رحلة العقم.. بين الأسباب وطرق العلاج

مبتكر طريقة الحقن المجهري يهاجم الإسراف غير المبرر في استخدامها

TT

لا يوجد دور لما يعرف بالحقن المجهري، في علاج الأسباب الأنثوية للعقم. ويعتبر هذا العلاج، وهو حقن الحيوان المنوي في حشوة البويضة، نوعا مشتقا من الإخصاب الخارجي، وقد ابتكره العلماء بالأساس لمعالجة العنصر الذكوري في حالة قلة أو عدم وجود حيوانات منوية بالسائل المنوي. ويدعو الأطباء إلى عدم الإسراف في إجراء هذه التقنية شديدة التعقيد، وباهظة التكاليف.

قالوا قديما: «ما زاد عن الحد.. انقلب إلى الضد»، وهو ما يحدث أحيانا مع تطبيقات التطور العلمي الحديثة، التي أضنت العلماء في سبيل إنجازها من أجل خدمة البشرية. ومن التطبيقات الحديثة النافعة، التي يساء استخدامها في كثير من الأحيان، تلك الخاصة بالإخصاب في حالات العقم أو ضعف الخصوبة. فمنذ ميلاد لويز براون، أول طفلة تولد بتقنية الإخصاب الصناعي الخارجي IVF (أطفال الأنابيب) في عام 1978، فإن 3 ملايين طفل قد ولدوا باستخدام هذه التقنية (ومستحدثاتها) حول العالم حتى وقتنا الحالي.

ولكن المراقبين الصحيين حول العالم يلاحظون تزايد أعداد الحالات التي تتجه إلى استخدام التقنيات الحديثة المساعدة على حدوث الحمل، على الرغم من عدم الاحتياج الفعلي لبعض منها، لمثل هذا الإجراء.

* بين الحاجة والضرورة

* وتتزايد الانتقادات كلما اتجهنا للتقنيات الأحدث دونما داع يذكر، ومنها ما ذكره البروفسور البلجيكي أندريه فان شتيرتيغام، الرائد في هذا المجال الذي ابتكر تقنية الإخصاب المجهري في بروكسل عام 1992، عن استخدام تقنية الحقن المجهري للحيوانات المنوية بداخل البويضة ICSI في حالات كانت قد تستجيب بفاعلية لتقنية أقدم وأقل تكلفة، وهي الإخصاب الخارجي للبويضة ثم نقل المضغة (الجنين) نحو الرحم (IVF - ZIF T)، قائلا في تصريح صحافي لجريدة «الديلي تلغراف» البريطانية نهاية فبراير (شباط) الماضي: «لا أستطيع أن أتفهم لماذا يلجأ البعض إلى تقنية الإخصاب المجهري في حالات لا تستدعي ذلك».

وفي السياق ذاته، يقول البروفسور ألان باسي، كبير المحاضرين لأمراض الذكورة بجامعة شيفيلد الإنجليزية لصحيفة «الإندبندنت» إن «مشكلة زيادة استخدام تقنية الإخصاب المجهري عن حدها هي أن استخدامها يحمل مخاطرة ملحوظة في إنتاج أطفال يعانون مشكلات صحية، ولذا يجب استخدامها فقط عندما لا يكون هناك أي بدائل أخرى متاحة».

وفي حالات أقل تكلفة ووطأة، لكنها أكثر عددا، يبدأ كثير من الأطباء برنامج علاجهم لمرضاهم الساعين إلى الحمل بعلاجات لتنشيط التبويض، ربما من دون وجود دواع فعلية لمثل هذه العلاجات.

وترجع منظمات كثيرة مهتمة هذا الأمر إلى عدة عوامل، على رأسها تعجل الزوجين في الحصول على أطفال، وعدم درايتهم الكافية بالحالات التي يجب أن تخضع لمثل تلك الإجراءات، وتعجل الأطباء في الوصول إلى نتائج سريعة، بدلا من اتباع الطرق الروتينية التي قد تستهلك وقتا طويلا في المعتاد، تحت وطأة إلحاح المرضى أو سعيا لتحقيق نجاحات زائفة وسريعة في مجال معالجة العقم.

