الموسيقى.. ودورها الصحي

كمبردج (ولاية ماساتشوستس الأميركية): «الشرق الأوسط»*

TT

الموسيقى هي إحدى الخصائص المتميزة للجنس البشري. وفي الواقع إن كل المجتمعات، ابتداء من أكثرها بدائية إلى أكثرها تقدما، تمارس تأليف الموسيقى. ويصدق هذا عبر كل التاريخ كما يصدق على مدى حياة الفرد. وسواء كنا نتناغم مع الموسيقى أو لا نتناغم معها فإن كل واحد منا كبشر يغني ويدندن، ويصفق ويتمايل، وقد يرقص ويقفز مع الموسيقى.

ويتسم الدماغ البشري والجهاز العصبي للإنسان بأنهما متصلان بشبكة من الأعصاب تميز الموسيقى عن أصوات الضجيج الأخرى، وتستجيب للإيقاع والتكرار، وللأنغام والألحان.

هل هذه صدفة بيولوجية أم أنها موجهة لغرض ما؟ لا يمكن الإجابة على هذا التساؤل، ومع هذا فإن عددا متنوعا من الدراسات يفترض أن الموسيقى ربما تعزز صحة الإنسان وتعزز أداءه.

* الموسيقى والدماغ

* مثلها مثل سائر الأصوات، تصل الموسيقى إلى الأذن بشكل موجات صوتية. وتلتقط الأذن الخارجية الموجات الصوتية بينما تقوم قناة الأذن بتمريرها نحو طبلة الأذن. وما إن تضرب الموجات الصوتية الطبلة فإنها تأخذ بالتذبذب. وتنتقل تذبذبات الطبلة عبر سلسلة من العُظيمات الصغيرة في الأذن الوسطى حتى تصل إلى العُظيم الثالث وهو العُظيم الركابي (stapes) الذي يتصل بقوقعة الأذن (cochlea). والقوقعة لذاتها هي عالم مشغول تماما، فهي مليئة بسائل يحيط بما يتراوح بين 10 و15 ألفا من الخلايا الشعرية (hair cells) أو (cilia). وترسل تذبذبات العُظيم الركابي تموجات عبر السائل في كل القوقعة. وتقود هذه الموجات السائلة إلى توليد حركات تمايل في الخلايا الشعرية. وبدورها تفرز هذه الخلايا نواقل عصبية كيميائية تقوم بتنشيط العصب السمعي، الذي يرسل تيارات كهربائية صغيرة جدا نحو اللحاء (قشرة المخ) السمعي (auditory cortex) في الفص الصدغي للدماغ (temporal lobe).

ثم ومن هناك تصبح الأمور أشد تعقيدا، إذ تفترض الدراسات التي وظفت جهاز المسح بالرنين المغناطيسي (MRI) وجهاز المسح الطبقي العامل بانبعاثات البوزيترون (PET) أن الشبكات العصبية في مختلف أجزاء الدماغ تتحمل مسؤولية رئيسية لفك رموز مختلف خصائص الموسيقى، وتفسيرها. وعلى سبيل المثال فإن منطقة الفص الصدغي الأيمن حيوية للإحساس بدرجة النغم (pitch) التي تشكل أساس اللحن (melody)، (اللحن هو نسق درجة النغم في فترة زمنية) والتناغم (chord)، (بضع درجات نغم في آن واحد) والإيقاع (harmony)، أو تناغم الألحان (لحنان أو أكثر في نفس الوقت).

كما أن مركزا آخر قريبا مسؤول عن فك رموز جرس الغناء (timbre)، وهي الخاصية التي تسمح للدماغ التمييز بين الأدوات الموسيقية المتنوعة التي تؤدي نفس النوتة الغنائية. ويعالج جزء آخر من الدماغ وهو المخيخ (cerebellum) الإيقاع، بينما تفسر الفصوص الصدغية المحتوى العاطفي للموسيقى.

