تشير المصادر العلمية، تُوجد هذه البروتينات عالية التخصص الوظيفي في أكثر من 100 نوع من البكتيريا. لكن يظل من غير المعلوم بدقة طبيعة دورها أو أدوارها الحيوية.

وعلى سبيل المثال، فإن أنواعاً من بكتيريا إي كولاي E. coli، المتسببة بطيف واسع من أمراض الجهاز الهضمي والجهاز البولي وغيرهما من مناطق الجسم، لديها هذه البروتينات. لكن من غير الواضح هل لها دور في إخبار البكتيريا بوجودها خارج الجسم حال إحساسها بالنور. ومدى تأثير ذلك عليها. وثمة من يرى أن هناك مؤشرين قد يكونان داعمين لفرضية أن لهذه البروتينات تأثيراً أيضاً على تكاثر بكتيريا إي كولاي نتيجة رؤية النور والضوء. الأول، هو في حالة تجميع عينة من البول لتشخيص احتمال وجود التهاب بكتيري فيه، وذلك بوضع المريض بوله مباشرة في أنبوب الفحص الذي يُقدم له من قبل الممرضين، ولذا فإن المطلوب آنذاك سرعة إيصال هذه العينة إلى المختبر. والسبب هو أن بقاء العينة في درجة حرارة الجو مع التعرض للضوء، يُسهم في تسهيل تكاثر البكتيريا بشكل كبير. وهو ما يُعطي نتائج تفوق ما هو موجود حقيقة، وبالتالي إلى التشخيص الخاطئ للحالة، أي بوجود التهاب البول ببكتيريا إي كولاي نظراً لقراءة المختبر وجود أعداد كبيرة منها. في حين أن الحقيقة خلاف ذلك لدى المريض.

المؤشر الثاني، هو في حالات وجود بكتيريا إي كولاي في الأطعمة حال تلوثها ببقايا البراز أو غيره من المُصابين بالنزلات المعوية نتيجة تلك البكتيريا. والملاحظ أن الأطعمة تلك حال تلوثها واستمرار تعرضها للحرارة أو الضوء، فإنها تُصبح ملوثة بشكل أكبر نتيجة لتكاثر البكتيريا فيها. وإن كانت درجات متوسطة من الحرارة قد تبعث النشاط في العملية الانقسامية التكاثرية للبكتيريا، فإن من غير اليقين حتى اليوم نفي أن يكون لإحساس البكتيريا تلك بالضوء دور هو الآخر.