* تعريف العقم

* واختلفت التعريفات الخاصة بمفهوم العقم، ولكن أكثرها دقة ومنطقية هو التعريف الذي تعتمده الكلية الملكية البريطانية للنساء والتوليد، الذي ينص على أن العقم هو «الفشل في الحصول على الحمل بعد علاقة جنسية منتظمة وغير مقترنة باستخدام أي موانع للحمل لمدة عامين (أو عام في الحالات التي سبق لها الإنجاب) في غياب أي مشكلات تناسلية». وتضيف بعض المراجع الطبية، وبخاصة الأميركية، إلى ذلك عدم قدرة الأم على الاحتفاظ بحملها حتى نهايته (الإجهاض المتكرر). وعليه، فإنه ينبغي لأي زوجين (وكذا للأطباء المختصين) عدم بدء أي إجراءات فعلية خارجية لتنشيط حدوث الحمل إلا بعد مرور العامين المذكورين. ويكتفي في هذه الفترة بالبحث عن أي سبب قد يؤخر حدوث الحمل وعلاجه، مثل الالتهابات المهبلية أو الاختلال الهرموني البسيط أو ضعف الحيوانات المنوية، مع تثقيف الزوجين وتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة التي قد تكون سببا في تأخر الحمل، مثل عدم انتظام العلاقة الزوجية أثناء فترة التبويض أو تأخر الحمل مع الرضاعة.

وتقدر الإحصاءات عدد من يعانون العقم بـ1 من بين كل 7 أزواج بالمملكة المتحدة، بحسب تقرير هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية (NHS)، وهو ما يماثل متوسط النسبة العالمية.

وبعد إجراء الفحوصات والاختبارات الأولية، يتضح أن نحو 30% من مجمل حالات العقم غير معلومة الأسباب، بينما يمثل العامل الذكري للعقم نحو 19%، في حين أن 27% تعود أسبابها لأمور تتعلق بمشكلات في التبويض لدى المرأة، و14% نتيجة مشكلات بالأنابيب الرحمية التي تقوم بنقل البويضات. ومع ذلك، فإن نسبة 39% من الحالات تمتزج فيها الأسباب ما بين ذكورية وأنثوية، بحسب دراسات أجراها مجموعة من أطباء أمراض النساء التابعين للكلية الملكية البريطانية (نشرت في دورية BMJ عام 1985 وما زالت نتائجها سارية حتى الآن). خصوبة الرجل والمرأة وقبل أن نشرع في تناول أسباب العقم بالشرح وطرق علاجها، فإن هناك أمورا يجب أن نضعها في الاعتبار.

أولا، أن البويضة الطبيعية تبقى حية بعد التبويض لمدة متباينة متوسطها نحو 48 ساعة (أمر خلافي بين المراجع، ولكنه الأكثر اتفاقا)، وهي الفترة الملائمة شهريا لحدوث الحمل، في ما يمكن للحيوان المنوي الطبيعي أن يظل حيا لمدة نحو 3 أيام. كما أن الدورة الشهرية المنتظمة للمرأة الطبيعية تأتي كل عدد معين وثابت بالنسبة إلى كل امرأة على حدة، قد يختلف عدد تلك الأيام من سيدة إلى أخرى لكنها في النهاية تقع ما بين 21 إلى 35 يوما، وما زاد عن ذلك أو نقص يعتبر غير طبيعي ويجب أن يعالج. وبالتالي، فإن أي امرأة خصبة يكون مجمل ما لديها من وقت مناسب لحدوث الحمل نحو 26 يوما فقط سنويا، واضعين في الاعتبار أن بعض الدورات قد تحدث من دون حدوث التبويض في نساء طبيعيات تماما.