أما الموسيقى القوية جدا التي تؤدي إلى «اهتزاز البدن» فيمكن لها أن تشغل جزء الدماغ المسؤول عن المكافآت، مثلها مثل أي محفزات مثيرة للمتعة مثل الشوكولاته.

ورغم أن كل شخص سليم الجسم بمقدوره تنفيذ كل المهمات المعقدة المرتبطة بالإحساس بالموسيقى، فإن أدمغة الموسيقيين - إن جاز التعبير - تكون متناغمة أكثر مع تلك المهمات. وعلى الطرف النقيض من ذلك فإن المرضى المصابين بتلف في الدماغ قد تظهر لديهم جوانب ملحوظة في عدم إحساسهم بالموسيقى. وقد لاحظ ذلك الدكتور أوليفر ساكس، وهو باحث في علوم الأعصاب وكاتب، وناقش أنواعا من الاختلافات المدهشة في كتابه «حب الموسيقى» (Musicaphilia).

ورغم أن دراسات علوم الأعصاب الموسيقية تمثل ميدانا متخصصا جدا، فإن الموسيقى لها تأثيرات جوهرية على الكثير من الجوانب الصحية التي تتراوح بين الذاكرة وتحسين المزاج إلى تحسين وظيفة القلب والأوعية الدموية وتعزيز الأداء الرياضي.

* الموسيقى والقدرات الفكرية

* يمثل «تأثير موزارت» (Mozart effect) أكثر تأثيرات الموسيقى المشهورة على نطاق واسع، على الفكر الإنساني. وبعد أن دهش العلماء بالملاحظات التي رصدوها لدى الموسيقيين، الذي ظهر أن الكثير منهم يمتلك قدرات غير اعتيادية في الرياضيات، أخذ باحثون في جامعة كاليفورنيا في إرفين بالبحث في تأثير الاستماع للموسيقى على وظائف الإدراك عموما، وعلى «منطق المكانية والزمانية» (spatial - temporal reasoning) على وجه الخصوص (أي القدرة على تخيل نسق المكان وتسلسل الزمان، والتعامل فكريا معه).

وفي أول دراسة لهم أخضعوا ثلاث مجموعات من طلاب الكليات لاختبار معامل الذكاء (IQ)، بمقارنة أولئك الذين أنصتوا 10 دقائق إلى مقطوعة عزف على البيانو لموزارت في المجموعة الأولى، مع مجموعة ثانية أنصت أفرادها إلى تسجيل للاسترخاء، وأفراد مجموعة ثالثة ظلوا قابعين في جو من الصمت.

وكان موزارت هو الفائز، إذ زاد باستمرار عدد نقاط الاختبار. ثم أخذ الباحثون يدققون في ما إذا كان هذا التأثير خاصا بالموسيقى الكلاسيكية أم أن أي شكل آخر من أشكال الموسيقى سيؤدي إلى تعزيز الأداء الفكري. وقاموا بمقارنة موسيقى موزارت مع الموسيقى المكرورة لفيليب غلاس، وهنا ظهر أيضا أن موسيقى موزارت تساعد أكثر في تحسين منطق المكانية والزمانية، الذي تم قياسه بواسطة تنفيذ مهمات معقدة لقص الورق وثنيه، وتحسن الذاكرة قصيرة المدى التي تقاس باختبار قائمة الـ16 بندا.

كيف يمكن للموسيقى أن تعزز إدراك الإنسان وأداءه الفكري؟ لا يزال هذا الأمر غير واضح، إلا أن الباحثين يتكهنون أن الاستماع إلى الموسيقى يساعد في تنظيم عمل ونشاط الخلايا العصبية في الجانب الأيمن من قشرة المخ، وهي منطقة الدماغ المسؤولة عن الوظائف العليا.

ووفقا لهذه التكهنات فإن الموسيقى - أو على الأقل بعض أنواع الموسيقى - تؤدي عمل «التمارين» التي تسخن خلايا عصبية منتقاة في الدماغ، وتسمح لها بمعالجة المعلومات بكفاءة أكبر.

