إصابة مفاجئة بالسكري وتليف الكبد .. لم يتمكن الأطباء من تشخيصها

ترسب الصبغات الدموية حالة تنشأ عن توارث جينات متضررة

TT

عندما كرر الطبيب المقيم ما أصر الأطباء الآخرون على أنه سبب المرض المفاجئ والخطير لأخيها التوأم، رفضت جانيت جاناس الاعتراف به.

«أعتقد أن عليك إعادة التفكير في حكمك، هذا لأنه لا أساس له من الصحة»، هذا ما ذكرته ممرضة الأطفال الهادئة مسترجعة الأحداث. وأضافت أن الطبيب المقيم أدار عينيه محاولا أن يخفي إحباطه برغبة نسبية في إنكار ما هو بين وواضح.

وقد أخبر الأطباء جاناس وأسرتها الذين اجتمعوا في وحدة العناية المركزة بمستشفي مدينة بورتلاند بولاية أوريغون، في يناير (كانون الثاني) عام 2008، أن أخاها المدعو جيف ويليامز، المصاب بحمى شديدة مصحوبة بهذيان، عانى من إدمان المواد الكحولية. وأخبر الأطباء الأسرة بأنه مصاب بتليف الكبد ونزف داخلي وحماض كيوتيني، وهو حالة مرضية خطيرة، فمن الممكن أن يؤدي نقص الأنسولين إلى حدوث غيبوبة أو وفاة.

وقد رفض الأطباء رأي عائلة ويليامز القائل بأن ابنها مهندس الإلكترونيات، الذي يبلغ من العمر 46 عاما، والذي كان يتمتع بصحة جيدة، كان يشرب الخمر في المناسبات الاجتماعية فقط. وذكرت جاناس أن إحدى الممرضات قالت لها: «إنهم (أي أفراد الأسرة) يستطيعون إخفاء الأمر جيدا».

وذكر ويليامز أنه واجه الموقف نفسه خلال الأسبوعين اللذين أمضاهما في المستشفى وبعد ذلك: «قلت لهم إنني أشرب زجاجة بيرة واحدة في اليوم، وهذا ليس كافيا للإصابة بالتليف الكبدي، لذا فإن هذا ليس هو السبب. فحاولوا تهدئته بقولهم (حسنا)».

في النهاية أصر ويليامز بشدة على تحديد الخطأ الذي أدى إلى هذا التشخيص الذي أثر على أسرته بأكملها، خاصة أخته التوأم.

علامات ضعف البصر

* في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2007، قام ويليامز بزيارة أخته جاناس في منزلها بشمال فرجينيا، وقضى هناك أسبوعا. وذكرت جاناس أن أخاها كثير الحركة في العادة، بدا «أكثر هدوءا» من ذي قبل، وكان يغفو كل ظهيرة، وأرجعت هذا إلى أنه يحاول أن يسترخي في العطلة.

ولكنه عانى من الرؤية الضبابية بعد أسابيع قليلة من عودته إلى بورتلاند. نصحته جاناس بأن يستدعي طبيبه الخاص، ثم حولته منظمة الحفاظ على الصحة (إتش إم أو) إلى اختصاصية بصريات أعطته النظارة الأولى ليرتديها.

وخلال أيام تدهور بصره تماما، طلبت منه جاناس أن يستدعي طبيبه، ولكن بدلا من ذلك ذهب إلى الاختصاصية نفسها. وبسؤالها عن سبب التدهور السريع في الرؤية، أجابته بقولها: «من الممكن أن يحدث هذا»، وذلك قبل أن تعطيه نظارة أكثر قوة، متجاهلة طلبه بتحويله إلى طبيب عيون.

