الإيدز.. نظريات متنوعة وأبحاث جديدة لعلاجه

«المستعمر الميكروسكوبي» الذي يطحن عظام القارة السمراء

TT

في بداية الثمانينات من القرن المنصرم، لاحظ الأطباء الأميركيون التابعون لمركز السيطرة على الأمراض والوقاية CDC)) في ولايتي لوس أنجليس وكاليفورنيا عدة حالات لأمراض موصوفة في الكتب العلمية على الرغم من أنها شحيحة الوجود، ومنها نوع لا نمطي من الالتهاب الرئوي المتكيس Pneumocystis carinii pneumonia، وحالات لمرض سرطاني جلدي نادر يدعى Kaposi’s sarcoma، وبعد بحث وتمحيص، تم تشخيص الحالات الأولى لمرض جديد في الخامس من يونيو (حزيران) 1981. ولارتباط الحالات بالمثليين الجنسيين من الرجال، سمي المرض «مرض نقص المناعة المرتبط بالمثلية Gay - Related Immune Deficiency» GRID، حتى وجد العلماء حالات أخرى مصابة لا علاقة لها بتلك العلاقات الشاذة، إضافة إلى النساء والأطفال فتم تغيير المسمى إلى «متلازمة نقص المناعة المكتسب Acquired Immune Deficiency Syndrome» أو الأسماء المختصرة الأشهر «الإيدز AIDS وسيدا SIDA (للناطقين بالفرنسية)».

* كانت وفاة النجم السينمائي الأميركي روك هدسون في 2 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1985، بعد شهرين ونصف من إعلانه عن إصابته بمرض نقص المناعة المكتسبة، هي البوق الإعلامي الذي ردد صدى الإيدز وأثار الرعب في كل أرجاء العالم.

* نظريات ظهور الإيدز

* ولكن أقدم عينة إيجابية معروفة تحتوي على الفيروس المسبب للمرض HIV، هي عينة محفوظة للأبحاث من دماء أحد رجال قبيلة البانتو المنتشرة في وسط وجنوب القارة الأفريقية، توفي لأسباب غير معلومة، في ذاك الحين من عام 1959. ويرجح العلماء بداية الانطلاق للمرض الغامض إلى فترة نهاية الحرب العالمية الثانية، وإن كان السبب ما زال مجهولا حتى اليوم، فإن معظم النظريات المفترضة حول نشأته، باستثناء كونه تحورا طبيعيا، تشير بأصابع الاتهام في وجه البشرية.

وتقول إحدى النظريات إن الفيروس المسبب للمرض هو نتيجة تجربة خارجة عن السيطرة لإنتاج لقاح لشلل الأطفال بالكونغو عام 1950، وهي نظرية شهدت جدلا واسعا حيث إن المتهم فيها البروفسور البولندي هيلاري كوبروفيسكي، الأب الروحي لأول لقاح حي ضد الفيروس المسبب لمرض شلل الأطفال، الذي حكمت لصالحه المحكمة بالتعويض في قضية التشهير ضده من قبل الصحافة البريطانية والأميركية.

وتشير نظرية أخرى إلى نشأة الفيروس نتيجة تحور جيني ناشئ عن تجارب نووية سرية قامت بها بعض الدول في أفريقيا إبان الحرب العالمية الثانية، بينما توحي نظرية ثالثة بأنه فيروس مصطنع في إطار سباق الحرب البيولوجية.

إلا أن أقرب النظريات إلى الصحة هي ما توصلت إليه جامعة ألاباما الأميركية، ومفادها انتقال المرض عبر أحد القردة العليا (الشمبانزي غالبا) إلى الإنسان، حيث ثبت وجود فيروس مشابه للفيروس الذي يصيب البشر بإحدى العينات المأخوذة من القردة.

