«التأتأة».. تسبب الإحراج

تنتج عن مزيج من الجينات وجوانب فسيولوجية عصبية وأسرية

TT

أكثر ما أتذكره في ما يتعلق بمشكلة «التأتأة» (التلعثم في الكلام) (stuttering) التي أعاني منها ليس الشلل الذي يصيب أحبالي الصوتية، ولا زيغ بصري، ولا التجربة القاسية التي أواجهها يوميا عند الحديث مع الآخرين، ولا الأصوات المرتدة من الجزء الخلفي من أسناني مثل العملات المعدنية التي تحاول الهروب من حافظة العملات. وهذه هي آليات «التأتأة»، أو تلك الحقائق التي يتعين على المتلعثمين أن يغيروا توقعاتهم وآمالهم في الحياة تبعا لها. ولكن أكثر ما يهم في موضوع «تأتأتي» أو تلعثمي، هو الدور الغريب الذي تلعبه هذه المشكلة في تحديد إحساسي بالآخرين.

وقد غدا تلعثمي مقياسا لمدى الثقة التي أشعر بها أثناء وجودي مع الآخرين. وهل أعتبرهم ودودين وصبورين وعطوفين؟ أم قاسين وعدوانيين؟ إلى أي مدى ابتسامتهم كانت حقيقية؟ هل يعجبون بمواهبي، أم يشعرون بالقلق من صفاتي غير اللائقة؟ وبهذه الطريقة قسمت جميع الناس إلى صنفين، أولئك الذين قد أتلعثم أثناء وجودي معهم وآخرين أحاول أن لا أتلعثم أثناء وجودهم حولي.

* ظهور «التأتأة»

* وقد بدأت مشكلة «التأتأة» تظهر معي في ظل ظروف نموذجية: إذ كان عمري 4 سنوات؛ وكان أبي يتلعثم منذ مرحلة البلوغ، وفي ذلك الوقت، حدثت مشكلات كبيرة ومريرة بين والديّ، بدا أن الأمور متجهه إلى دمار مؤكد للعلاقة بينهما وانفصالهما.

وقد سجلت والدتي مشكلات «التأتأة» التي أواجهها في مذكراتها بتاريخ 26 سبتمبر (أيلول) 1981: «خلال الأسابيع الماضية كان دانيال يقوم بقضم أظافره، كما كان يتلعثم أثناء الكلام». وبتاريخ 8 يوليو (تموز) 1982: «وبعد مكالمة هاتفية (مع والده) كان دان يتلعثم بصورة ليست بسيطة، ويواجه صعوبة في نطق الكلام».

وقد كان والدي يعاني من نوع مختلف من «التأتأة» أو اضطرابات النطق، حيث كان يعاني من النوع الأكثر تقليدية، كما يصفه أخصائي علاج مشكلات النطق والتخاطب، إذ إنه كان يكرر المقطع الأول من الكلمة، على سبيل المثال كلمة مثل «باس» ينطقها هكذا «ابا - ابا - اباس». لكن النوع الذي أعاني منه كان أقل حدة مما كان يعانيه الملك جورج السادس (والد إليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا الحالية)، كما صوره كولين فيرث، في الفيلم الجديد «خطاب الملك» (The King›s Speech).

إن أحبالي الصوتية قد تعوق وتمنع خروج أصوات معينة. كما أجد صعوبة في نطق الحروف الثابتة، مثل: كيه (k) ودي (d) وسي (c) وجي (g).

وقد ساعدتني سنة كاملة من العلاج الذي تلقيته أثناء فترة طفولتي على تطوير مجموعة من الأدوات للتغلب على هذا المشكلة، أو على الأقل إخفائها بصورة جيدة تساعدني على خداع معظم الناس لمعظم الوقت. ومثل الآخرين الذين لديهم مشكلات في النطق، فقد طورت بعض المهارات اللفظية.

إن نطق جملة كان مثل رفع اليدين والركض في ملعب الرغبي: سوف أبحث عن 5 أو 10 كلمات لصياغة هذه الجملة، وإذا وجدت كلمة، مثل «كامبنغ» سوف أسقطها وأعاود البحث عن كلمة أخرى أقل مقاومة، وقد اخترت تعبيرا أكثر حرفية للتعبير عنها وهو: «أريد أن أنام في الغابة في عطلة نهاية الأسبوع».

