ارتفاع نسبة الكوليسترول الثقيل .. عامل حماية للقلب

 حتى مع انخفاض الكوليسترول الخفيف

TT

مهما كانت نسبة الكوليسترول الخفيف LDL في دم الإنسان، فإن تمتعه بميزة ارتفاع نسبة الكوليسترول الثقيل HDL، عامل يحمي بذاته من احتمالات الإصابات بأمراض شرايين القلب التاجية أو شرايين الدماغ. هذا كان أهم ما تضمنته نتائج إحدى الدراسات الطبية الواسعة للأطباء من الولايات المتحدة وأستراليا وألمانيا وفرنسا وهولندا واسكتلندا، والمنشورة في عدد 27 سبتمبر (أيلول) من مجلة "نيو إنغلاند" الطبية.

ولا يزال الباحثون الطبيون في مجال القلب يبحثون عن أفضل السبل لوقاية الناس من الإصابة بتداعيات أمراض الشرايين ووقاية مرضى الشرايين من تكرار إصابتهم بتلك التداعيات، والمعروف حقيقة أنها قابلة للتكرار والتسبب في مزيد من الأضرار على صحة الإنسان وتهديد سلامة حياته. وما تطرحه هذه الدراسة الفريدة هو جزء من الإضافات المتواصلة لتلك البحوث والدراسات في هذا الشأن.

لكن قصة البحث الطبي عن وسيلة علاجية لرفع مستوى الكوليسترول الثقيل، تكشف لنا عن جانب قلما يلتفت إليه كثير من قراء أخبار الدراسات الطبية أو الكتابات الطبية، خاصة حينما تُعرض من قِبل غير المتخصصين الطبيين. وذلك هو الارتباط الوثيق إلى حد الخيال وأكثر، بين أرقام تُقدر بمليارات الدولارات، ونتائج تلك الدراسات. وما لا يعلمه الكثيرون، أن المحاولات المستترة المستميتة من بعض شركات الأدوية في الدفاع عن أدوية فاشلة ضارة بالمرضى، أو الاعترافات الشجاعة من بعضها الآخر حول عدم جدوى أو أمان تناول أدويتها، يقلب رأساً على عقب أوضاع تلك الشركات من النواحي الاقتصادية السوقية المادية بما لا يخطر على بال. وصمام الأمان للناس، بلا مجاملة أو إدعاء، لا يزال هو الأطباء. وذلك في تمحيصهم وتقييمهم لنتائج الدراسات تلك وعرضها بشفافية صادرة عمن " يعرف البير وغطاه" كما يُقال في أمثالنا العربية.

* أسس فهم الكوليسترول والمعلوم أن الكوليسترول يوجد في الدم ضمن مركبات بروتينية حاملة وناقلة له، ومن أهمها نوعان: الأول هو البروتين الدهني الخفيف الحامل للكوليسترول، أو ما يُعرف اختصارا بـ "الكوليسترول الخفيف"، والثاني هو البروتين الدهني الثقيل الحامل للكوليسترول، أو ما يُعرف اختصاراً بـ "الكوليسترول الثقيل". وثمة أنواع أخرى مختلفة الكتلة من المركبات الناقلة للكوليسترول، الأقل أهمية من الناحية الإكلينيكية حتى اليوم. وكذلك توجد كمية من الكوليسترول ضمن مركبات ما يُعرف بالدهون الثلاثية.

ولدى إجراء تحليل الدم للكوليسترول، تُعطى في النتيجة أربعة أرقام لقياس نسبة كل من الكوليسترول الكلي، والكوليسترول الخفيف، والكوليسترول الثقيل، والدهون الثلاثية. وما نحتاج أن نُدركه هو أن المهم ليس هو مجرد وجود "مادة كوليسترول في الدم"، بل هو في أي وضعية يوجد ذلك الكوليسترول، أي إدراك معنى ما يفعله ذلك الكوليسترول في الدم، لأن الكوليسترول مادة تُوجد في الدم لغاية نقله، وعملية النقل إما أن تتم من محطة مصادر إنتاج أو الحصول على الكوليسترول إلى محطة أماكن ترسيبه وخزنه. كذلك في المقابل هناك عملية نقل للكوليسترول من محطة أماكن ترسيبه وخزنه إلى محطة الأماكن التي تعمل على تنظيف الجسم منه. وفي حال وجود الكوليسترول، كمادة منقولة، في مركب الكوليسترول الخفيف، فإن الكوليسترول يتم نقله من أماكن إنتاجه أو الحصول عليه، أي الكبد أو ما تمتصه الأمعاء من الغذاء، إلى أماكن ترسيبه، أي في جدران الشرايين. وهنا فإن ما يعنيه ارتفاع نسبة الكوليسترول الخفيف هو ارتفاع نشاط عملية ترسيب الكوليسترول في الشرايين. وما يعنيه انخفاض الكوليسترول الخفيف، هو ضعف نشاط عملية ترسيب الكوليسترول في الشرايين.