وبعد مرور أسابيع قليلة، اعتقد ويليامز أنه يعاني من نزلة أنفلونزا سيئة، حيث شعر بالإرهاق والألم. وفي 28 ديسمبر (كانون الأول)، كان يتحرك من السرير بصعوبة بالغة، وكان يشعر بالعطش الشديد. وبعد أن «شرب غالونات من الغاتوريد، وهو شراب مزيل للعطش يتناوله الرياضيون»، ذهب إلى طبيب في مركز الرعاية المختص بالحالات الطارئة. كان مستوى سكر الدم مرتفعا بشكل مروع، حيث بلغ 371 مليغراما لكل ديسيلتر، وهو نحو ضعف المعدل الذي يسبب تشخيص مرض السكري. لذا، عاد إلى منزله حاملا علاجا للسكري منحه إياه الطبيب.

وذكر ويليامز أنه بمجرد عودته للمنزل اتصل هاتفيا بابنته التي تبلغ من العمر 20 عاما وتعيش بالقرب منه: «قلت لها إن حالتي سيئة، وإذا لم أتحسن فاذهبي بي إلى المستشفى». في اليوم التالي، وجدته مشوشا وشبه فاقد للوعي، فهرعت به إلى المستشفى. كان مستوى سكر الدم لديه أعلى من 500، وكان بطنه منتفخا بالسوائل، كما تضخم طحاله، وكان يتقيأ مواد تشبه حبيبات البن المطحون، مما يشير إلى حدوث نزف داخلي. وقال ويليامز الذي تم إرساله إلى وحدة العناية المركزة: «أخبروني أنني لو تأخرت 12 ساعة فقط، لكنت ميتا الآن».

تشخيص خاطئ

* وبالبحث عن سبب هذه الأعراض التي تظهر على رجل رياضي نحيف، كان يتمتع بصحة جيدة في الماضي، استبعد الأطباء حدوث عدوى أو الإصابة بالتهاب الكبد الفيروسي «سي» وغيره من الأمراض، واستقروا على ما يظنون أنه السبب الأكثر احتمالا، وهو الإفراط في تناول الكحوليات. واعتبروا هذيانه وارتباكه علامات للانسحاب، كما كان الحماض الكيتوني عبارة عن أحد مضاعفات النوع الأول من مرض السكري، وهو تشخيص غريب لشخص يبلغ من العمر 46 عاما، لأن معظم الحالات تحدث للأطفال والشباب.

وتوضح تقارير المستشفى أن ويليامز ينكر بشدة تناوله للخمور، ولكنه «يذكر أنه تناول الكحول بصورة معتدلة» في شبابه. وذكر أخوه وابنته أنه لا علم لهما بمقدار شربه للكحول، ولكنهم أخبروا أطباء المستشفى أن هناك موزعا للخمور، يدعى كيغيراتور، مقيم في الطابق السفلي من المنزل الذي يقتسمه مع رفاق السكن. وينكر والده بعناد أن ابنه كان مدمنا للكحول وكذلك جاناس.

قالت جاناس: «إننا عائلة مترابطة» ومن غير المعقول أن يخفي أخوها التوأم هذا السر لسنوات. كما أنه شرب البيرة في مناسبات محدودة فقط خلال الأسبوع الذي قضاه في منزلها. وذكرت جاناس أنها عندما أخبرت ممرضة عن شكوكها، كان الرد باردا، وهو الرد نفسه الذي واجهه ويليامز. وقال ويليامز: «لم أتناول الكحول في الأسبوعين اللذين سبقا إدخالي المستشفى، لأنني لم أشعر بأنني على ما يرام. فكيف أكون في حالة انسحاب؟ هذا غير معقول».

على مدار الأشهر القليلة التي تلت هذه الأحداث، تعافى ويليامز ببطء محاولا التكيف مع مرض السكري المعتمد على تناول الأنسولين، وتليف الكبد الشديد. ولإصراره على معرفة سبب مشكلاته الصحية، اتصل بصديقه القديم ديلبيرت سكوت، أخصائي الأمراض المتقاعد. وفي مايو (أيار)، قضى أياما كثيرة في مزرعة يملكها سكوت غرب أوريغون.