ولكن لم تكن استراتيجيات الإحلال والإطناب مضمونة النتائج على الدوام. لكن معضلة «التأتأة» كانت متربصة بي دائما. وعندما بلغت الرابعة عشرة من عمري، كنت أود أن أطلب من زميلة لي في المدرسة أن ترقص معي. ولسوء الحظ، كان اسمها كيم. واحتفظت بهذه المعلومة لعدة أيام، في انتظار الوقت الذي تصبح لدي الشجاعة الكافية لمحادثتها. وأخيرا، عندما اتصلت بها ردت والدتها فسألتها قائلا: «أهلا، كنت أتساءل عما إذا كانت أههههه... إذا أهههه... إذا...»، وكنت أريد تجاوز عقبة حرف الكية، ولكن ما استطعت فعله هو الحديث بسرعة ومن دون أخذ نفس لأن حرف الكية كان متشبثا بسقف فمي كتشبث القطة فوق الشجرة.

لذلك تنفست بعمق، وقلت في مرة واحدة: «أهلاأتساءلعماإذاكنتكيمموجودة»، وردت والدتها وهي تضحك قائلة: «كيم؟ هل أنت متأكد؟» وبنفس عميق آخر قلت: «نعمكيم».

وعندما تناولت كيم الهاتف، أخبرتني أن والدتها كانت تضحك لأنها كانت تعتقد أنك قد نسيت اسم من تريد محادثته. وضحكت معها، بطبيعة الحال، لأنه كان من الأفضل بالنسبة لي أن أنسى اسم الفتاة التي أحبها بدلا من أن ينظر إلى على أنني أبله.

* أسباب «التأتأة»

* ويعاني نحو أكثر من 3 ملايين أميركي من مشكلة «التأتأة» أثناء الكلام، وهو ما يمثل نحو واحد في المائة من تعداد سكان الولايات المتحدة. والذين يعانون من هذه المشكلة من الذكور أكثر بنحو أربعة أضعاف من مثيلاتهم من الإناث. ويعاني نحو خمسة في المائة من الأطفال الذين لم يصلوا إلى سن الالتحاق بالمدارس من مشكلة «التأتأة» كمشكلة نمو عادية ويتم تجاوزها مع مرور الوقت. وعلى الرغم من عدم وجود سبب واحد وراء هذا الأمر، يعتقد أن اضطراب «التأتأة» ينتج عن مزيج من الجينات (نحو 60 في المائة من أولئك الذين «يتأتأون» لديهم أقرباء يعانون من هذا المشكلة)، وديناميات فسيولوجية عصبية وأسرية، مثل إرث الأسرة من الإنجازات الكبيرة.

و«التأتأة»، مثل الأمراض الغامضة الأخرى، لها ماض متقلب، حيث تم رصدها ودراستها قبل أكثر من 2000 سنة، وتتابعت النظريات الغريبة الساعية إلى تفسيرها. ويرى أرسطو، الذي كان يعاني من نفس المشكلة، أن لسان الشخص الذي يتلعثم يكون ثقيلا وسميكا لدرجة تعوقه عن «مواكبة خياله». كما زعم غالينوس، الطبيب اليوناني، أن لسان المتلعثم رطب جدا، واقترح سيلسوس الطبيب الروماني غرغرة الفم وتدليك اللسان الضعيف لتقويته. وقد صل أوج هذا الجدل في القرن التاسع عشر، عندما قرر يوهان فريدريش ديفنباخ، جراح التجميل البروسي، أن ألسنة الذين يعانون من هذه المشكلة غير عملية أيضا، وقرر في الكثير من الحالات قطع جزء من اللسان.

ولم تتخذ خطوات جادة لفهم وعلاج مشكلة «التأتأة» حتى أوائل القرن العشرين. ويميل أخصائي علاج مشكلات النطق إلى التركيز على المراهقين لأن فترة المراهقة هي التي تشهد تطور المشكلة. وقد روج ألبرت ميرفي، أخصائي علم أمراض التخاطب في جامعة بوسطن، نظرية نفسية، مما يوحي بأن جذور «التأتأة» «تكمن في العلاقات الشخصية المتوترة واهتزاز ثقة المريض في نفسه».

