اللعقل البشري.. وتدهورها بسبب الشيخوخة

تدير الأعمال اليومية للإنسان مثل «مايسترو» فرقة للموسيقى الكلاسيكية

TT

بينما يسلط العلماء الأضواء على تدهور الذاكرة بوصفه أهم الظواهر التي تحدث في أثناء مرحلة الهرم والشيخوخة، فإنهم يهملون جزءا مهمّا من منظومة الإدراك، وهو «الوظيفة التنفيذية» التي تتأثر أيضا بالهرم والشيخوخة.

إننا ندرك، في غالبيتنا، أن أدمغتنا ليست محصنة بشكل خارق ضد الهرم والشيخوخة، فمع ظهور «طقطقة» في ركبة الرجل، وتساقط شعر الرأس، فإننا نتوقع حدوث بعض حالات النسيان، التي تكون في الغالب على شكل نسيان الأسماء، وكذلك ظهور بعض الإخفاقات المرتبطة بفقدان الذاكرة الطبيعي المرتبط بتقدم العمر (أي أن علينا أن لا نقلق من ذلك، لأن هذا النسيان ليس إصابة بمرض ألزهايمر). كما أن هناك الكثير من الوسائل المجربة للتعويض عن هذه الإخفاقات العقلية، كما سنذكر لاحقا.

* كمبردج (ولاية ماساتشوستس الأميركية): «الشرق الأوسط»*

* ولأننا نقلق أشد القلق عندما نفقد ذاكرتنا، فقد غدا من المفهوم أن يوجه الأطباء والباحثون اهتمامهم إلى الذاكرة. إلا أن التغيرات التي تحدث في الدماغ بسبب التقدم في العمر تؤثر أيضا على عمليات الإدراك الأخرى. وأحد أهم تلك التأثيرات يحدث على الوظيفة التنفيذية «executive function». (الوظيفة - أو الوظائف - التنفيذية، وفقا لتفسير الإنسكلوبيديا الحرة، هي مفهوم يستخدمه الباحثون في علم النفس وعلوم الأعصاب لمنظومة إدراكية تضم مجموعة من قدرات الإدراك التي تتحكم وتنظم القدرات الأخرى للإنسان وسلوكه. وهي ضرورية للتحكم في الأفعال الموجهة والسلوك الموجه، فهي تتحكم في القدرة على المبادرة في تنفيذ الأفعال أو وقفها، ومراقبة السلوك وتغييره عند الحاجة، وكذلك التخطيط لنمط السلوك في المستقبل عند مواجهة الإنسان لمهمات أو ظروف جديدة - المحرر).

إن الوظيفة التنفيذية مصطلح لـ«مظلة»، أي مجموعة، من عمليات التفكير المعقدة المطلوبة لكي يقوم الإنسان بتحديد اختياراته، وخططه، والمبادرة بالأفعال، ومنع الأفعال المندفعة.

وتؤثر الوظيفة التنفيذية على كل جوانب النشاط ابتداء من سرعة المشي ومدى الانتباه، وانتهاء بالصداقة والروابط الأسرية (لأن بعض العوامل الكابحة ضرورية لكي يتم التصرف وفق سلوك اجتماعي مناسب). ولذا فليس من المدهش أن تبين الدراسات أن الوظيفة التنفيذية هي أكثر أهمية من كل أشكال الذاكرة، في إدارة المهمات اليومية لحياة الإنسان المستقلة. وإضافة إلى ذلك فإن اضمحلال الوظيفة التنفيذية لدى كبار السن تبدو وكأنها ترتبط بظهور مخاطر أكبر لتعرضهم لحوادث السقوط على الأرض، وهي الحوادث التي تقود إلى وقوع ضحايا بينهم أو إلى إعاقتهم.

وبالمقارنة مع كل ما كتب حول الذاكرة فلا توجد إلا نصائح قليلة جدا حول درء حدوث تدهور في الوظيفة التنفيذية أو فقدانها، أو التعايش معهما. ويعاني الأطفال المصابون باضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة (ADHD) من ضعف في الوظيفة التنفيذية، وقد درس باحثون احتمال تأثير عقار «مثيلفينيدايت» (methylphenidate) و«ريتالين» (Ritalin) و«كونسيرتا» (Concerta)، الذي يشيع استخدامه لعلاج هذا الاضطراب، على كبار السن لمساعدتهم في التغلب على تدهور الوظيفة التنفيذية لديهم. وقد جاءت النتائج مختلطة، ولذا فإن طريقة المعالجة بالأدوية لا تزال موضع نقاش، ولا يبدو أنها ستحل المشكلة بسرعة (إن كنت من المهتمين بهذه الدراسات فقد وضعنا بعض التفاصيل على موقعنا الإلكتروني: www.harvard.health.edu/healthextra. انظر إلى إصدار مارس/آذار 2010).