قال سكوت: «كنا نناقش تاريخه المرضي ومرض السكري، ولسبب ما، أتيت بـ(دليل ميرك) Merck Manual الخاص بي، وبحثنا عن الأسباب الممكنة لفشل الكبد، واكتشفنا سببا». إن أحد أسباب مرض السكري وتليف الكبد هو داء ترسب الصبغات الدموية hereditary hemochromatosis، أو «السكري البرونزي»، وهو مرض وراثي يجعل الجسم يمتص نسبة كبيرة جدا من الحديد ويخزنها، مما يؤدي إلى تلف الأعضاء.

«السكري البرونزي»

* يتذكر ويليامز قائلا: «عندما قرأت هذا قلت إنه هو سبب مرضي». ولم يكن سكوت مقتنعا، لأن صديقه يفتقد إلى البشرة النحاسية اللون، التي تدل على إصابته بهذا المرض. وذكر سكوت أن «الأشخاص المصابين بهذا المرض الذين رأيتهم كانت بشرتهم مائلة إلى اللون البرونزي».

يعد هذا المرض من الأمراض الوراثية الشائعة في الولايات المتحدة، ويصيب نحو مليون شخص أغلبهم قوقازيون ينحدرون من شمال أوروبا مثل ويليامز. ويرث نحو خمسة من بين كل 1000 شخص في أميركا نسختين من نقص جين «إتش إف إي» HFE gene الذي ينظم الحديد في الجسم، والذي تم اكتشافه عام 1996، معرضين لخطر الإصابة بهذا المرض، حسب ما ذكرته المعاهد القومية للصحة، ولكنهم لن يصابوا جميعا بداء ترسب الصبغات الدموية.

إن الذين يرثون جينا متضررا من أحد الآباء فقط (نحو 10 في المائة من السكان) حاملون لهذا المرض، ومن الممكن أن ينقلوه دون أن يدروا إلى أطفالهم، ولكن احتمالية تطوره لديهم أقل منها لدى الأشخاص الذين يرثون نسختين من الجين المعيب.

وفي مراحله الأخيرة، فمن الممكن أن يتسبب هذا المرض في الإصابة بتليف كبدي ومرض السكري، بالإضافة إلى السكتة القلبية. ويتم اكتشاف هذا المرض من خلال اختبارات الدم، ومن بينها اختبار لقياس الفيريتين ferritin في مصل الدم، الذي إذا ارتفعت نسبته يلزم إجراء اختبار وراثي.

وعلى نقيض معظم الأمراض الوراثية، هناك علاج فعال علاج فعال

* وبسيط لهذا المرض، وهو عبارة عن سحب عينات دم بصورة منتظمة، بمقدار باينت واحد، لتقليل مستويات الحديد، بعد ذلك يتم إجراء فصد وريدي لفحص مستوى الحديد باستمرار.

وقال ويليامز إنه اتصل بمركز رعاية الحالات الطارئة الذي يتعامل معه، على الفور، وطلب إجراء الفحوصات اللازمة. وكان مستوى الفيريتين لديه 2350 نانوغراما، وهو مستوى أعلى بكثير من 300 نانوغرام لكل ملليلتر، الذي يعتبر الحد الأقصى الطبيعي عند الرجال. وعلم، على الفور، أنه ورث نسختين من الجين، وأن افتراضه كان صحيحا.

إن داء ترسب الصبغات الدموية، وليس الإفراط في تناول الكحول، هو سبب سلسلة الأمراض الكثيرة التي ألقت به في المستشفى، وهي تليف الكبد والسكري، المتبوعة بتغيرات مفاجئة في الرؤية، وحتى الأعراض الظاهرة لحالة الأنفلونزا كانت في الحقيقة حماضا كيتونيا.

