الجينات.. هل هي مرآة لخبرات الحياة والبيئة؟

حنان الأمومة يحدث تغييرا في صورة الجينات

TT

عكف الباحثون على مدى عقود كثيرة على دراسة التاريخ الجيني الوراثي لعدد من مرضى الأمراض العقلية بعناية، وذلك بحثا عن التغيرات المشتركة التي تجتمع لتسبب مشكلات مدمرة، مثل انفصام الشخصية والاكتئاب. لكن هذه البحوث واجهت معوقات شديدة، فعلى الرغم من أن هذه الاضطرابات تشير إلى احتمال وجود اضطرابات جينية، فإنه لم يتم رصد أي نمط غريب في الجينات، فلا يوجد جين واحد أو جينات تعطي تفسيرا لأكثر من نسبة ضئيلة من هذه الحالات.

لذلك فقد وجه العلماء تركيزهم إلى حقل جديد ناشئ: مبحث «التخلق الجيني العارضي»، أو «التخلق فوق الجيني» epigenetics (وهو مبحث علوم الجينات المتأثرة بالعوامل الخارجية)، الذي يعنى بدارسة تأثير التجارب والخبرات التي يمر بها الإنسان، وكذلك البيئة التي يعيش فيها، على عمل الجينات الوراثية الخاصة به.

* معلومات «فوق جينية»

* الجينات هي أكثر من مجرد آلات لإنتاج البروتينات، تقوم بضخها مثل آلة تصنيع الفشار، فالكثير من هذه الجينات، في الواقع، عبارة عن ملحقات كيميائية، أو مركبات تعمل مؤثرة على جزيء في الحمض النووي الذي يقوم بتنظيم عدة أمور من بينها: متى وأين أو بأي كمية يتم إنتاج البروتينات، من دون تغيير في وصفة إنتاجها.

وتشير الدراسات إلى أن هذه الإضافة إلى الجينات، أي المعلومات فوق الجينية، وهي علامات أو «وسمات» (markers) تتطور كالحيوان الذي يتكيف في بيئته، سواء كانت رحم أمه أو العالم المحيط به، ويمكن أن تحدث هذه العلامات تأثيرا عميقا في السلوك.

وأظهرت الدراسات التي أجريت على الفئران أن حنان الأمومة يحدث تغييرا في صورة الجينات، ويسمح لها بتهدئة استجابتها الفسيولوجية للضغوط، ومن ثم يتم تمرير هذه الحواجز البيولوجية نحو الجيل التالي: فالقوارض والثدييات غير البشرية المستعدة للتعامل مع الإجهادات البيولوجية تميل إلى أن تكون أكثر رعاية لأبنائها، ويعتقد أن نظاما مماثلا يوجد عند البشر.

وقد تعوق الوسمات «فوق الجينية» التطور الطبيعي. وبالمثل، فإن الأبناء من نسل الآباء الذين تعرضوا للمجاعة معرضون لخطر متزايد للإصابة بالانفصام كما تشير بعض الأبحاث.. ربما بسبب «التواقيع» الكيميائية على الجينات التي ينقلها الآباء إلى الأبناء. وقد وجدت دراسة أخرى أجريت مؤخرا دليلا على أنه في بعض الحالات المصابة بالتوحد، فإن الوسمات فوق الجينية أوقفت الجينات التي تكون مستقبلات هرمون الأوكسيتوسين. ويقوم هرمون الأوكسيتوسين بتزييت دوائر الدماغ الاجتماعية، ذات الأهمية البالغة في تدعيم العلاقات؛ ولذا فإن أي خلل دماغي صغير تتعرض له المستقبلات سيؤدي بصاحبه على الأرجح إلى صعوبات في مواقفه الاجتماعية.

* حسم السباق البيولوجي

* وترى مجموعة من الباحثين أن الوسمات الكيميائية تساعد على تسوية السباق البيولوجي بين جينات الأم والأب عند تكون الجنين. وكانت وجهة النظر التقليدية ترى أن جينات الأم والأب تعمل معا متعاونة وتتقاسم واجبات تكوين الكائن الجديد. لكن نظرية جديدة ترى أن جينات الأم والأب تتنافس في ما بينها في الواقع، خلال تشكيل جينوم (الأطلس الوراثي) الجنين الجديد.

وإن حدث وسارت الجينات بانحراف، وكان نمو الدماغ يميل بشدة تجاه الأب، فإن الجنين يمكن أن يصاب بالتوحد، ويرى العلماء أن ميل الجينات بشدة تجاه الأم، يعني أن الطفل سوف يعاني من اضطرابات مزاجية.

وقال توماس لينر، رئيس فرع بحوث الجينوم في المعهد الوطني للصحة العقلية «إن الكثير من النظم التي قمنا بدراستها تشير إلى أن التغيرات فوق الجينية تؤثر على السلوك، وأن هذه التأثيرات يمكن عكسها».

ومن خلال دراسة الجينات على المستوى «فوق الجيني»، يأمل العلماء في اكتشاف الأنماط التي كانت غريبة على مستوى الجينات، وبصورة مثالية يأمل العلماء في العثور على العلاجات المدروسة التي لن تغلق ببساطة الباب أمام الجينات غير الصحيحة، لكنها سوف تحول تدريجيا نشاطها لأعلى أو لأسفل، مثلما هو الحال عند ضبط مؤشر الصوت في الراديو!

* دراسات نفسية وعقلية

* ويرعى المعاهد الوطني للصحة نحو 100 دراسة حول العلاقة بين الوسمات فوق الجينية والمشكلات السلوكية، بما في ذلك تعاطي المخدرات، وإجهاد ما بعد الصدمة، والاكتئاب وانفصام الشخصية، مقارنة بعدد قليل من هذا النوع من الدراسات قبل عقد من الزمن.

وفي دراسة لعدد كبير من المصابين بمرض انفصام الشخصية، يقوم الباحثون في جامعة جونز هوبكنز بتحليل الدم وغيره من البيانات لمعرفة ما إذا كانت هناك علاقة بين التغيرات فوق الجينية والخطر الموروث للإصابة بهذا النوع من الاضطرابات النفسية. وفي بحث آخر، يقوم الباحثون في جامعة تافتس بدارسة جينات الحيوانات التي تعتمد على المواد الأفيونية لمعرفة كيفية تأثير التغيرات فوق الجينية الناجمة عن التعرض للمخدرات على حساسية نسل هذه الحيوانات للمواد الأفيونية.

ويحاول باحثون آخرون تحديد ما إذا كانت مناطق الجينوم التي تظهر عليها تغيرات فوق جينية كبيرة يمكن أن تساعد في الكشف عن الجينات الكامنة التي تسهم في حدوث هذه الاضطرابات النفسية، أم لا.

ويشير الدكتور لينر إلى أن مثل هذه الدراسات مكلفة، وأن ترجمة نتائجها قد تكون صعبة مثل الدراسات الخاصة بالجينات نفسها. لكن الخبراء يتفقون على أن أي جهد لفهم كيف يمكن للجينات أن تؤثر على السلوك يجب أن يأخذ في الاعتبار تجربة كيف تؤثر الخبرات على الجينات.

* خدمة «نيويورك تايمز»