والأنباء السارة، بل المثيرة هنا، هي أن قائمة الأمور المفيدة والضارة المؤثرة على الوظيفة التنفيذية تضم الكثير من نفس النقاط العمومية الخاصة بالحفاظ على الصحة. فمثلا، تشمل الأمور المفيدة إجراء التمارين الرياضية لأن الدلائل تشير إلى أن العقول الهرمة تستفيد من الأجسام النشيطة بدنيا! وقد أظهر عدد من تجارب المراقبة العشوائية أن كبار السن الذين يمارسون التمارين الرياضية لديهم وظيفة تنفيذية أفضل مقارنة بالخاملين، وأن تمارين الآيروبيك (التي تحرك القلب) قد تكون مفيدة على وجه الخصوص. كما أظهرت نتائج دراسة صغيرة على 33 شخصا نشرت في مجلة «أرشيفات علوم الأعصاب» في يناير (كانون الثاني) 2010 أن برنامجا مكثفا لتمارين الآيروبيك (لمدة 45 إلى 60 دقيقة أسبوعيا) قد حسن من الوظيفة التنفيذية لدى النساء المعانيات من خلل طفيف في الإدراك (لكن الرجال لم يكونوا محظوظين في هذا الشأن).

أما ارتفاع ضغط الدم فإنه يؤثر على الذاكرة وعلى الوظيفة التنفيذية على حد سواء، إلا أنه يبدو أنه يؤثر على هذه الأخيرة أكثر. ووسائل مكافحة ارتفاع ضغط الدم معروفة، وهي: تقليل الوزن، وتناول الفواكه والخضراوات بكميات أكثر، وتقليل الصوديوم.

كما أن الحرمان من النوم يؤثر على الكثير من قدرات الإدراك، ومنها الوظيفة التنفيذية، ولذا فقد يكون من الواجب عليك أن تضيف مهمة الحفاظ على الوظيفة التنفيذية إلى قائمة العوامل المهمة لتأمين نوم جيد منتظم.

* «مدير الأفكار»

* لقد شبّهت الوظيفة التنفيذية بـ«المايسترو» الذي يقود فرقة للموسيقى الكلاسيكية، فهذا المصطلح يمثل المنظومة الموجودة في الدماغ التي تهتم بتنظيم عمليات الإدراك الأخرى ومكاملتها، بنفس الطريقة التي يقوم فيها «المايسترو» بتنظيم ومكاملة عمل الموسيقيين للعزف معا. إلا أن هذه المقارنة - مثل كل المقارنات الأخرى - لا تتصف بالكمال، كما أن هناك عددا من المقارنات المفيدة أيضا مثل مقارنة الوظيفة التنفيذية بالرئيس، أو المدرب، أو المدير. والمعنى المؤكد هو نفسه مهما كانت المقارنة، إذ يمكن النظر إلى الوظيفة التنفيذية على أنها مهمات من النمط الأعلى، تقوم بإخضاع النشاطات العقلية للإنسان إلى نوع من النظام، أي أنها تلك الأفكار التي تضع كل عمليات الإدراك الأقل شأنا منها تحت إشرافها.

وعندما يتطلب الأمر تعريفا للوظيفة التنفيذية فإن كل باحث وكل كتاب علمي يقدم ذلك التعريف على طريقته المختلفة شيئا ما عن الآخرين، إلا أن قدرات الوظيفة التنفيذية على التخطيط تكون ضمن تلك التعريفات في أغلب الأحيان. ويتطلب التخطيط مجموعة متكاملة من مهمات الإدراك المتشابكة، فعلى الإنسان وضع الهدف، ثم توجيه الانتباه إلى المهمة المطلوبة لتنفيذه وإهمال المهمات الأخرى، ثم تكييف السلوك لتنفيذ الأفعال البناءة، ثم التحكم بالاندفاعات التي قد تعرقل هذا السلوك البناء، وهذا هو جزء يسير من قائمة المهمات فقط! وقد يؤدي النقص في توفير أي من هذه الأمور المذكورة إلى وظيفة تنفيذية سيئة.

وبينما يكون من المفيد لتحقيق بعض الأهداف الفصل بين الذاكرة والوظيفة التنفيذية، فإن هذين الجانبين يتلاقيان، بل يغطي أحدهما الآخر. فمن الواضح مثلا أن بعض أشكال الذاكرة العاملة - خزن المعلومات اللازمة جاهزة لفترة قصيرة - ضرورية للإنسان لكي يخطط. كما تترابط الذاكرة وقدرة تصور الحوادث المقبلة وعنصر التخطيط بعضها مع بعض. وأظهرت نتائج دراسة نشرت عام 2009 أن المصابين بمرض ألزهايمر يعانون من مشكلات تصور الأحداث المقبلة، إضافة إلى مشكلات تذكر الأحداث الماضية.

ويجادل بعض الباحثين بأن الوظيفة التنفيذية هي واحدة من مزايا التطور سمحت للأحياء من المراتب العليا - خصوصا لجنس الإنسان - استقبال المعلومات، والتفكير بها، وثم اختيار واحد من الخيارات المتاحة، بدلا من الاعتماد على النوازع الداخلية وردود الفعل الانعكاسية. أو بمعنى آخر فإن الوظيفة التنفيذية تسمح لنا باتخاذ القرارات بدلا من إبراز ردود الفعل.