وهناك نظرية العالم جيم مور «قلب الظلام» التي نشرها عام 2000 في دورية علوم الإيدز وضم فيها كل حبات المأساة في خيط واحد، ويقول فيها مور إن فترة انتشار المرض واكبت أشد فترات الاستعمار ضراوة وقسوة في منتصف القرن العشرين، وأن دول القارة السمراء، وخاصة في مناطق جنوب الصحراء، شهدت تمردا عنيفا، الأمر الذي أدى إلى نشوء عنف مضاد في معسكرات العمل الإجباري، التي يعمل فيها معظم السكان الأصليين. ومع ضعف الحالة الصحية للعمال وقلة التغذية (من عوامل نقص المناعة الطبيعية ضد الأمراض)، وانتشار الجلد بالسياط (بما يسببه من جروح وتقرحات تساعد على انتشار المرض)، والتطعيمات الجماعية بالمحقن نفسه (الإبرة)، وانعدام الرعاية الصحية وانتشار البغاء داخل المعسكرات (وكلها وسائل ممتازة لانتقال المرض بين البشر)، واتجاه العمال في بعض الأحيان إلى صيد الحيوانات - ومن بينها القردة - بغرض الغذاء.. وسط كل هذه الظروف المأساوية، انتقل المرض من الحيوان إلى الإنسان.

ولكن الثابت في كل النظريات أن المرض نشأ في وسط أفريقيا في الخمسينات، وانتقل منها عبر هاييتي إلى الولايات المتحدة في نهاية الستينات، ومنهما إلى بقية أرجاء المعمورة.

* ملايين الإصابات

* وعلى مدى ثلاثين عاما، ظل فيروس نقص المناعة الآدمية HIV يمرح في أجساد أبناء القارة السمراء، ليتحول إلى سوط جديد للاحتلال يحيط برقبة الأفارقة الذين لم يهنأوا طويلا بخلاصهم من الاستعمار الغربي. وحسب تقديرات لمنظمة الصحة العالمية فإن عدد الوفيات الناجمة جراء الإصابة بمرض الإيدز بلغت نحو 2.2 مليون شخص في عام 2007، من بينهم 1.5 مليون من قاطني القارة السمراء. وإذا كانت التقديرات تشير إلى أن عدد المصابين بالمرض حول العالم بلغ أكثر من 33.4 مليون في نهاية عام 2008، فإن ثلثي هذا العدد (22.4 مليون) يقع في المنطقة المحصورة جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى.

وعلى الرغم من الزيادة المطردة في نسبة إنفاق الدول النامية على الشؤون الصحية لتصل إلى 18 مليار دولار في عام 2006، وهو ضعف ما كانت عليه منذ 12 عاما، وما يمثل ثلاثة أضعاف المساعدات العالمية للدول النامية، بحسب دراسة بحثية نشرتها دورية «لانسيت» في أبريل (نيسان) الجاري وقام بها البروفسور كريستوفر موراي، مدير مؤسسة القياسات والتقييمات الصحية بجامعة واشنطن، فإن الأمر لا ينطبق على دول جنوب الصحراء، التي يبدو أن معدلات الإنفاق على الشؤون الصحية فيها ينخفض عن بقية الدول. وذلك حيث إن معدل الإنفاق المحلي يتراوح بين 50 سنتا إلى دولار واحد مقابل كل دولار من المساعدات المباشرة، وهو ما يشير بوضوح إلى اعتماد هذه الدول الكلي على المساعدات الخارجية من جهة، إضافة إلى توجيه بعض هذه المساعدات لشؤون أخرى غير ذات صلة بالشأن الصحي الذي صرفت من أجلها المساعدات، الأمر الذي يرجعه المراقبون إلى عدة عوامل منها: ضعف الوعي الصحي في هذه البلدان، وضغوط الفقر والاحتياج، وضعف الموارد الكلية، وتفشي الفساد أحيانا، وكلها أشياء يأمل المراقبون أن تتغير في تقريرهم التالي الذي سيصدر في صيف 2010.