* «نظرية نفسية»

* وهذه النظرية هي في قلب فيلم «خطاب الملك». وقام كاتب السيناريو، ديفيد سيدلر، الذي يعاني نفسه من مشكلات في النطق، بالتركيز على عملية بناء الثقة التي يقوم من خلالها أخصائي التخاطب ومشكلات النطق الأسترالي بتسجيل من خلال الملك جورج ذكريات طفولته. ويروي الملك، خلال المشهد الرئيسي، العذابات التي لاقاها خلال طفولته والتي تسبب له فيها أخوه الأكبر، إدوارد، وكذلك مشكلة التألم من السخرية اللاذعة وسوء المعاملة من قبل المربية الملكية.

ويمكن أن تكون هذه النظرية النفسية جذابة - لقد جلب والدي الضرر لي! - لكن هذه النظرية لم يعد لها جاذبية حاليا، واستبدلت بها تقنيات مثل تمارين التنفس والارتداد السمعي المتأخر، التي تستخدم أجهزة المساعدة على السمع والتي تعيد كلام المريض عليه.

وبالنسبة لمن يعاني من مشكلات في النطق، فإن كل موقف يواجه فيه مشكلة في النطق يأخذ جزءا من ثقته ليتركه بإحساس مستمر بالإحراج وكراهية النفس. والطفل الذي يعاني من «التأتأة» أثناء الكلام قد يكون متفوقا في الدراسة وقارئا جيدا ولاعبا ماهرا ولديه قدرة كبيرة على تطوير صداقات، لكن يظل ما يسيطر على ذهنه هو «التأتأة». وكل حادث تلعثم يزيد من أثر الإحساس الداخلي بالإخفاق - «الكل يعتبرونني أبله» - مما يجعل المحاولة القادمة للتحدث أكثر صعوبة.

لكن، النجاحات الصغيرة.. حتى لو نطق جملة واحدة بطلاقة - تكون أيضا مشجعة، لأن الذي لديه مشكلة في النطق لديه عزم قوي. ويقول: «سأظل أحاول التحدث لأنني قد أكون غدا قادرا على ذلك».

وعندما كان عمري 8 سنوات قامت أمي بعرضي على طبيب مختص بالتخاطب. وكان هذا الطبيب حنونا وصبورا، وقمت بزيارته عدة مرات لأتحدث معه عن الأمور التي أحبها، مثل لعب كرة القدم ومشاهدة الأفلام واقتناء بطاقات لعبة «البيسبول». وقد علمني أسلوب «تدفق الهواء» لمارتن شوارتز، الأستاذ بالمركز الطبي في جامعة نيويورك.

* تمارين التنفس

* ويعتقد شوارتز أن اضطراب «التأتأة» يحدث بسبب انغلاق الأحبال الصوتية، ولكي أطلقها فإن علي أن أتنفس، بشكل غير مسموع، قبل الكلام. كما أخبرني أنني إذا فعلت ذلك فإن الكلام سيتدفق بانسيابية مني مثل تدفق الهواء.

بيد أن عاما من العلاج لم يجعلني طليق اللسان، ولكن أصبح لدي بعض الثقة وأدوات للتعامل مع مشكلة «التأتأة». وأحد هذه الأدوات ممارسة التحدث بطلاقة من خلال التقليد، سواء من خلال اقتباس الأغاني أو إعادة جمل من الأفلام مع أخي.

وكان الأمر في مجمله يتعلق بتغير إحساسي الداخلي بالإخفاق: نفسيا، يمكننا أن أصبح شخصية مختلفة لا تجهد نفسها في تتبع الصوت. ومن الناحية الفسيولوجية، فإن التقليد يوفر تغذية داخلية مختلفة عن آليات التنفس وإخراج الأصوات؛ أي أن نبرة مختلفة ونطقا مختلفا ووتيرة مختلفة في الحديث يمكنني أن أعتمد عليها في حديثي.

لكن تقنية تحويل النصوص وأسلوب التقليد ليسا مضموني النتائج دائما. وعندما بلغت السادسة عشرة من عمري بدأت مشكلة «التأتأة» في البروز من جديد.

