الدهون المشبعة.. العلماء يعيدون النظر في أخطارها

دراسات علمية تقلل من «شرورها»

TT

الدهون المشبعة لا تعتبر من الأغذية الصحية - إلا أنها ليست شريرة تماما! في أغلب الأحوال فإن مبدأ KISS - الذي هو مختصر للعبارة الإنجليزية Keep It Simple، Stupid (اجعلها (الأمور) بسيطة، وغبية.. أي من دون تعقيدات كثيرة) - هو مبدأ منطقي للإرشادات.

إلا أن تبسيط الأمور في بعض الأحيان تكون له عواقب وخيمة.

وهذه هي حالة الدهون الغذائية. ففي عام 1957 عرضت جمعية القلب الأميركية AHA أولى إرشاداتها الخاصة بالنظام الغذائي لقلب صحي. وفي جملة واحدة مفيدة قالت الجمعية إن الغذاء قد يؤثر على حدوث أمراض القلب، وإن محتويات الغذاء من الدهون وكذلك كمية السعرات الحرارية في كل الغذاء الذي يتناوله شخص ما، مهمة. ولذا ينبغي على الناس تناول كميات أقل من الدهون المشبعة وكميات أكثر من الدهون غير المشبعة.

ومع هذا قرر الخبراء في نهاية الستينات من القرن الماضي، أن المواطنين الأميركيين لم يتمكنوا من فهم هذه الرسالة حول الدهون الجيدة والدهون الضارة.. ولذا وجهوا رسالة إليهم تقول: «الدهون ضارة».

«طيف» الدهون الغذائية

* إلا أن الأبحاث المتوفرة لأعوام الستينات من القرن الماضي لم تدعم ضرورة وضع أي إرشادات شاملة ضد تناول الدهون، كما لم تدعم أي من الدراسات الكثيرة التي تبعتها، وضع مثل هذه الإرشادات المضادة للدهون.

والأمر الذي نعرفه اليوم هو أن الدهون الغذائية تقع ضمن طيف عريض، إذ ينبغي «الامتناع بتاتا عن تناول» الدهون المتحولة trans fats الموجودة عند إحدى نهايتي هذا الطيف، بينما يطلب منا «التقليل من» الدهون المشبعة saturated fats التي تقع في وسط الطيف، ويطلب منا أيضا التأكيد على تناول الدهون غير المشبعة unsaturated fats التي نقع في النهاية الجيدة الأخرى من الطيف.

ولحين حلول الوقت الذي ظهرت فيه الدهون المتحولة تحت «أشعة الرادار» الصحي، ظلت الدهون المشبعة تحتل موقع الدهون «الضارة».

إلا أن التحليلات الحالية تنقي هذه الدهون المشبعة من الآثار التي لوثت سمعتها.

أفكار جديدة

* يشكل نحو 10 من أنواع الدهون المشبعة الموجودة في الغذاء اليومي، أحجار الأساس المهمة لبناء الكثير من الأجسام الحية، ومستودعا للطاقة فيها. ويحصل الأميركيون على أغلب الدهون المشبعة من اللحوم الحمراء، ومنتجات الألبان، والزيوت الاستوائية مثل زيت النخيل وزيت جوز الهند.

وتستند الدعاوى الموجهة ضد الدهون المشبعة إلى أن تناول كميات كثيرة منها ومن الكولسترول، مع كميات قليلة من الدهون غير المشبعة، يزيد من كمية الكولسترول منخفض الكثافة LDL الذي يدور في مجرى الدم. وتتراكم دقائق الكولسترول منخفض الكثافة على جدران الشرايين الدموية، وتتحول إلى ترسبات قد تؤدي إلى تضيق الشرايين التاجية، الأمر الذي يسبب آلام الذبحة الصدرية. بل والأسوأ من ذلك أن تلك الترسبات قد تتفجر مسببة نوبة قلبية.

وإليكم سلسلة الأسباب والنتائج التي تتحقق، ولكن في حدود معينة:

* إن العلاقة بين تناول الدهون المشبعة وكمية الكولسترول LDL الضار الموجود في مجرى الدم تصبح ضبابية، عندما تقل نسبة الدهون المشبعة المتناولة عن 10 في المائة من كل مجموع السعرات الحرارية المتناولة عن طريق الغذاء.

* لا توجد الدهون المشبعة لوحدها في فراغ. ولذلك فإن كيفية تأثيرها على الجسم تتأثر حسب كميات الكولسترول والدهون غير المشبعة الموجودة في الغذاء المتناول، إضافة إلى تأثرها بممارسة التمارين الرياضية، والعوامل الجينية، وعوامل أخرى.