وما يعنيه، في المقابل، ارتفاع نسبة الكوليسترول الثقيل، هو نشاط عملية نقل الكوليسترول من الشرايين، أي تنظيفها منه، إلى أماكن التخلص منه في الكبد غالباً. وما يعنيه انخفاض نسبة الكوليسترول الثقيل، هو ضعف نشاط عملية تنظيف الشرايين من الكوليسترول.

* دراسة مهمة والدراسة الدولية الجديدة، كانت بعنوان "معالجة لأهداف جديدة" Treating to New Targets study، أو اختصاراً تي إن تي (TNT) ، بعد أخذ الأحرف الأولى من الكلمات الإنجليزية لاسمها الكامل. وقال الباحثون في فذلكة حيثيات إجرائها، معلوم أن ثمة تناسبا عكسيا بين نسبة الكوليسترول الثقيل، والإصابات بأمراض شرايين القلب، إذْ ان ارتفاع أحدهما يعني انخفاض الآخر، والعكس صحيح. لكن ما لم يكن واضحاً هو استمرار هذه العلاقة بين الأمرين حال تحقيق انخفاض شديد في نسبة الكوليسترول الخفيف.

وهذا أمر يهم الأطباء والمرضى المتابعين جيداً، وكما ينبغي، لحالة صحة قلوبهم وشرايينها، التي يجب ألا يغيب عنّا مهما كان الأمر أن سلامتها هو تاج وعلامة سلامة صحة كامل أجسامهم. وشملت الدراسة حوالي 10 آلاف شخص. ووجد الباحثون أن الإصابات بتداعيات أمراض الشرايين مثل النوبات القلبية أو السكتة الدماغية أو غيرهما من مشاكل جهاز القلب والأوعية الدموية، كانت أقل بنسبة 40% عند مَن لديهم معدلات عالية من نسبة الكوليسترول الثقيل. وذلك بغض النظر عن مدى انخفاض نسبة الكوليسترول الخفيف.

وتحديداً وجد الباحثون أن الاستفادة بتنقية شرايين الجسم، وبالتالي وقاية الإنسان من تداعيات أمراض الشرايين، تحققت عند وجود نسب عالية بما يكفي من الكوليسترول الثقيل. وهذه الاستفادة كانت واضحة وموجودة حتى لو كانت نسبة الكوليسترول الخفيف منخفضة جداً، نتيجة تناول أحد أدوية خفض الكوليسترول من فئة ستاتين statin الفذة. أي حتى لو كانت أقل من 70 ملليغراما لكل ديسيلتر من الدم mg per deciliter، أو 1.8 ملليمول لكل لتر. بمعنى أن تحقيق ارتفاع في نسبة الكوليسترول الثقيل كان هدفاً يستحق عناء الوصول إليه حتى عند المرضى الذين يتمتعون بامتلاك عامل أمان قوي، وهو انخفاض نسبة الكوليسترول الخفيف في دمائهم.

وهو الأمر الذي يُعطي مزيداً من الدعم، لأمر لم نكن نعلمه كأطباء قلب في السابق، وهو أن ثمة جدوى من رفع الكوليسترول الثقيل لكسب فرصة أعلى ومُضافة في سعينا مع مرضانا لتقليل الإصابات بينهم بأمراض الشرايين.

قال الدكتور فيليب بارتر، مدير مؤسسة أبحاث القلب في سيدني بأستراليا والمشارك في الدراسة، كنا نرى أن ثمة لا تزال خطورة محتملة للإصابة بأمراض الشرايين القلبية بين الناس الذين يتمتعون بانخفاض نسبة الكوليسترول الخفيف، وهو ما كان يُحير كثيراً من الأطباء في تفسيره، لكن ما يبدو هو أن السبب الرئيس في استمرار تلك الخطورة عليهم هو تدني نسبة الكوليسترول الثقيل أيضاً لديهم. والتطبيق العملي، الإكلينيكي، يجب أن يكون العمل على كل من: رفع نسبة الكوليسترول الثقيل وخفض نسبة الكوليسترول الخفيف.