* ثانيا، فإن خصوبة الرجل لا تعتمد كلية على عدد الحيوانات المنوية وحده، بل على نشاط هذه الخلايا وعلى نسبة وجود الصور المشوهة في السائل المنوي أيضا وخلوه من الخلايا الصديدية، حيث إن رجلا تعداد حيواناته المنوية أكثر من 60 مليونا ولديه صور مشوهة نسبتها أكثر من 50% - على سبيل المثال - قد تكون فرصة حصوله على الحمل أقل من آخر لديه 15 مليون حيوان منوي كلها طبيعية ونشطة. ذلك أن الصور المشوهة تلعب دورا مهما في إعاقة حركة الحيوانات المنوية الطبيعية، مما يسبب استنزاف طاقتها قبل وصولها إلى البويضة.

* ثالثا أن نسبة حدوث الحمل لدى أي زوجين في خلال العامين الأوليين، دونما تدخل خارجي، تصل إلى 84% في نهاية العام الأول وإلى 92 بنهاية العام الثاني، وأن خصوبة المرأة تقل نسبيا مع تقدمها في العمر. كما أن حدوث العلاقة الجنسية كل يومين إلى 3 أيام يزيد من فرص حدوث الحمل، بينما التدخين وشرب الكحوليات والسمنة الزائدة (في الذكر والأنثى) تقلل بشدة من هذه الفرص. ويجب سؤال المختص عن أي علاج يتم استخدامه، إذ من الممكن أن يكون له أثر على الخصوبة.

فحوص مختبرية

* رابعا، إن أول فحص مختبري يجب أن يخضع له الزوجان هو تحليل السائل المنوي للزوج، حيث إنه اختبار وحيد وسريع وزهيد التكلفة، يسفر عن معرفة حالة الزوج الجنسية بصورة شبه كاملة، وهو ما يمثل حلا لنصف اللغز. أما بالنسبة إلى الزوجة، فالأمر أعقد قليلا، إذ تتعدد الاختبارات والفحوصات المطلوبة للتأكد من سلامة جهازها التناسلي وخصوبتها. ولشرح ذلك نبدأ في تقصي الحقائق من أسفل إلى أعلى، ولو أن التناول يختلف في الحياة العملية، حيث تتم كثير من الإجراءات في صورة متوازية.

فهناك بعض الحقائق البسيطة التي قد تغيب وسط زحام اللهاث خلف حلم الحمل، ومنها أن الالتهابات المهبلية المتكررة قد تقف عائقا أمام تحقيق الهدف المنشود، وذلك لعدة أسباب أهمها أن تلك الالتهابات تغير من درجة الحمضية الملائمة لنشاط الحيوانات المنوية، التي تختزن لبعض الوقت في الجيب الخلفي لأعلى المهبل عقب القذف لحين دخولها إلى الرحم. كما أن الالتهابات المهبلية قد تتسبب في آلام حادة للمرأة أثناء الجماع، وهو ما قد يؤدي إلى ما يشبه الرهاب أثناء الجماع (خوفا من هذه الآلام)، ويترسب ذلك في شد عصبي لعضلات الحوض، مما يمنع وصول الحيوانات المنوية إلى مكانها المناسب. بالإضافة إلى أن الالتهابات تصاحب غالبا في الجسم بارتشاح الخلايا اللاهمة والأجسام المضادة والمواد المانعة للالتهاب، التي قد تعوق بدورها حركة الحيوان المنوي.

عنق الرحم أيضا قد يصاب بالالتهابات المتكررة، مما قد يصيبه بنوع من التشوه، وإلى تغيير كثافة المخاط الطبيعي الموجود بداخله، مما يؤدي إلى صعوبة انتقال الحيوانات المنوية إلى الرحم.

وهاتان النقطتان يتم اكتشافهما بالفحص المهبلي ويجب علاجهما على الفور، بالمضادات الحيوية أو الجراحات البسيطة للغاية، قبل الشروع في أي إجراء أكثر تعقيدا.