* إن تقليل تناول الدهون المشبعة في الغذاء يعني إضافة غذاء آخر. وقد يكون لهذا الغذاء الآخر تأثير هائل - سواء كان جيدا أو سيئا - على صحة القلب والأوعية الدموية.

نظرة جديدة

* وتعرض 3 تحليلات نشرت في مجلة «كلينيكال نوترشن» الأميركية عامي 2009 و2010 نظرة جديدة على الدهون المشبعة.

في واحد من التقارير، جمع الباحثون في جامعة كاليفورنيا في ديفيس وفي كلية الصحة العامة بجامعة هارفارد، بيانات من نحو 24 دراسة طويلة المدى حول الغذاء وأمراض القلب. وشملت تلك الدراسات 350 ألف رجل وامرأة تتبعهم العلماء على مدى 23 سنة.

وظهر أن الأشخاص الذين تناولوا كميات أكثر من الدهون المشبعة يوميا لم يكونوا ليصابوا بأمراض القلب أو السكتة الدماغية أكثر، مقارنة بإصابة الأشخاص الآخرين الذين تناولوا كميات أقل من الدهون المشبعة يوميا، بهذين المرضين.

أما التقريران الآخران فقد قدم أحدهما نفس الفريق من الباحثين الأميركيين، فيما قدم التقرير الآخر فريق من الباحثين في مستشفى جامعة آرهاس الجامعية في الدنمارك. وقد دقق العلماء في الآثار المترتبة على تعويض الدهون المشبعة بمواد غذائية أخرى، مثل استبدالها بتناول الكربوهيدرات.

وقد وجد كلا الفريقين أن تقليل تناول الدهون المشبعة وزيادة تناول الدهون غير المشبعة في نفس الوقت، جيد لصحة القلب والأوعية الدموية (كما قالت بالضبط جمعية القلب الأميركية عام 1957)، إلا أن تناول الكربوهيدرات المصفاة النقية بدلا من الدهون المشبعة كان ضارا.

ويؤدي تقليل تناول الدهون المشبعة وتناول الكربوهيدرات أكثر، إلى تغيير خليط الكولسترول LDL الضار، والكولسترول العالي الكثافة HDL (الحميد)، والشحوم الثلاثية، ما يولد وضعا سيئا أكثر لجدران الشرايين يقود بدوره إلى احتمالات حدوث النوبة القلبية.

رسالتان مهمتان

* وتحمل هذه الدراسات رسالتين مهمتين: الأولى أن تناول الدهون المشبعة باعتدال (بنسبة 10 في المائة أو أقل من كل السعرات الحرارية المتناولة يوميا)، ليس له إلا تأثير طفيف على أمراض القلب.

أما الرسالة الثانية فهي أن التوقف عن تناول الدهون المشبعة واستبدالها بالدهون غير المشبعة أو الحبوب الكاملة مسألة مفيدة للقلب والشرايين، بينما يقود استبدالها بالكربوهيدرات السهلة الهضم، إلى العكس أي أنها غير مفيدة للقلب.

الدهون وتناولها

* إن الغذاء المليء بالدهون المشبعة إذن غير صحي البتة. إلا أن هذا يجب أن لا يحول الدهون المشبعة إلى أغذية «شريرة»، كما يجري الحديث عنها في أغلب الأحيان. وبمقدورها أن تحتل موقعها في الغذاء، إن تم تناولها بكميات معتدلة.

من الحكمة تحديد الكميات المتناولة من الدهون المشبعة، إلا أنه ينبغي عدم الوقوع في هوس استبعادها كلية من الغذاء.. لأن ذلك مستحيل إذا عرفنا أن مصادر ممتازة من الدهون المشبعة مثل زيت الزيتون وزيت الكانولا يحتويان على دهون مشبعة أيضا.

ويمكن أن يكون التحديد بنسبة 10 في المائة أو أقل من كل كمية السعرات الحرارية اليومية. وهذا يعني مثلا تناول 200 سعرة حرارية للشخص الذي يتناول 2000 سعرة حرارية يوميا، أي ما يقابل نحو 23 غراما من الدهون المشبعة. ويبلغ هذا 8 مسحات من الزبدة أو 3 أكواب من الحليب كامل الدسم.

ولكن قصة الدهون المشبعة لا تنتهي هنا، إذ إننا ربما ما زلنا في منتصفها. لكن على الأغلب، فإن الأبحاث المقبلة ستتعرف على أنواع من الدهون المشبعة ربما تكون محايدة في تأثيرها على القلب - وأخرى ربما مفيدة أيضا له - وثالثة مضرة بالتأكيد للقلب.

* رسالة هارفارد للقلب، خدمات «تريبيون ميديا»