* رفع الكوليسترول الثقيل وقال الدكتور بارتر ، إن الرسالة عالية الأهمية التي تُقدمها هذه الورقة العلمية الجديدة، هي أنه لو أمكننا رفع نسبة الكوليسترول الثقيل بكميات كافية، فإن أهمية نسبة الكوليسترول الخفيف لا تعود مهمة، على حد قوله، أي وحدها.

وأضاف أننا بحاجة ماسة إلى إيجاد عقار جديد يعمل على رفع نسبة الكوليسترول الثقيل. لكن، للأسف، لا يُوجد ذلك العقار أمام أعيننا حتى اليوم.

وكانت شركة فايزر، لإنتاج الأدوية، قد أوقفت العام الماضي دراسة شملت 15 ألف شخص، كان القصد من ورائها محاولة تقييم مدى جدوى وأمان تناول عقار لرفع نسبة الكوليسترول الثقيل، وهو عقار توركيترابيب torcetrapib. وكان السبب في إيقاف الشركة لتجربة عقارها المُقترح هو ارتفاع نسبة الوفيات بين منْ كانوا يتناولون العقار. وما هدفت إليه الشركة في جهود بحث جدوى هذا العقار المُقترح للاستخدام في رفع نسبة الكوليسترول الثقيل، هو أن ينضم عقار توركيترابيب إلى ما أنتجته الشركة قبل سنوات من أحد أدوية مجموعة ستاتين statin العاملة على خفض نسبة الكوليسترول الخفيف الضار، وهو عقار ليبتور Lipitor الفذ في جدواه وأمانه، أسوة بالأدوية الأخرى من مجموعة ستاتين من إنتاج شركات أخرى أفادت البشرية بحق مثل دواء زوكوز وكرستور ليبوستات وغيرهم.

واستطرد الدكتور بارتر قائلاً، لكن حلم أطباء القلب لم يتحقق في هذا العقار المُقترح. ولذا يظل حتى اليوم السبيل الدوائي الوحيد القادر على رفع نسبة الكوليسترول الثقيل هو تناول كميات عالية من عقار نياسين niacin. وهو الذي يُمكنه حال تناول جرعات منه رفع نسبة الكوليسترول الثقيل بمقدار يُقارب 20% فقط. لكن تناول مثل هذا الدواء وبهذه الكمية العالية، قد يتسبب في العديد من الآثار الجانبية. مثل ظهور تهيجات جلدية بدرجة عالية وحكة جلدية كذلك. وحتى النوعيات الجديدة من عقار نياسين لم تتمكن من إزالة احتمالات الإصابة بهذه الآثار الجانبية حال تناوله بكميات عالية.

ويعمل الدكتور بارتر على دراسات لتحديد ما إذا كان الضرر الذي يتسبب به تناول عقار توركيترابيب مرتبطا بشكل مباشر بعمل هذا العقار في رفع نسبة الكوليسترول الثقيل، لأنه كما قال، إذا ما كان التأثير، السلبي، غير مرتبط بنسبة الكوليسترول الثقيل، فإن معنى ذلك أن هذه الفئة، الجديدة، من الأدوية الرافعة للكوليسترول الثقيل لا يزال لدينا أمل واعد فيها مستقبلاً. لأن الأدوية الأخرى، محل التجربة، من هذه الفئة ربما لن تتسبب بهذه المشاكل السيئة التي حصلت مع عقار توركيترابيب. وعليه، كما قال، يُمكن إخضاع هذه العقاقير الأخرى من نفس الفئة للتجربة، الإكلينيكية، في دراسات بدءا من مطلع العام المقبل.

وهذا تفكير علمي سليم، لأننا بالاستقراء حتى لتاريخ المراحل العلمية لأدوية ستاتين منذ أن اكتشفها اليابانيون لأول مرة، نجد أن بعضاً من الآثار الجانبية السيئة في بدايات تجارب تناولها لم تكن مرتبطة بعملها في خفض نسبة الكوليسترول الخفيف، بل كانت مرتبطة بجوانب أخرى تتعلق بتركيبة تلك العقارات الكيميائية، وما أن تم التنبه لها وتطوير مركبات دوائية خالية منها، تمكنا من الحصول على أدوية من فئة ستاتين عالية الجودة والأمان والجدوى، وغدا استخدامها من أفضل التطورات العلاجية الحديثة في مضمار صحة القلب منذ المحطة التاريخية المهمة في اكتشاف جدوى الأسبرين للقلب.