وهذه النظرية مثيرة للاهتمام، إلا أنه لا يجب الانجراف معها لأن الدراسة الأصلية نفسها أظهرت أن «تأثير موزارت» كان خفيفا (8 إلى 9 نقاط في اختبار معامل الذكاء)، كما أنه كان مؤقتا (استمر لـ15 دقيقة). وبعد مراجعة 16 دراسة حول تأثير موسيقى موزارت على وظائف الإدراك البشري استنتج باحث في علم النفس في جامعة هارفارد أن هذا التأثير كان أكثر ضآلة، إذ لم يصل إلا إلى 2.1 نقطة في اختبار الذكاء.

وهذه نوتة نشاز، إلا أنها لا تمثل مقتلا للنظرية القائلة إن الموسيقى تعزز وظائف الإدراك. وفي الواقع فإن النتائج المتنافرة يجب أن تشكل مقدمة لإجراء أبحاث إضافية. وحتى ولو كان الاستماع إلى الموسيقى لا يؤدي إلا إلى تأثير ضئيل على الإدراك على المدى البعيد، فإن مراجعة أجريت عام 2010 الماضي أظهرت أن تعلم العزف على أداة موسيقية يعزز من قدرة الدماغ على تنفيذ مهمات تشمل المهارات اللغوية الذاكرة والانتباه.

* الموسيقى والتوتر

* في كل مرحلة من التاريخ البشري، وفي كل مجتمعات الكرة الأرضية، سمحت الموسيقى للناس بالتعبير عن مشاعرهم والتواصل مع الآخرين.

ولا تقوم الموسيقى بالتعبير عن المشاعر فحسب، بل إنها تثيرها أيضا. وقد أظهر الكثير من التجارب أن بمقدور الموسيقى تخفيف التوتر الناجم عن المرض أو الجراحة، فقد توصلت دراسة في نيويورك على المرضى الخاضعين لعمليات جراحة إعتام عدسة العين (cataract) إلى أن الاستماع إلى الموسيقى قد خفض قراءات ضغط الدم بدرجة ملموسة، بينما أظهرت دراسة أخرى على الخاضعين لعمليات الجراحة البولية الذين تم تخديرهم جزئيا بحقنة في الظهر، أن بوسع الموسيقى تقليل استخدام محاليل التهدئة الإضافية في حقن التخدير التي تعطى في الوريد، إذ استهلك المستمعون إلى الموسيقى جرعات أقل منها. وظهر أن المستمعين للموسيقى قلّ لديهم ضغط الدم ومعدل ضربات القلب، كما قلّ مستوى هرمون الأدرينالين، ومستوى مادة السيتوكين إنترلوكين - 6 (cytokine interleukin - 6) التي تزيد الالتهابات.

ووجدت دراسة إيطالية على 24 متطوعا من الأصحاء، نصفهم كانوا من الموسيقيين، أن سرعة إيقاع الموسيقى (tempo) كانت مهمة أيضا، فإن كانت الموسيقى البطيئة أو الموسيقى الشاعرية تولد الشعور بالاسترخاء فإن الموسيقى ذات الإيقاع السريع تولد حالة من المشاعر المثيرة، التي يعقبها الاسترخاء حال توقف تلك الموسيقى، كما يدل على ذلك انخفاض ضغط الدم ومعدل ضربات القلب إلى مقادير أقل من المعتاد.

وقد وجد الكثير من الدراسات التأثير الجيد للموسيقى على المزاج، وإمكانية علاج الكآبة بالموسيقى، إلا أن الموسيقى لم تتمكن من تعويض الأدوية. كما ظهر أن تعويد كبار السن المعرضين للسقوط على الرقص مع الموسيقى يقلل من حوادث سقوطهم على الأرض. وكذلك ظهر دورها في إعادة تأهيل حركة الأشخاص المصابين بسكتة دماغية، وتحسين المؤشرات الصحية للمصابين الناجين من النوبة القلبية.

*رسالة هارفارد «مراقبة صحة الرجل»، خدمات «تريبيون ميديا».