وعلى الرغم من انخفاض معدلات الوفاة المتعلقة بالحمل والولادة على مستوى العالم بنسبة أكثر من 35 في المائة في العقود الثلاثة الأخيرة، ووصول بعض دول العالم الثالث مثل مصر والصين والإكوادور وبوليفيا إلى المعدلات العالمية في هذا الصدد، فإن التقرير يوضح أن الإصابة بالإيدز تظل مسؤولة عن أكثر من خمس حالات الوفاة في الإقليم الأفريقي، الذي تقدر نسبة الوفيات فيه بـ82 في المائة من مجمل الوفيات العالمية، بحسب إحصاءات منظمة «اليونيسيف» الأخيرة.

* أمراض متصلة بالإيدز

* مشكلة أخرى تؤرق أجفان العلماء، تتمثل فيما يحدث أحيانا من تطور لأمراض أخرى جراء الإصابة بالإيدز. فالبحث الذي تناولته دورية الأمراض المعدية الإكلينيكية مؤخرا أشار إلى اكتشاف باحثين من جامعة ليفربول لسلالة جديدة من بكتيريا السلمونيلا (التي تسبب الإسهال والنزلات المعوية غالبا، ولكنها قلما تتسبب في مرض عضال) في المرضى بالإيدز بمناطق الوسط الأفريقي، وأنهم وجدوا آثارا لهذه السلالات من البكتيريا في أماكن لم تكن لتوجد بها من قبل مثل خلايا الدم والنخاع العظمي، مما يعني اكتساب هذه الميكروبات لمهارات جديدة وتحورها بداخل أجسام المرضى إلى مرض قاتل في واحد من بين كل أربعة مصابين، وإمكانية انتشارها وتفشيها بين الآخرين فيما بعد.

وتعلق على ذلك البروفسورة ميليتا غوردون، استشارية أمراض الجهاز الهضمي بالجامعة التي تعمل ضمن وحدة «ويلكام تراست» في مالاوي قائلة: «إن معدل الإصابة المرتفع بالإيدز - وأمراض أخرى - في أفريقيا قد أتاح لبكتيريا مثل السلمونيلا فرصة ذهبية لتحور من قدراتها داخل أجساد لا تمتلك القدرة على المقاومة».

* دراسات جديدة

* وفي سياق مواز، أشار بحث منشور في مارس (آذار) الماضي بدورية «World Journal of Gastroenterology»، إلى ملاحظة العلماء التابعين لمركز القديس لوقا بمستشفى «روزفلت» في ولاية نيويورك إلى أن الإصابة المشتركة بفيروس نقص المناعة وفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي «بي B»، تخفي دلالات فيروس الالتهاب الكبدي وتجعل التحاليل المخبرية عاجزة عن تحديد الإصابة في هؤلاء المرضى لأسباب غير معلومة. ويشير البروفسور جونج هن كيم، أحد أفراد الفريق البحثي، إلى اختفاء دلالات الفيروسات في عدد كبير ممن شملهم البحث ضمن أكثر من 5 آلاف مريض.

نظرية أخرى صادمة خرجت في بداية شهر أبريل عبر دورية «Plos Pathogens» المرموقة، حيث أكد فريق علمي تابع لجامعة ماكماستر الكندية أن النظرية «القديمة» القائلة بأن فيروس نقص المناعة يحتاج إلى جرح في الجلد أو الغشاء المخاطي ينفذ من خلاله إلى داخل الجسم هي نظرية خاطئة، إذ ثبت بالأدلة الدامغة قدرة الفيروس على «شق طريقه» خلال أنسجة سليمة تماما.

ويشير البروفسور تشارو كوشيك، أستاذ الأبحاث الجينية وعلوم الأمراض بالجامعة، إلى أن الفيروس يمتلك القدرة على تقليل تماسك الخلايا مع بعضها، وتماسك ذرات جدار الخلية ذاته، مما يسمح بعبور الفيروس. وهو الأمر الذي يجب أن ينعكس على طريقة تفكير العلماء عند محاولة تصنيع العلاجات أو اللقاحات المضادة للإيدز، وربما يكون ذلك هو سر فشل المحاولات السابقة لإنتاج بعض العقاقير.