* أرقام بمليارات الدولارات في السوق.. تحركها نتائج الدراسات الطبية > كي نُدرك ولو شيئاً يسيراً، مما يدور في سوق الصناعات الدوائية، علينا مراجعة بعض الأحداث وبعض الأرقام الخيالية حول تطورات ما يدور من ارتفاع أو هبوط في مؤشرات سوقها اليومي. وإن كان البعض لا يزال يرى أن الدراسات الطبية يُمكن قراءتها أو عرضها كيفما اتفق، فإن عليه أن يرى بعين واقعية تلك الآثار الاقتصادية لنشر نتائج الدراسات الطبية. ما يُفسر مدى الحذر الطبي من عرضها دونما تمحيص طبي في ذلك.

وكانت شركة فايزر العملاقة في سوق الصناعات الدوائية العالمية قد بدأت في حوالي عام 1990 عمليات تطوير عقار لرفع نسبة الكوليسترول الثقيل. وبدأت أولى تجارب تناول البشر له في عام 1999. وأعلنت أنها عازمة على إنتاج دواء يجمع عقار ليبيتور، لخفض الكوليسترول الخفيف، وعقار توركيترابيب، لرفع الكوليسترول الثقيل. إلا أنها تراجعت مشكورة عن تلك الرغبة استجابة لاعتراضات الأطباء. وأثبتت دراستها عام 2004، أن عقار توركيترابيب لديه القدرة على رفع الكوليسترول الثقيل وخفض الكوليسترول الخفيف، سواء تناول المرء ليبيتور أو لم يتناوله.

لكن في أواخر عام 2006، أعلنت الشركة في خطوة شجاعة ونادرة إيقافها الدراسة التي كانت تُجريها حول عقار توركيترابيب، وذلك نظراً للنتائج المخيبة للآمال نتيجة تسببه بارتفاع الوفيات بين مستخدميه بنسبة 60%!، وطلبت الشركة من كل المرضى ألا يتناولوه.

وبعيد ذلك، نشرت مجلة "نيوأنغلند" الطبية، وتحديداً في عدد 29 مارس (آذار) 2007، مقالة للدكتور ديفيد كتلر، المتخصص في الاقتصاد من جامعة هارفارد، وقال فيها إن شركة فايزر حينما أعلنت وقف الدراسة تلك، انخفضت قيمتها في السوق بمقدار 21 مليار دولار بين ليلة وضحاها. وفقد حوالي عشرة آلاف شخص وظائفهم نتيجة لذلك. وهو أشبه، بما سبق لملحق الصحة بـ "الشرق الأوسط"، عرضه في عام 2005 حول عقار فايوكس، عن انخفاض القيمة السوقية لشركة ميريك لإنتاج الأدوية بحوالي 25 مليار دولار. وذلك بعد قرار إلزامها بسحب عقارها المسمى فايوكس من الأسواق لتسببه بمضاعفات قلبية، وهو العقار الذي كان واعداً بأن يدر على تلك الشركة سنوياً 3 مليارات دولار.

والحقيقة أن اكتشاف وتطوير واختبارات عقار ما، شيء مُكلف مادياً. لكن إنتاجه الفعلي في عبوات أدوية كمرحلة صناعية لا يُكلف بضعة قروش!، وما أنفقته مثلاً شركة فايزر في عقار توركيترابيب إلى حين وقف الدراسة تلك عام 2006، كما تشير المصادر الطبية، بلغ 800 مليون دولار. وكل الزلزال الاقتصادي الذي أصاب الشركة كان بسبب نتائج الدراسة تلك، عند قراءتها قراءة صحيحة علمياً من قِبل باحثي الشركة نفسها. والوسط الطبي مُعجب بالخطوة الجريئة للشركة، رغم معرفتها بما سيُسببه ذلك لها من أضرار.

والواقع أبعد من ذلك، إذْ في حين كان هناك إلى عام 2000 سبعة عشر عقاراً تُربح الواحدة منها منتجيها ما يربو على مليار دولار من المبيعات العالمية سنوياً، فإن عدد العقاقير تلك ارتفع إلى 94 في عام 2005!، بل إن مبيعات عقار واحد مثل ليبيتور تبلغ سنوياً 13 مليار دولار!.

مبيعات الأدوية وأرباحها المادية تبلغ اليوم مبالغ لا يُقال فقط بأنها خيالية، بل أعلى من الخيال نفسه. والخطر الذي تواجهه شركات الأدوية أشبه بالمقامرة، لأنه كما يُمكن لاكتشاف عقار ما، وإثبات الدراسات الطبية جدواه وأمانه، أن يُدر المليارات، كذلك يُمكن لدراسة طبية واحدة أن تهز الشركات العملاقة وتتسبب بخسارة تُقدر بالمليارات، والأمثلة الشاهدة على ذلك كثيرة.