وفي حال وجود مشكلات عسيرة الحل في هذه الأعضاء، فإن الإمناء الاصطناعي (IUI) قد يكون حلا مناسبا. وهو حقن السائل المنوي - المجهز مخبريا - عن طريق أنبوب رفيع إلى داخل الرحم وقت التبويض، ويجب تكراره في حدود 6 دورات قبل الحكم بفشله في الإعانة على الإنجاب.

* أشعة تصوير

* أما عن الرحم، فالموجات الصوتية (السونار) في أوقات الدورة المختلفة، تعطينا قدرا لا بأس به عن صورة الرحم وبطانته شكلا وحجما، للتأكد من أن السيدة لا تعاني عيوبا خلقية كالرحم الطفيلي (ذو الحجم الصغير الذي لا يناسب البلوغ)، وأن سمك بطانة الرحم جيد ويسمح بانزراع البويضة بداخله. وفي حالة كون البطانة غير جيدة، يجب معالجتها دوائيا عن طريق الهرمونات لعدة أشهر.

وبالنسبة إلى الأنابيب الرحمية (قنوات فالوب)، فإن أشعة باستخدام الصبغة قد تكفي للتأكد من سلامتها وقدرتها على توصيل البويضة الملقحة إلى الرحم. فإذا ما كانت هناك مشكلة معقدة في هذه الأنابيب، وجب أن نلجأ إلى الإخصاب الخارجي (أطفال الأنابيب) ولا مفر منه.

أما عن التأكد من سلامة المبيضين، فإن الموجات الصوتية والتحاليل المخبرية تعطيان صورة دقيقة عن حالتهما وحالة التبويض. فإذا ما كانت هناك مشكلة في التبويض وجب البحث عن سببها أولا ومعالجته، قبل اللجوء إلى منشطات التبويض الهرمونية كأسلوب علاجي، فكثيرا ما تكون السمنة المفرطة، أو الأنيميا الحادة، أو ارتفاع نسبة هرمون اللبن (s - Prolactin)، أو هرمونات الغدة الدرقية (T3،T4) بالدم وغيرها، هي المتسببة في ضعف التبويض.

الغدد والحالة النفسية كما يجب أن نتأكد من دقة وظائف المراكز المخية المسؤولة عن قيادة العملية بأسرها وهي الغدة النخامية (Pituitary) وما تحت المهاد (Hypothalamus)، ويتأتى ذلك عبر التحاليل المخبرية والأشعات الدماغية.

ولا يجب أن ننسى الدور المهم الذي تلعبه الحالة النفسية للزوجين في حدوث الحمل، فالاكتئاب - الذي غالبا ما يصيب الزوجين الباحثين عن الإنجاب - يؤثر بصورة كبيرة في التوازن الهرموني المتناغم، وبالتالي يزيد الأمور سوءا بما قد يصعب معالجته.

* الحقن المجهري

* ويلاحظ من ما سبق، وهو منقول عن بروتوكولات علمية متبعة في أوروبا وأميركا، عدم وجود دور لما يعرف بحقن الحيوان المنوي إلى حشوة (سيتوبلازم) البويضة «الحقن المجهري ICSI»، في علاج الأسباب الأنثوية للعقم. وهو يعتبر نوعا مشتقا من التخصيب الخارجي «IVF»، وقد ابتكره العلماء بالأساس لمعالجة العنصر الذكوري في حالة قلة أو عدم وجود حيوانات منوية بالسائل المنوي. حيث يتم أخذ عينة من الخصية مباشرة واستخلاص الحيوانات المنوية منها في مرحلة مبكرة من عمرها، ثم تجهيزها مخبريا، ومن ثم تحقن إلى داخل فضاء الخلية الأنثوية، التي أخذت أيضا عن طريق الاستخلاص بإبر خاصة من المبيض مباشرة. وكما نرى، فهي تقنية شديدة التعقيد وباهظة التكاليف أيضا، الأمر الذي أرغم مبتكرها - كما أسلفنا - إلى دعوة الأطباء إلى مراجعة أنفسهم وحفظ هذه التقنية لمحتاجيها فقط دونما إسراف في استخدامها.