«كنت في حالة من الغضب الشديد»، هكذا تحدث ويليامز، الذي بدأ على الفور جلسات فصد الوريد الأسبوعية. وسرعان ما اكتشفت جاناس أنها، على غرار توأمها، ورثت نسختين من الجين، وكانت في المراحل الأولى من الإصابة بالمرض؛ وبدأ يتم سحب عينات دم منها أسبوعيا، وبعد ثمانية أشهر هبطت نسبة الفيريتين لديها إلى مستوى آمن. وعلم أخوهما الأكبر أنه حامل للعدوى، تماما كابن جاناس المراهق؛ وكلاهما يخضع لمراقبة.

وقالت لي ريستا، أخصائية دم من نورث فيرجينيا عالجت جاناس قبل تشخيص حالتها: «إن حالتها تتحسن».

وفي مايو (أيار) 2009، حصل ويليامز على سجلات المستشفى الخاصة به. وبداخل تقريره الخاص، كان هناك شيء تركه في حالة من الاضطراب. كان الأطباء في حقيقة الأمر قد اختبروا مستوى الفيريتين في مصل الدم لديه، ووجدوا أنه «صعد بشكل ملحوظ» ليصل إلى 2098 نانوغراما. ولم يطلبوا مطلقا إجراء اختبار جيني، لأنهم اعتقدوا أن هذا المستوى كان النتيجة، وليس السبب، لإصابته بالتليف الكبدي.

وقالت ريستا إنها تجد قرار عدم متابعة النتائج غير الطبيعية محيرا. وقالت: «مع الإصابة بتليف الكبد وارتفاع مستوى الفيريتين لأكثر من 2.000، لماذا لا نجري الفحص؟».

وقال ويليامز إنه لم يتلق مطلقا تفسيرا يعتبره مرضيا. وأشار إلى أنه تراجع عن رفع دعوى تقصير في أداء الواجب المهني، نظرا لأنه لا توجد وسيلة لإثبات أن الخطأ في التشخيص تسبب في إلحاق الضرر به؛ فربما أصيب بالتليف الكبدي قبل خضوعه للعلاج في المستشفى.

وقد حاول أن يوجه غضبه من خلال رفع الوعي بالمرض وتأييد إجراء الفحص؛ واكتشف الكثير من الأشخاص الذين تعامل معهم أن لديهم هذا الجين نتيجة لتجربته، حسب ما أشار. وقال ويليامز إنه يعتني بدرجة مبالغ فيها بنفسه، ويقوم بحقن نفسه بالأنسولين وقياس نسبة السكر في الدم أربع مرات يوميا، للسيطرة على مرض السكري لديه. ويحوم حوله دائما شبح الإصابة بسرطان الكبد، الذي يعتبر نتيجة لتليف الكبد غير القابل للانعكاس. وتطلب الأمر قرابة 18 شهرا من أخذ عينات دم أسبوعيا، إلى أن انخفضت نسبة الحديد لديه إلى مستوى آمن.

«السبب الوحيد في تحسن حالتي هو عدم تحسن حالته»، هكذا قالت جاناس، التي ذكرت أنها تشعر بالذنب تجاهه والعرفان بالجميل له في الوقت نفسه. أضافت وصوتها يخبو: «من دونه، كنت سأسير في طريقي دون أن أعرف حقيقة مرضي. لكنه الألم الذي عانى منه، والذي عانت منه أسرتي».

قال ويليامز: «إنها مثال لما يحدث عندما تسير الأمور على النحو الصحيح، أما أنا فمثال لسير الأمور على النحو الخاطئ». وظل غاضبا من أن الأطباء قاموا بتشخيص حالته باعتباره مدمن كحوليات في حالة إنكار، ويتساءل: ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم يتوصل إلى الاكتشاف الذي قاد إلى الحقيقة؟ قال: «كان المهندس بداخلي هو الذي لم يدع الأمر يمر بسهولة».

هل لديك لغز طبي تم حله؟ أرسل لنا عبر البريد الإلكتروني.

اقرأ الألغاز الطبية السابقة على موقع «wapo.st/medmysteries».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»