كيف يمكن لمخك التنبؤ بالمستقبل القريب؟

توقع الحدث القادم ميزة ضرورية للتكيف

TT

في كل يوم نقوم بآلاف التنبؤات الصغيرة مثل موعد وصول الحافلة، والشخص الذي يدق على الباب، وما إذا كانت النظارة الطبية التي سقطت على الأرض ستنكسر أم لا. وفي دراسة تعد الأولى من نوعها شرع باحثون بجامعة واشنطن في سانت لويس في الكشف عن هذه العملية التي يستطيع المخ التكهن من خلالها.

في الوقت الذي يبدو فيه التنبؤ نعمة بالنسبة إلى التجار والمدربين، يمكن أن يفيد هذا البحث الأشخاص الذين لا يزالون في مرحلة مبكرة من الأمراض العصبية مثل الشيزوفرينيا، أو ألزهايمر، وباركنسون. ويعاني المصابون بهذه الأمراض من صعوبة في تمييز الأحداث في البيئة حولهم عن تيار الوعي العادي (تدفق الأفكار في الوعي) الذي يحيط بهم.

إشارات التنبؤ

* ركّز الباحثون على خلايا الدوبامين في الدماغ المتوسط (mid - brain dopamine system)، وهي خلايا قديمة تطورت مع الزمن وترسل إشارات إلى باقي أجزاء المخ عندما يقع حدث غير متوقع. ووجدوا باستخدام أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي (functional MRI) أن هذه الخلايا تضع شفرة خطأ التنبؤ عندما يجبر المشاهد على اختيار اللقطة التالية في مقطع مصور لأحداث يومية عادية.

إن التنبؤ بالمستقبل القريب ضروري لإرشادنا، وهو يعد من المبادئ الأساسية لأي نظرية من نظريات الإدراك واللغة والمعالجة والتعلم، على حد قول جيفري زاكس، الأستاذ المساعد في علم النفس بكلية الفنون والعلوم بجامعة واشنطن، وأحد المؤلفين الرئيسيين لورقة بحثية عن الدراسة التي تنشر في عدد من مجلة علوم الأعصاب المعرفية.

يقول زاكس في حديث نقلته نشرة «ميديكال نيوز توداي» الإلكترونية: «من المهم أن تكون قادرا على الهروب عندما يندفع الأسد نحوك، لكن الأهم هو أن تستطيع الابتعاد عن الطريق قبل أن يقفز الأسد عليك. إن التطلع إلى الأفق والتنبؤ بالحدث القادم يعد ميزة كبيرة ضرورية للتكيف».

صحة التوقعات

* ويعكف زاكس وزملاؤه على وضع نظرية عن كيفية عمل الإدراك بالتنبؤ. وجوهر هذه النظرية هو الإيمان بأن الجانب الجيد من التنبؤ بالمستقبل هو الاحتفاظ بالنموذج العقلي لما يحدث الآن. ويحتاج هذا النموذج إلى تعديل بين الحين والآخر، خصوصا عندما تتغير البيئة المحيطة على نحو مفاجئ. ويوضح زاكس قائلا: «عندما نشاهد الأحداث اليومية تحدث من حولنا، نخرج بتوقعات وتنبؤات عما سيحدث خلال الثواني المقبلة. وتكون تنبؤاتنا في أكثر الأحيان صحيحة».

وأضاف: «تعتمد صحة التنبؤات على إحساس كل شخص بتيار الوعي السلس. لكن تنبؤاتنا تخطئ في مرات قليلة خلال دقيقة، لذا يحدث انقطاع في تيار الوعي تصاحبه زيادة في نشاط الأجزاء البدائية في المخ المتصلة بخلايا الدوبامين في الدماغ المتوسط التي تنظم الانتباه إلى التغيرات غير المتوقعة والتكيف معها».

استجابات المخ

* وأجرى زاكس تجارب على متطوعين شباب أصحاء، حيث عرض عليهم أفلاما لأحداث يومية عادية مثل غسيل سيارة أو بناء شكل من المكعبات أو غسيل ملابس. يتم مشاهدة الفيلم لفترة ثم يتم توقيفه، ثم يُطلب من المشاركين في التجربة التنبؤ بما يمكن أن يحدث بعد تلك اللحظة بخمس ثوان بعد إعادة تشغيل الفيلم من خلال اختيار صورة توضح ما سيحدث من بين صور متشابهة.

خلال النصف الأول من التجربة كان يتم توقيف الفيلم عند نهاية حدث وبداية حدث آخر. أما خلال النصف الآخر فكان يتم توقيف الفيلم في منتصف حدث. واكتشف الباحثون أن نسبة صحة تكهن المشاركين في منتصف الحدث كانت 90 في المائة، بينما كانت أقل من 80 في المائة عندما يتم توقيف الفيلم عند نهاية حدث وبداية حدث آخر. وكانوا في الحالة الأخيرة أقل ثقة في تكهناتهم.

ويقول زاكس إن «هذه هي المرحلة التي يحاولون فيها التكهن بالمستقبل بأقصى ما أوتوا من قوة. يكون ذلك أصعب في النقطة الفاصلة بين حدثين. وهم يعلمون أنهم يواجهون مشكلة في ذلك. عندما يتم توقيف الفيلم يستهدف المشاركون الوقت الذي يزداد فيه احتمال خطأ تكهنهم، أي أنهم يلاحظون بداية حدوث خطأ في تكهنهم مما يزعزع ثقتهم ويتساءلون ما إذا كانوا يعرفون حقا ما الذي سيحدث بعد ذلك».

كان زاكس ومجموعته حريصين على كيفية عمل مخ المشاركين وهم يحاولون التكهن بحدث جديد. واكتشف زاكس وزملاؤه من خلال تجربة بأشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي وجود نشاط واضح في الكثير من المناطق الوسطى في المخ ومنها نظام إشارات الدوبامين (dopamine signaling system) وفي مجموعة من الجزيئات تسمى (striatum).

ويقول زاكس إن المادة السوداء أكثر أجزاء المخ عرضة للإصابة بمرض باركنسون، وهي ضرورية للسيطرة على الحركة واتخاذ قرارات تتعلق بالتكيف. وكشفت أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي نشاط المخ في هذه التجربة في مرحلتين، الأولى عندما حاول المشاركون الاختيار، والثانية بعد تحديد صحة أو خطأ إجاباتهم.

يشير زاكس إلى أن الاستجابات تظهر في منتصف المخ في الأوقات الصعبة، مثل تجاوز الحد الفاصل بين الحدث والآخر، وعند إخبار المشاركين أن اختيارهم خطأ. ويوضح أن التجارب بمثابة «اختبار جديد» لنظريته المعملية عن التنبؤ، وأمل في استهداف آليات التطوير التي تقوم على التنبؤ التي تساعد في التشخيص المبكر للأمراض العصبية وتوفر وسائل لمساعدة المرضى.