* درء الإصابة بالإيدز

* وفي هذا الشأن، نشرت دورية الكيمياء الحيوية في عدد مارس الماضي أن علماء من جامعة ميتشيغن الأميركية اكتشفوا أن مادة الليكتين المستخلصة من الموز قد تصلح للاستخدام كدهان موضعي للوقاية من انتقال الفيروس القاتل، إذ إنها تعرقل من قدرة الفيروس على الالتصاق بالأنسجة الجلدية أو المخاطية، مما يمنع بالتالي من قدرتها على اختراق هذه الأنسجة.

كما يشير بحث آخر نشرته دورية «Plos Pathogens» في عدد أبريل إلى اكتشاف فريق علمي من مؤسسة أبحاث «مونتريال» الكندية لبروتين على سطح الفيروس يعرف باسم Vpu viral protein يغطي الجزء الذي يمكن أن يتعرف عليه الجهاز المناعي البشري في الفيروس، مما يمنع التفاعل معه بصورة كبيرة. ويشير الدكتور إيريك كوهين، صاحب الاكتشاف، إلى أن إيجاد وسيلة لمنع مثل هذه «التعمية الاستراتيجية» قد يسهم في الكشف عن علاج فعال ضد المرض.

كما نشرت دورية «الطب التجريبي» في عدد أبريل بحثا يشير إلى أن إنزيما يدعى phospatidylserine يمتلك القدرة على عرقلة مسار الفيروس نحو الدخول إلى خلايا الدم في إطار التجارب المختبرية. ويوضح البروفسور فيليب ثورب، أستاذ العقاقير الطبية بجامعة ديوك الأميركية، أن نجاح تلك التجارب قد يبشر بقرب الوصول إلى علاج ناجح ضد المرض.

وفي إطار مواز، نشرت دورية «Biophysical» في عدد 20 أبريل الجاري بحثا أجراه علماء من جامعة كاليفورنيا أفاد بأن التغيرات العشوائية التي تقوم بها جينات الفيروس في فترات ثباته (التي يكون فيها كامنا داخل الخلايا) هي ما يعوق عمل العقاقير المضادة، لأنها لا تستطيع التعرف عليه في هذه المرحلة.

ويؤكد الدكتور ليور فينبرج، متخصص التحاليل الميكروبيولوجية والمشرف العام على البحث، أن العمل جار حاليا للتعرف بدقة على العوامل التي تحكم تلك التغيرات وتوقيتها من أجل اختيار الأوقات الملائمة لعلاج الحالات المصابة.

وفي ذات السياق، أفاد بحث مختبري جديد نشر بدورية «PlosOne» إلى إمكان مضاعفة النتائج الإيجابية الخاصة بعقاقير لم تثبت نجاحا فائقا من قبل. فقد اكتشف علماء مركز الأبحاث بجامعة بيتسبرغ الأميركية أن تثبيط نوع من خلايا المناعة، المسؤولة عن تنظيم رد الفعل المناعي للجسم regulatory T cells، أفلح في تحسين النتائج المرجوة من لقاح مضاد للفيروس.

ويوضح البروفسور تشارلز رينالدو، رئيس قسم مكافحة الأمراض بالجامعة، أن هذه الخلايا مسؤولة عن تنظيم رد الفعل المناعي، وبالتالي فهي تحفظ الجسم من حدوث تفاعل مناعي يفوق الحاجة، خشية تفاعل الخلايا المناعية ضد الجسم ذاته. ولذلك فعند تثبيط هذه الخلايا (مخبريا)، فإن «اللقاحات التي فشلت سابقا في مكافحة الفيروس، تتضاعف نتائج نجاحها مرتين على الأقل».

ويؤكد رينالدو أن علاج الإيدز معروف تماما للعلماء، ولكن طرق عمل هذه العلاجات هو الأمر الذي يقتله العلماء بحثا منذ ما يفوق العشر سنوات. فالمرض يصيب الخلايا المسؤولة عن المناعة ويمنعها من أداء دورها المعروف، وهو ما يحاول الباحثون التغلب عليه بإيجاد مسار بديل يتحايل على الفيروس الخبيث، وفي إطار تلك الحرب الطاحنة، لا يسعنا إلا أن نتشبث بالأمل < اختصاصي أمراض النساء والتوليد