ويعتقد الباحثون أن منطقة الدماغ التي تكون مسؤولة أكثر من غيرها عن الوظيفة التنفيذية هي لحاء أو قشرة مقدم الفص الجبهوي (prefrontal cortex)، الذي يقع كما يدل اسمه في مقدمة الدماغ. ويضم لحاء مقدم الفص الجبهوي حزم التلفيف الأمامي (anterior cingulate gyrus)، الذي يربطه الخبراء عادة بحدة الانتباه وبالاستجابة للمحفزات، كما يضم أيضا لحاء مقدم الفص الجبهي البطني (ventral prefrontal cortex) الذي يربطه الخبراء عادة بالممنوعات وبالسلوك الاجتماعي المناسب.

ومع هذا فإن وضع خريطة الوظيفة التنفيذية كلها ضمن منطقة واحدة من الدماغ تبسط الأمور إلى درجة كبيرة. ذلك، لأن عملية معقدة مثل الوظيفة التنفيذية تعتمد على شبكة من الاتصالات إلى مختلف أجزاء الدماغ الأخرى. وإضافة إلى ذلك فإن الدماغ من الناحية التشريحية والوظيفية يعمل بحيث إن حدث وتعطل عمل واحد من أجزائه فإن جزءا آخر منه سيحل محله.

* دراستان جديدان

* إن الوظيفة التنفيذية ليست مفهوما جديدا، إلا أن الباحثين شرعوا في التفكير في توظيفه بشكل منفصل لدى وضعهم لمخططات التجارب وتحليل نتائجها. وهو ما ينطبق خصوصا على أبحاث الهرم والشيخوخة ووظائف الإدراك. وقد استندت إليها مثلا دراستان نشرتا عام 2009 لبيانات جمعت من دراسة تسمى «موبيلايز بوسطن» (MOBILIZE Boston) التي دققت في عوامل الخطر المهددة لحركية المسنين (متوسط أعمارهم 78 سنة) وحوادث سقوطهم على الأرض، برعاية جامعة هارفارد.

وقد قارنت الدراسة الأولى بين مستويات النشاط البدني، التي تم قياسها بواسطة استبيان قياسي، وبين النقاط التي حصل عليها المسنون في سلسلة اختبارات صممت لقياس مختلف جوانب التفكير. وتم تعديل نتائج الإحصاءات بعد الأخذ بنظر الاعتبار عمر الشخص وجنسه ومستواه التعليمي وإصابته بأمراض القلب والأوعية الدموية. وحصل الباحثون على نتائج متوافقة مع الدراسات السابقة، وهي أن الأشخاص الأكثر نشاطا كانوا على الأكثر من الذين يحافظون أكثر من غيرهم على الوظيفة التنفيذية في حالة جيدة. ولكن الباحثين وبعد أن دققوا في نتائج اختبارات الذاكرة لم يجدوا صلة مترابطة بين كل النقاط العالية المسجلة وبين وجود النشاط البدني. ولهذا فقد توصلوا إلى استنتاج قابل للتبديل والامتحان، وهو أن النشاط البدني يمتلك فوائد بيولوجية خاصة للوظيفة التنفيذية، قد لا تكون مفيدة للذاكرة.

واستخدمت الدراسة الثانية وسيلة إحصائية تسمى تحليلات الصنف الكامن (latent class analysis)، التي توزع الأشخاص في مجموعات استنادا إلى وجود خصائص مشتركة لديهم. وفي هذه الحالة درس الباحثون - الذين كان أكثرهم من التابعين لجامعة هارفارد - نتائج الاختبارات القصيرة التي قاست الذاكرة، والوظيفة التنفيذية، وسرعة المشي، والكآبة. وبعد تحليل لنتائج نحو 580 من المشاركين في دراسة «موبيلايز بوسطن» (MOBILIZE Boston) تعرف الباحثون على مجموعة من 99 شخصا - أي نحو 1 من كل 6 أشخاص خضعوا للتحليل - تشاركوا بثلاث خصائص: مشية بطيئة جدا، وكآبة، وضعف شديد في الوظيفة التنفيذية. وكان من الملاحظ أن النقص في الذاكرة لم يكن ضمن هذه الخصائص.

وعندما تعمق الباحثون أكثر وجدوا أن بعض عوامل الخطر التقليدية للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية - ارتفاع ضغط الدم، والسكري - كانت ضمن الخصائص المشتركة لهذه المجموعة. وتكهن الباحثون أن خصائص من المشية البطيئة، والكآبة، وضعف الوظيفة التنفيذية، هي علامة على معاناة الدماغ من «الهرم الوعائي» (vascular aging)، والتراكم البطيء للأضرار الصغيرة على الشرايين الصغيرة المغذية للدماغ. وإضافة إلى هذا فإن الهرم الوعائي له تأثيرات خاصة على جزء الدماغ الذي يتحكم في الوظيفة التنفيذية. وهذا هو الجانب الآخر من الاستدلال الذي قدمته نتائج الدراسة الأولى السابقة التي أشارت إلى أن النشاط البدني قد يقدم فوائد خاصة للوظيفة التنفيذية.

* رسالة هارفارد الصحية، خدمات «تريبيون ميديا»