وأثناء حصة دراسة عن النظام القانوني في البلاد، كلفت القيام بدور المدعي العام في محاكمة صورية في قضية اغتيال. وكان علي أن أكتب وألقي البيان الافتتاحي لهذه المحاكمة. وكان فيلم «فيو غود مين» الذي تدور أحداثه عن محاكمة عسكرية، قد بدأ ظهوره في السوق على شرائط الفيديو. وأحببت الطريقة التي كان يتحدث بها كيفين بيكون أمام هيئة المحلفين، وثقته الكبيرة في قضيته ضد المتهمين. لذا؛ تدربت على أسلوبه في الكلام. وكتبت الجملة الأخيرة في البيان الذي ألقاه، في بياني.

وفي صباح اليوم التالي، حاولت عندما صعدت إلى المنصة، الاسترخاء والتنفس، إلا أن حالة من الضغط الشديد أعاقتني عن الحديث، ومنعت عضلات رقبتي وصدري خروج الهواء. ولكن بفضل عنادي أصررت على المضي قدما وتلعثمت في 5 كلمات من الخطاب المكون من 500 كلمة. وعندما وصلت إلى عبارة كيفن بيكون: «هذه هي وقائع القضية وهي لا تقبل الشك»، لم أستطع نطق الجملة.

وبعد بضعة أيام، أوقفتني المعلمة في الردهة، وقالت لي: «دان، لم يكن لدي أي فكرة، لكن كم كان من الشجاعة أن تحاول»! وكانت هذه المعلمة سيدة لطيفة، لكن هذا كان آخر شيء أود سماعه، إن اكتشاف أن المرء يعاني من مشكلة في النطق أمر مهين مثل «التأتأة» نفسها. لقد تم اكتشافي.

وأثناء الدراسة الجامعية، تهربت من إلقاء خطبتين لكن ألقيت اثنتين أخريين. وفي كلية الحقوق تحدثت بطلاقة أمام عدد من التجمعات وفي مناسبات عدة لكني رفضت عرضا للمشاركة في فريق المحاكمات الصورية. وخلال ست سنوات من العمل في مجال الصحافة، بما في ذلك فترة قضيتها في صحيفة «وول ستريت جورنال»، وجدت أن المقابلات الإذاعية أسهل بكثير من المقابلات التلفزيونية.

* مشكلة مستمرة

* وقد أصبح عمري الآن 33 عاما، وأعتقد أنني قد عالجت تقريبا مشكلة «التأتأة». لكن عندما زرت مؤخرا طبيبا متخصصا في علاج مشكلات النطق والتخاطب في نيويورك، وتحدثت معه، قال إنه يختلف معي. وقال إنه لم يلحظ وجود أي مشكلة في النطق خلال كل حديثي معه. ولكن عندما اعترفت له بأنني أقوم بتبديل الكلمات عدة مرات في اليوم الواحد وأفكر في كثير من الأحيان في مشكلة «التأتأة» التي أعاني منها، قال: «إنك تبذل جهدا كبيرا لإخفاء هذا الأمر على أمل أن لا يلحظه أحد. إنك تفكر في هذا الأمر كثيرا. لا يمكن أن نعتبر هذا دليلا على النجاح... فكر في ذلك كثيرا».

وعلى الرغم من كل التعاطف الذي قد يجعل طبيب التخاطب فعالا، فإن هناك شيئا واحدا لا يمكن أبدا أن يفهمه الشخص الذي لا يعاني من هذه المشكلة: نحن إذا خضعنا للعلاج، فإننا نفكر في ذلك. وإذا لم نخضع للعلاج، فإننا أيضا نفكر في ذلك. إن التفكير في هذا الأمر ملازم لنا. سواء كنا معروفين به أو متأقلمين معه أو نسعى من أجل البحث عن أسلوب للتعايش الآمن معه.

* مشاهير «التأتأة»

* جو بايدن نائب رئيس الولايات المتحدة حاليا، والممثلة الشهيرة مارلين مونرو، من بين الأشخاص المتأثرين باضطراب «التأتأة»، كما أن جيمس إيرل جونز، الممثل المعرف بصوته الجهوري، هو أيضا من بين الأشخاص المتأثرين بـ«التأتأة».